تجسس على أوباما ودعم لترامب..

بلاك كيوب.. موساد خاص ينقّب عن الأصول الإيرانية

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

واشنطن

لم يكن اسم بلاك كيوب (المكعب الأسود) معروفا في مجال الاستخبارات والشركات الأمنية الخاصة، إلى أن ظهرت مؤخرا تقارير أميركية تتحدث عن دور شركة أمنية إسرائيلية خاصة تم استئجارها بغرض تشويه سمعة موظفي إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذين لعبوا دورا أساسيا في التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني.

وأثارت هذه التقارير الجدل حول هذه الشركة التي أنشئت سنة 2010 على أيدي آفييانوس ودان زوريلا، والتي وصفتها صحيفة “هارتس” الإسرائيلية بأنها موساد خاص.

وكشفت هارتس في تقرير حديث عن تفاصيل كثيرة عمّا قامت به بلاك كيوب من عمليات تتجاوز ما يبدو ظاهريا التجسّس على إدارة أوباما ودعم موقف دونالد ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي إلى مستوى وصل حد الحديث عن مساعدة إيران في تحويل الأموال في انتهاك للقوانين الأميركية أو الدولية.

واتخذت الصحيفة الإسرائيلية كمثال عن الدور الذي لعبته كارولين تيس في التجسس على شركة بلاك كيوب، التي عملت في الحكومة الأميركية مساعدة لزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ هاري ريد، ثم مساعدة لسفيري الولايات المتحدة في الأمم المتحدة سوزان رايس وسامنثاباور. وفي العام 2014 تم تعيينها مديرا للشؤون التشريعية في مجلس الأمن القومي في ظل حكم باراك أوباما.

وخلال وجودها في هذا المنصب، نسقت تيس جميع وجهات النظر التشريعية المتعلقة بخطة العمل الشاملة المشتركة للاتفاق النووي الإيراني ومصادقة مجلسي الشيوخ والنواب عليها.

وكشفت صحيفة هارتس عن أن تيس كانت هدفا لشركة المخابرات التجارية الخاصة بلاك كيوب خلال التحقيق الخاص الذي أجرته الشركة في ما يتعلق بأفراد إدارة أوباما. ويعتمد التحقيق الذي أجرته الصحيفة الإسرائيلية على مصادر تعمل أو عملت مع شركة المخابرات، ووثائق داخلية كشفت العملية الشاملة والواسعة التي أجرتها بلاك كيوب ضد كبارة المسؤولين بإدارة أوباما، بالإضافة إلى هدفها وممولها.

وفي شهر مايو الماضي، نشرت صحيفة “الأوبزرفر” ومجلة “نيويوركر” مقالات عن عملية تجسّس ضد مسؤولين كبار بإدارة أوباما. وفي محور المقالات كان نائب مستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية بن رودس ومستشار الأمن القومي لنائب الرئيس كولين كاهل. واتصلت بلاك كيوب بالاثنين من خلال أشخاص مختلفين متخفيين لمناقشة مسألة إيران. لكن العملية فشلت واكتشفت. لكن هناك عملية أخرى كان يفترض أن تُوقع بتيس.

استدراج الهدف

الجزء الأكثر صعوبة في عمل بلاك كيوب هو استدراج الهدف لعقد اجتماع معه. ومع الوضع في الاعتبار طبيعة الوظيفة، فإن رجال الأعمال الأثرياء ومديري الشركات، وكبار المسؤولين في الحكومات يشكّون بصورة كبيرة في أي اجتماع محتمل مع أي شخص غريب.

وتشير هارتس إلى أن بلاك كيوب قامت بإعداد وثيقة تتعلق بكل هدف من أهدافها. ورسمت هذه الوثيقة خارطة لتاريخهم المهني ومقار إقامتهم وآبائهم، وأخواتهم وأزواجهم/ زوجاتهم وأطفالهم وهواياتهم، وذلك لتحديد نقاط الاهتمام التي يمكنهم من خلالها بدء المحادثة.

أي نسب مئوية حتى ولو كانت صغيرة من الأموال الإيرانية المجمدة في أجزاء مختلفة من العالم، يمكن أن تدر أرباحا محتملة تقدر بالملايين من الدولارات، مقابل تكلفة لا تذكر بالنسبة لشركات المخابرات التجارية مثل بلاك كيوب المتخصصة في تحديد أماكن هذه الأصول في أنحاء العالم

وكشف البحث عن أن هواية تيس كانت الغوص. وعثرت الشركة على صورة لها لرحلة غطس قامت بها إلى كوبا في عام 2016 على صفحة نادي غوص للسيدات تحمل اسم مغنيات الغوص “دايفينجديفاس” على موقع فيسبوك. وعرض موقع آخر تقارير كتبتها تيس عن مواقع غوص في أنحاء العالم. وتوصلت بلاك كيوب إلى نتيجة مفادها أن الطريقة الأكثر فاعلية للوصول إلى تيس هي من خلال الغوص.

وقامت الشركة بإنشاء نطاق موقع إلكتروني لمركز غوص في الأرجنتين تحت اسم نادي محيط بورتو الجديد “نيو بورتو أوشن كلوب”. وكان العنوان الذي وقع عليه الاختيار، 557 بوشار، وهو مبنى إداري يطلّ على الخليج في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس.

منظمة تجسّس

تنقل هارتس عن موظفين سابقين بالشركة قولهم إنها تعمل مثل منظمة تجسّس سرية. ويرجع هذا جزئيا إلى الحاجات القائمة، وفي جزء آخر لعرض صورة محددة. فأقفال أبواب المكاتب تُفتح ببصمة الإصبع.

ويتميز مكتب المدير العام زوريلا بوجود مجموعة من أغلى زجاجات الويسكي والكونياك في العالم، من أجل الضيوف. وهذا ليس عرضيا: فغرفة الاستقبال في وكالة المخابرات الإسرائيلية “الموساد” في غليلوت، شمال تل أبيب، تُحيي الزوار بنفس الحانة (البار) وتتميز بتقديم الأفضل في العالم الذي يمكن تقديمه. وترغب بلاك كيوب في أن تمنح زبائنها، الذين يحضرون إلى أي غرض كان، الانطباع بأنهم داخل موساد خاص.

ويحاكي هيكل الشركة وكالات المخابرات الإسرائيلية، حسب ما يقول موظف سابق، “فهناك فرق مختلفة، وكل فريق مسؤول عن هدف مختلف”.

بلاك كيوب تحب أن تجعل من نفسها أذكى شركة مخابرات تجارية. ففي الوقت الذي ينخرط فيه منافسوها في تحديد موقع الأصول بالطريقة الكلاسيكية، تحاول بلاك كيوب الوصول إلى مسؤولين كبار للكشف عن الأصول الإيرانية
بلاك كيوب تحب أن تجعل من نفسها أذكى شركة مخابرات تجارية. ففي الوقت الذي ينخرط فيه منافسوها في تحديد موقع الأصول بالطريقة الكلاسيكية، تحاول بلاك كيوب الوصول إلى مسؤولين كبار للكشف عن الأصول الإيرانية

ويضيف “كمحلل، فأنت لا تعرف مسؤولياتك نفسها، فأنت تستلم معلومات أساسية متخصصة (وهو مصطلح مأخوذ مباشرة من وحدات المخابرات)، تُخبرك فقط بالمعلومات التي نحتاج للحصول عليها. على سبيل المثال، ماذا سيقول زيد عن عمر وبعد ذلك، فأنت تعتقد “إذا كانت هناك حاجة للحصول على هذه المعلومات، فمن سيعرفها؟ وما الذي دفعه ليقول هذا الكلام؟، لكننا كمحللين لا نعرف من هو الزبون”.

ومع الوضع في الاعتبار أن الكثير من عمليات بلاك كيوب تكون بصورة سرّية، فيُعهد للمحللين بالابتكار الأولي لقصة التغطية. وتنقل هارتس عن موظف سابق تحدث شرط عدم الكشف عن هويته، قوله “على سبيل المثال، شراء شريحة هاتف محمول وحساب هاتف أجنبي يُلائم قصة التغطية التي وقع عليها الاختيار. من سيرد على الاتصال، في معظم الحالات، في مكتب في إسرائيل. ويتطلب الحصول على نطاق لهذا كله بطاقة ائتمان غير ذات صلة بالشركة، لكي لا يمكن اقتفاء أثر التعاملات المالية. وهناك فريق الخدمات اللوجستية ووظيفته الاعتناء بالخدمات اللوجستية للعملية”.

الزبائن هم طرف رمح الشركة. ففي فضحية المنتج ومخرج الأفلام الأميركي هارفيوينستاين، تم الكشف عن عميلة تدعى ستيلا بن كانت تعيش في يافا تستهدف الأميركيين. وفي اللغة المهنية، يُطلق على مثل هذه العميلة “ناشطون”.

ويقول موظف سابق إن رواتبهم هي الأعلى وتتجاوز بكثير ما بين 45 و65 شيكل (12 إلى 18 دولارا أميركيا) في الساعة للناشطين الجدد. ويقول أحد العاملين السابقين بالشركة “لقد أصابتني الدهشة من رؤية كيف أن بعض الزبائن يستمتعون بهذا، وليس فقط بسبب النتائج النهائية. وسأقول لك سرا: في الكثير من الأحيان تكون النتيجة النهائية ليست عظيمة”.

وكان من المفترض أن يُوقّع “الناشطون” رودس وكاهل وتيس للحديث، بعدما أجروا اتصالا أوليا معهم، كما كان من المفترض أن يحصلوا على معلومات ذات قيمة منهم. وبعدما افتضح أمر العملية للعامة في الربيع الماضي، تم توجيه أصابع الاتهام إلى إدارة ترامب وحلفائها. وكان السبب وراء هذا الافتراض هو أن هدف بلاك كيوب كان الحصول على معلومات من شأنها أن تُعزز الحملة العامة لإلغاء الاتفاق النووي الإيراني. لكن الوثائق التي حصلت عليها هارتس تشير إلى هدف مختلف.

اقتفاء أثر التعويضات

في التاسع من أبريل من عام 1995، دخل شاب فلسطيني من جماعة الجهاد الإسلامي بحافلته في حافلة مملوءة بالجنود بالقرب من كفر داروم بقطاع غزة. وقتل سبعة جنود إسرائيليين بالإضافة إلى أميركية تدعى أليسا فلاتو كانت آنذاك تبلغ من العمر 20 عاما وكانت تدرس في القدس. بدأ والدها ستيفن، وهو محامي أميركي من وست أورانج بنيو جيرزي، حملة ضد إيران.

وفي الوقت الذي وقع فيه هذا الهجوم، كانت الدول الأجنبية تتمتع بحصانة كاملة من المقاضاة بالمحاكم الأميركية. وفي أعقاب حملة فلاتو، مرر الكونغرس الأميركي قانونا في عام 1996 أُطلق عليه اسم “تعديل فلاتو” والذي سمح برفع قضايا ضد دول تموّل الإرهاب.

وفي عام 1998، صدر حكم يقضي بدفع الحكومة الإيرانية مبلغ 247.5 مليون دولار أميركي تعويضا لأسرة فلاتو. وفتح الحكم الباب أمام سلسلة من المزيد من القضايا.

وفي الـ25 من شهر فبراير من عام 1996، فجّر عنصر من حركة حماس 17 حافلة على طريق يافا في القدس. وكان من بين الضحايا البالغ عددهم 26 ضحية مواطنين أميركيين هما ماثيو أيسنفيلد وسارا دوكير.

وقاضت أسرة أيسنفيلد ودوكير إيران، وفي عام 2000 صدر حكم يقضي بحصول الأسرتين على 327 مليون دولار أميركي. وقاضت عائلات أميركية أيضا حزب الله في الهجوم على ثكنات مشاة البحرية الأميركية في بيروت في عام 1983 وتم صدور حكم بمنحها مليار دولار. ويصل المبلغ الإجمالي لهذه الأحكام حاليا عشرات المليارات من الدولارات.

وبالطبع فإن إيران لا تعترف بهذه الأحكام ولم تدفع الأموال المطلوبة. وبمعنى آخر، فإن هذه القضايا تُمثل صندوق كنز حديثا: حيث توجد مجموعة من المحامين يحملون أحكام محكمة تقدر بالمليارات، ومن ينجح في العثور على أصول إيرانية يمكنه المطالبة بنسبة معقولة منها.

وشركات المخابرات التجارية مثل بلاك كيوب متخصصة في تحديد أماكن هذه الأصول في أنحاء العالم للمساعدة في دفع هذه الأحكام القضائية، وتبرهن هذه الأنواع من التحديات بشكل خاص على الإيقاع بها. فأي نسب مئوية حتى ولو كانت صغيرة من الأموال الإيرانية المجمدة في أجزاء مختلفة من العالم يمكن أن تدر أرباحا محتملة تقدر بالملايين من الدولارات، مقابل تكلفة لا تذكر.

تتّبع مصادرة الأصول في الواقع مبادرة عمل مستقل تعتمدها بلاك كيوب. ولم “يأمر” أي كيان محدد بهذه العملية، لكن كان هناك ممول لها، وتقول هارتس إن اسمه نوبو سو، وهو قطب شحن تايواني ووكيل لبلاك كيوب في ما يتعلق بصراعاتها القانونية.

 واستثمر سو، الذي يقال إنه صديق مديري الشركة، المال من جيبه الخاص، وعائده جزء من النسبة المئوية للمصادرة التي تحصل عليها بلاك كيوب. وتحب بلاك كيوب أن تجعل من نفسها أذكى وأقوى شركة مخابرات تجارية. ففي الوقت الذي ينخرط فيه منافسوها في تحديد موقع الأصول بالطريقة الكلاسيكية، تذهب بلاك كيوب إلى أبعد من ذلك وتحاول الوصول إلى مسؤولين كبار في الحكومة للكشف عن هذه الأصول أو آثارها.

قضية البنك العماني

في عالم المخابرات التجارية، هناك قانون غير مكتوب يقول “لا تعبث مع الأميركيين”. وكنتيجة لذلك، ترفض الكثير من الشركات القيام بمثل هذا النوع من العمليات في الولايات المتحدة، وبالتأكيد ترفض القيام بمثل هذا النوع من العمليات مع مسؤولين كبار سابقين بالإدارة الأميركية.

وخرقت بلاك كيوب هذا القانون: فبقدر ما تكون مهتمة، وطالما أن المحامين يسمحون بذلك، فإنها ستقوم بأي مهمة. وتؤسس وثيقة المعلومات الأساسية التي بحوزة هارتس، إلى أن ملاحقة رودس وكاهل وتيس كان من المفترض أن تسفر عن معلومات مخابراتية تمكنهم بعد ذلك من القيام بعدد من العمليات القانونية.

أولا، موقع أصول إيرانية مجهولة، مثل حسابات بنكية في دول الخليج أو الشرق الأقصى. وثانيا، تقديم مساعدة لإيران لإخفاء أصولها في انتهاك للقوانين الأميركي أو القانون الدولي. وإذا ما اتضح أن بنكا محددا ساعد إيران في إخفاء أصولها، فإن بلاك كيوب تعتقد أنه سيكون من الممكن مقاضاته. ثالثا، مساعدة إيران في تحويل الأموال في انتهاك للقوانين الأميركية أو الدولية.

وفي وقت العملية، وقبل أشهر كثيرة من كشف بلاك كيوب، تفاخر زوريلا أمام المقربين بالمصادرة الإيرانية، لأنه كان سيمتلك قريبا جدا معلومات ضخمة ومثيرة.

كان التركيز الأساسي للتحقيق على “قضية البنك العماني”. فقد كان لإيران حساب في بنك مسقط في سلطنة عمان، حيث أودعت مدفوعات مقابل النفط الذي باعته. وبحلول عام 2015، وصل المبلغ الموجود في الحساب إلى 5.7 مليار دولار أميركي، لكن بالريال العماني. وسعى الإيرانيون إلى تحويل المبلغ إلى اليورو، لكن بسبب ارتباط الريال العماني بالدولار، لم يوافق أي بنك على تحويل مثل هذا المبلغ الضخم. ولهذا السبب، كان هناك بنك أميركي سيوافق على تحويل المبلغ من الريال العماني إلى الدولار الأميركي، ثم بعد ذلك إلى اليورو. وعلى الرغم من ذلك، ورغم الاتفاق النووي، لم تستطع إيران بعد الوصول إلى الشبكة المصرفية في الولايات المتحدة، ولذلك، كانت بحاجة إلى مساعدة إدارة أوباما.

ووصلت هذه القضية في النهاية إلى الكونغرس، الذي فتح تحقيقا رسميا نُشرت نتائجه في شهر يونيو الماضي. وطبقا للتحقيق، عمل مسؤولون كبار بإدارة أوباما مع مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة، والمسؤول عن فرض العقوبات، للسماح لهم بتحويل العملة، على الرغم من الإقرار مع حلف اليمين بأن إيران لن تحصل على حق الوصول إلى الشبكة المصرفية. وفي النهاية، رفض بنك ويلز فارغو وبنك جيه.بي.مورغان المشاركة في التحويل بسبب مخاوف من المسؤولية القانونية.

وأجرت بلاك كيوب أيضا تحقيقها في القضية بهذا المبلغ الضخم في سلطنة عمان وبرهنت على أنه يستحيل تجاهله. وحدّدت شركة المخابرات سلسلة من كبار المسؤولين في البنكين كأهداف محتملة، وتم تسجيل أسمائهم في وثيقة بلاك كيوب، بالإضافة إلى المديرين في البنك العماني.

وتم إعداد ملفات لبعض هذه البنوك ليستخدمها العميل الذي يتقرّب منهم، بما في ذلك التاريخ المهني، والعناوين، وأرقام الهواتف، وحسابات البريد الإلكتروني.. إلخ. وتم إعداد ما لا يقل عن ملفين لمصرفيين ترتبط وظائفهما بفرض العقوبات. وفي النهاية، فشل هذا أيضا في أن يُسفر عن أي شيء، وفق هارتس.