على وقع موسيقى عمار الشريعي..

أعواد ثقاب محترقة

أجيال تكتفي بالغناء للنيل الجميل

رابعة الختام

أحلام شباب اليوم أصبحت تشبه أعواد الثقاب المحترقة، هشة وضعيفة، تنكسر في منتصف الطريق، ولا تقوى على الوقوف في مواجهة الأزمات.

تشاجرت ابنة جارتي المتفوقة مع أمها لرغبتها الجامحة في السفر لبلاد الثلج واستكمال دراستها الجامعية في بريطانيا أو ألمانيا، كندا، لا يهم، كل ما يستوعبه عقل الفتاة هو فكرة السفر ذاتها والقفز من السفينة التي لم تعد تبصر لها شاطئا قريبا على حد وصفها.

تتقدم الفتاة لكل برامج المنح الدراسية المجانية خارج مصر، ولعلمها برفض أسرتها أي فرصة تكبدهم مصروفات فهي تغامر في الفرص المجانية فقط.

في لحظة استثنائية لم تتح للكثيرين وافقت الأم على تحقيق ابنتها لحلمها، نفضت الأم عن نفسها غبار حب التملك وهوس الخوف من الاغتراب ورضيت بما كانت ترفضه بالأمس، وما رفضته عائلتها لها قبلا، بل انضمت إلى خندق الفتاة وباتت تبحث معها على فرص حقيقية تحمل لها الأحلام على أجنحة الواقع، بعيدا عن أوهام مكاتب التسفير والهجرة والدراسة في الخارج التي تتاجر في أحلام الشباب بالبحث عن ثقب مضيء في أنفاق شديدة العتمة.

تتقافز الأم فرحا بقراءة إعلان صغير في أي جريدة عن منح دراسية خارج مصر، وتحفز ابنتها على مزيد من التفوق في دراستها وتوسيع مداركها بالقراءة، وتعلم اللغات، والتبحر في العالم الرقمي استعدادا لكل متطلبات المنح الخارجية.

الحقيقة أنني أرى ما تفعله الأم في شأن موافقة ابنتها على تحقيق أحلامها أمرا إيجابيا للغاية، والأمر الثاني الأكثر إيجابية، في ما يتعلق بتعلم اللغات وعلوم الكمبيوتر، والاستعداد لتحديات العصر في ظل عالم متغير يكفر بالكثير من الثوابت.

آمل أن يتعلم أبناؤنا في الخارج بغية الاستزادة من العلم والمعرفة والتحصن بالمعارف المتطورة في بلاد الغرب، والعودة لتنتفع بلادهم بهم وما حصلوه من علوم والانفتاح على ثقافات مختلفة ولكنني أخشى الاغتراب لمجرد الاغتراب المحض، وهوس بلاد الثلج، وضد تجريف البلاد من عقول أبنائها، فهذا ما يضر بأحوال بلادنا واقتصادنا كليا.

وما ينطبق على مصر بالتأكيد ينطبق على بلاد عربية كثيرة ينتظر أبناؤها فرصة مماثلة للرحيل عنها، كبداية تمهيدية للتجنس بجنسية دولة أوروبية، أو أي دولة تخرج من النطاق الجغرافي للوصم بالعربية.

هل باتت تلك الدول طاردة لأبنائها حد كراهية البقاء فيها، وحلم الرحيل بأي طريقة وأي ثمن؟

وهل باتت مؤسساتها التعليمية عاجزة عن استيعاب عقول أبنائها عوضا عن حشوها بمواد تعليمية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا ترفع وعيهم سنتيمترا واحدا، وتدريس مناهج بعيدة كل البعد عن احتياجات سوق العمل؟ هل تساءل يوما ما مسؤولو التعليم عن جدوى ما يقومون بتلقينه للعقول، ودس معلومات دون مناقشات وفتح حوارات مع الطلاب؟

هذه الفتاة وغيرها كثيرات وكثيرون هم ضحايا نظام تعليمي ومؤسسي منغلق على نفسه، يقتات على مجد آفل منذ سنوات بعيدة، مكتفيا بمقولة كنا أعظم دولة، وحضارة سبعة آلاف عام.

هؤلاء الذين يتغنون بجمال النيل لا يعلمون أنني حين تحدثت مع ابنة جارتي عن روعة النيل العظيم وجماله وأن من يشرب منه حتما سيعود إليه مرة أخرى، ضحكت الفتاة قائلة: هذا النيل لوثه إهمال الكثيرين، وتركته كافة الوزارات المسؤولة عن البيئة والمسطحات المائية المتعاقبة تحت وطأة التلوث، هذا النيل ألقى فيه الفلاح المصري الأصيل حيواناته النافقة، وجلفاته الزراعية، واختلط بمياه الصرف الصحي، وأصبح كل بيت لا يثق في مياه الصنبور ويحتفظ بفلتر لتنقية المياه.

أما عن التعليم فحدث ولا حرج، ظلت الفتاة تنتقد بشكل واع متزن، لكنه يخلو قطعا من رومانسية أجيال تكتفي بالغناء للنيل الجميل على وقع موسيقى عمار الشريعي، دون منطق، الغناء وحده لم يعد يكفي.