تفاقم صراعات التكتلات..

أزمة الحزب الحاكم في الجزائر.. أعراض مرض مزمن

فوضى تعيشها الحياة السياسية الجزائرية

أزراج عمر

في الأيام الماضية قام الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة بحل المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني وكلف مجموعة متكونة من 5 أعضاء من المكتب السياسي للحزب، بقيادة معاذ بوشارب، بالتسيير الجماعي لشؤونه لغاية انعقاد مؤتمره قبل حلول استحقاق الانتخابات الرئاسية.

من المعلوم أن لجوء الرئيس بوتفليقة إلى حلّ حزب جبهة التحرير الوطني هو بسبب عدة عوامل متضافرة ومعقدة، وفي مقدمتها الفوضى التي تعيشها الحياة السياسية الجزائرية منذ إصابته بالجلطة الدموية التي أقعدته عن النشاط الفعلي من جهة، وجراء غرق جبهة التحرير نفسها في انقسامات بين الحرس القديم وبين جماعة التقويميين الذين حاولوا إعادة تشكيل الهيكل التنظيمي لحزب جبهة التحرير الوطني دون جدوى، وفي أزمات بنيوية متعددة وفي صلبها أزمة الشرعية التي نتجت عن إلغاء المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية من جهة أخرى.

وهنا نتساءل؛ هل يمكن اعتبار قيام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة مؤخرا بحل المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني إجراء سياسيا شرعيا وأنه من حقه كرئيس للبلاد أن يتحكم في جميع الأحزاب الجزائرية وخاصة أحزاب الموالاة، علما وأنه لم يقدم نفسه في يوم من الأيام على أنه الرئيس الفعلي المنتخب لحزب جبهة التحرير الوطني أو لأحزاب الموالاة، وبالعكس فإنه يقدم دائما من طرف قيادات حزب جبهة التحرير الوطني كمجرد رئيس شرفي له فقط. رغم أن إجراء حل المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني مشكوك في شرعيته، ولكن يلاحظ أن الكثير من المراقبين السياسيين يرون أن هذا الإجراء قد أملته التعقيدات السياسية وفي المقدمة عجز الحزب عن إنجاز مصالحة بين تياراته المتصارعة، وبسبب أنه لم يعد حزبا طليعيا بل أصبح جزءا عضويا من المشكلة السياسية البنيوية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات طويلة.

ويرى العارفون بالوضع الجزائري أن التغيير الذي قام به الرئيس بوتفليقة لا يعد بأي آفاق خاصة وأن المجموعة التي كلفها بتسيير المرحلة الانتقالية لغاية عقد المؤتمر في الشهور القادمة وقبل إجراء الانتخابات الرئاسية غير منسجمة، كما أنه لا أحد في الجزائر يعرف أعضاءها الذين ليسوا شخصيات سياسية وطنية لها التجربة والمصداقية.

إن حل المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني ليس تحولا راديكاليا لأن تغيير الأشخاص لا يعني أي شيء له دلالة سياسية يطمئن إليها الشعب الجزائري، وبالعكس فإن التجربة علّمت هذا الشعب أن مثل هذه الترقيعات الشكلية هي تعبير غير مباشر عن تفاقم صراعات التكتلات والأشخاص، ما يؤكد أن حل المكتب السياسي لهذا الحزب العقيم فكريا وممارسة سياسية ليست في جوهرها سوى محاولة يائسة لتغطية أعراض المرض المزمن الذي ما فتئ يعاني منه هذا الجهاز الحزبي البيروقراطي الذي يصرّ على أن يبقى جامدا ودون أي انفتاح على أفكار التحديث والعصرنة والعمل على استيعابها وتمثلها.

الأزمة التي يعاني منها حزب جبهة التحرير الوطني والتي تعيد إنتاج نفسها باستمرار ليست أزمة أشخاص، بل هي أزمة عميقة يمكن رصد نواتها المبكرة في تفاصيل مشهد حركة التحرر الوطني، أي حين كانت جبهة التحرير الوطني مجرد فسيفساء مشكّل من التيارات السياسية الجزائرية المتناقضة في العقيدة والتي عملت شكليا تحت مظلة حركة التحرر الوطني لتحرير الجزائر من الاحتلال، وليس تحرير نفسها ومناضليها من التناقضات الفكرية والسياسية.

مما لا شك فيه أن أصول هذه الأزمة تعود إلى تبعية جبهة التحرير الوطني في ذلك الوقت للجيش الوطني الشعبي، الأمر الذي أسس منذ البداية لتهميش البعد السياسي في الحياة الجزائرية من طرف العسكر، ولقد توّج كل ذلك بعدد من التصفيات لرفقاء السلاح أثناء المعركة المسلحة ضد الجيش الاستعماري، وبالصراع الدموي على السلطة مباشرة بعد الاستقلال حيث تكرّست سيطرة مؤسسة الجيش والأمن بشكل سافر بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس الراحل هواري بومدين على سلفه أحمد بن بلة.

على أساس هذه الخلفية التاريخية وأسباب أخرى ذات صلة بغياب الإجماع على أي شكل من أشكال الهوية السياسية والعقائدية التي ينبغي أن تتميز بها الدولة الجزائرية المستقلة، يدرك المرء أن تغيير تسمية جبهة التحرير الوطني التي كانت تجمع مختلف التيارات التي يمثلها الوطنيون والإسلاميون واليساريون، والتي عوضت بعدئذ بتسمية حزب جبهة التحرير الوطني المؤسس مجددا على أفكار متضاربة لم يكن إلا تغييرا شكليا، وبسبب ذلك لم تنجح الجزائر في بناء حزب ديمقراطي له هوية محددة يكون محركا للحياة الديمقراطية التعددية.

هذه الأسباب هي التي جعلت من هذا الحزب مجرد واجهة للنظام الحاكم، حيث تغلب على سلوكه الانتهازية ويتحكم فيه نسق من الممارسات الاستغلالية، فضلا عن كبح الحريات وإجهاض التعددية، وتقييد النمو الطبيعي للمجتمع المدني والإطاحة بكل المحاولات المبذولة من طرف الوطنيين من أجل إنجاز الانتقال الديمقراطي.