ثورات الربيع العربي..

ماذا بقى من الثورات العربية؟

في العالم العربي ظاهرة معقدة وما الربيع العربي إلا مثال واحد من إرهاصات هذا الفشل

خالد فهمي

الربيع العربي، مثله مثل ربيع كل الشعوب، له أسباب هيكلية وجذور تاريخية، ولم يكن وليد لحظة بعينها. وهو مثال من إرهاصات فشل دولة ما بعد الاستقلال في العالم العربي. الباحث المعروف في جامعة كامبردج وأستاذ الدراسات العربية خالد فهمي يرصد في المقال التالي لموقع قنطرة إرث الحراك الثوري العربي ومستقبل الديمقراطية والحريات في ظل فشل الأنظمة الحاكمة في مواجهة تحديات الواق..

ثورات "الربيع العربي" انطلقت من إدراك عميق بأن النظام السياسي العربي، الذي وُضعت قواعده بعيد الحرب العالمية الأولى لم يعد مقبولا أو يمكن الدفاع عنه. فالأنظمة العربية كافة فشلت في تحقيق حتى القدر الأدني من التنمية والاستقرار والدفاع عن التراب الوطني.

حتى تلك الأقطار العربية التي شهدت طفرت مهمة في تحسين مستوى معيشة مواطنيها نجحت في ذلك ليس نتيجة انتهاج سياسات تنموية رشيدة ومستدامة، بل نتيجة اعتمادها علي مصادر ريعية كان من أهمها النفط والغاز الطبيعي. وحتى هذا النجاح جاء مصحوبا بافتقار عميق لمعايير الديمقراطية ولتمكين الشعوب من الحكم الذاتي.

أما الأقطار غير المنتجة للنفط فقد اعتمدت هي الأخرى على هذا المصدر الريعي في شكل تحويل مدخرات مواطنيها العاملين في الدول الغنية بالنفط. وقد ساهم هذا المصدر الريعي في تأجيل الاحتجاجات الشعبية وأعطى الأنظمة والحكومات فسحة من الوقت امتدت لعقود طويلة في بعض الأحيان.

بمعنى آخر فإن الربيع العربي، مثله مثل ربيع الشعوب، له أسباب هيكلية وجذور تاريخية، ولم يكن وليد لحظة بعينها. ففشل دولة ما بعد الاستقلال في العالم العربي ظاهرة معقدة ولها أسباب عديدة، وما الربيع العربي إلا مثال واحد من إرهاصات هذا الفشل. ويمكن اعتبار ظاهرتي نزوح ملايين اللاجئين العرب لأوربا والإرهاب كظاهرتين إضافيتين تعبران عن نفس هذا الفشل التاريخي.

يجمع كل من الربيع العربي وربيع الشعوب ظاهرة تنامي الاهتمام بالعامل الاجتماعي طوال شهور هذه الثورات. فبالرغم من أن هذه الثورات العربية والأوربية لم تنادي في البدء بإصلاحات اجتماعية واقتصرت على المطالبة بتغيير أنظمة الحكم، إلا أن سرعان ما ظهرت المشكلات الاجتماعية كبؤرة تركزت فيها المطالب الثورية.

ما يجمع بين ربيع الشعوب والربيع العربي أن هذه التسميات أثبتت رومانسيتها في وقت قصير. فهذه الثورات لم يكتب لها النجاح، وربيع الشعوب تحول إلى شتاء مثلج طويل. فما هي إلا بضعة شهور بعيد اندلاع ثورات أوربا في فبراير 1848 حتى تمكنت الملكيات المستبدة من إعادة السيطرة على الأمور بعد أن أدركت أن هذه الثورات لم تهز الجهاز الحكومي ولم تستشر للجيش.

وساعد على نجاح الثورة المضادة تعاون الكنيسة مع التاج، والدعم الذي وجهته الأنظمة المحافظة لبعضها البعض، وكان من أهم نماذج هذا الدعم ما قام به قيصر روسيا بغزو المجر بجيش قوامه 300 ألف رجل لقمع الثورة هناك.

إن الثورة المضادة في حالة الربيع العربي نجحت بقدر كبير نتيجة الدعم الذي وجهته الأنظمة الملكية في الخليج للقوى المحافظة التي تضررت من هذه الثورات. وكان إرسال دول التعاون الخليجي لقوات من جيوشها بغية القضاء على الثورة في البحرين في مارس آذار 2011 خير مثال على هذا الدعم. بالمثل فإن نجاح الثورة المضادة في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي لم يكن ممكنا بدون الدعم المالي الكبير الذي ناله من السعودية والإمارات .

ما يجمع الربيع العربي بربيع الشعوب هو كونهما يشكلان منعطفا محوريا في التاريخ الحديث للعالم العربي ولأوربا على التوالي. فقد يكون من الصحيح القول إن ربيع الشعوب تحول إلى شتاء طويل بارد، وأن الأنظمة الرجعية سرعان ما استعادت الأرض التي كانت قد خسرتها طوال شهور عام 1848، وأنها نجحت في التنكيل بقيادات الثورات من عمال وصحافيين ومحاميين ونقابيين. إلا أن المطالب الثورية التي نادت بها الجموع الأوربية، في الريف والحضر، طوال عام 1848 هي التي أملت قواعد العملية السياسية طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأن الخريطة الأوربية، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، اختلفت اختلافا جذريا نتيجة لربيع الشعوب.

وبالمثل يمكن القول إن قوى الثورة المضادة قد نجحت نجاحا باهرا في إعادة السيطرة على زمام الأمور في دول الربيع العربي، إلا أن الأسئلة التي طرحتها ثورات الربيع العربي، الأسئلة النابعة من الوعي بضرورة تغيير النظام العربي ووضع حد لفشله التاريخي – هذه الأسئلة أصبحت واضحة ومطروحة بقوة أكثر من أي وقت مضى، أوضح حتى من الفترة التي أعقبت هزيمة 1967.

فثورات الربيع العربي أملت على العالم العربي أسئلة تحمل تحديات وجودية، أسئلة عن علاقة الحكام بالمحكومية وتمكين الشعوب من حكم أنفسها؛ أسئلة عن وضع المرأة في المجتمع وضرورة إنهاء كافة أشكال التمييز ضدها؛ أسئلة عن انتهاج سياسات اقتصادية رشيدة تفطم مجتمعاتنا عن المصادر الريعية للدخل؛ أسئلة عن دور الدين في الحياة العامة.

هذه الأسئلة ادعت الأنظمة الحاكمة بأن لديها إجابات عنها، حتى انفجرت الثورات العربية عام 2011 لتوضح زيف ادعاءات الأنظمة العربية وكذبها. وما تدعيه الثورات المضادة من عودة الاستقرار وتحقيق الأمان لمواطنيها إلا وهم.