تفكيك قوالب الفكر الأسري..

التعليم الفني يفقد بريقه لدى الأمهات في تغيير ثقافة المجتمع

مستقبل واعد للتعليم الفني الصناعي

رابعة الختام

تضع كافة النخب رهاناتها الرابحة على المرأة، وبصفة خاصة الأمهات في تغيير ثقافة المجتمعات وتعديل نمطية الرؤى السائدة والفكر المقولب في التعاطي مع مختلف القضايا الشائكة، ولعل أكثر هذه القضايا التي تنتظر عين التغيير هي تعديل النظرة النمطية الظالمة للتعليم الفني والتدريب المهني وعزوف الكثيرين عن الالتحاق به.

فتغيير ثقافة المجتمع تبدأ من الأم، هكذا أؤمن، فإذا أردنا تغيير المجتمع نبدأ بنصفه المربي والحارس الأمين على مستقبل النصف الآخر.

في أمسية شتوية، داعبت ابن جارتي طالب الإعدادي بضرورة التفوق للالتحاق بالتعليم الفني الثانوي لسهولة القفز منه إلى كلية الهندسة، هاجت جارتي وماجت ورأتني أسخر منها وهي المحامية الكبيرة، كيف لابنها الالتحاق بتعليم فني تنظر له نظرة متدنية، وحاولت توضيح وجهة نظري في سجال طويل.

تكثيف الجهود لجذب الشباب نحو “إتقان الصنعة” لا يعني التقليل من شأن التعليم الجامعي بشقيه العملي والنظري، لكنه يعني بالضرورة إعلاء قيمة التعليم الفني الصناعي والزراعي، وتقدير العامل الحرفي، والتصدي للعادات البالية والموروثات عن دونية مستوى العامل الحرفي، بغض النظر عن حاجة المجتمعات الماسة لحرفته.

لا شك أن منهجية التعليم هي الخطوة الأولى في الاستعداد لسوق العمل والحياة بمفهومها الأشمل والأعم، لهذا وجب إعادة النظر في نوعية التعليم بشكل جذري.

ويكفينا علما أن الثورات الصناعية والطفرات الإنتاجية بالبلدان المتقدمة قامت على أكتاف الصناع والزراع والحرفيين، وليس بعض أصحاب الوظائف المكدسين في طرقات المصالح الحكومية بلا عمل.

كثيرا من الأمهات لا يفرقن بين التعليم والثقافة، ويبدو أن عقدة مقولة المؤهلات العليا، قضت على أحقية التعليم الفني في طالب متفوق، فأصبح هذا التعليم يقبل بمجموع درجات أقل، وطالب غير مجتهد يسعى للحصول على شهادة ورقية دون كد، فعنجهية البعض في تحريك الألسنة بلفظة المؤهلات التي حصلوا عليها تحرمنا من إعادة إنتاج وتسويق التعليم الفني كما يجب.

تبحث جارتي عن وجاهة اجتماعية دون التفريق بين الثقافة والتعليم، وأهمية تنمية القدرات التدريبية للطالب وليس عمله في أنشطة بعيدة عن التدريب الفني والمهني، حتى لا تصبح الشهادات نفسها أقل قيمة من تكلفة ثمن الأحبار التي تكتب بها.

وتقضي ذاكرة السينما على بصيص ضوء كانت تتحسسه بعض الأمهات للتشبث بضرورة التعليم الفني والمهني، واستشعار أهميته، فرسخت صورة ذهنية نمطية شديدة القتامة عن التعليم الفني وخريجيه.

ولا يخفى على الكثير من أمهات واعيات عدم ربط احتياجات سوق العمل بمخرجات التعليم، مما عزز فرص الابتعاد عن التعليم الفني تجنبا لبطالة تتربص بخريجين يفتقدون آليات العمل، ويلفظهم السوق مستعينا ببعض صناع تتلمذوا في ورش صناعية بعيدا عن التعليم الإلزامي المنظم، لكنهم اكتسبوا خبرة واسعة.

سألتها السؤال الأزلي بلا إجابة: متى نقول بفخر “أنا خريج دبلوم صنايع”. إذا أردت تعليما فنيا جيدا، ابحث عن رجال المال والأعمال، وهذه المقولة هي ما أكدتها تجارب القطاع الخاص في إنشاء مدارس تلمذة صناعية لخدمة مصانعه وشركاته، تعد تجارب فردية لا ترتقي لوصف منظومة تعليمية يمكن التعويل عليها للنهوض بالتعليم الفني الصناعي.

مازالت تكلفة الفرصة الضائعة لا تحتسب، بمعنى أن ما ضاع من سنوات التعليم كان يمكن تحصيلها بالتقدم خطوة أسرع للدخول لسوق العمل، فهل تعوضه برامج التدريب التحويلي؟ 

حدثتني جارتي عن الوجاهة الاجتماعية المتقدمة على فرص العمل المربحة، خاصة مع تراجع أعداد الملتحقين بالتعليم الفني لصالح التعليم “المفتوح” بحثا عن مسميات لشهادات ومؤهلات ورقية تساهم في تلميع صورة الخريج حين التقدم لخطبة عروس تبحث عن الوجاهة والمظهر التعليمي.

يقف التوك توك في مصر عائقا صلبا في مواجهة الالتحاق بالتعليم الفني والتدريب المهني، وفرص برامج التدريب التحويلي، فمن باب الاستسهال أصبح الكثير من الصبية يفضلونه عن العمل الحرفي المتطلب لمهارات وإتقان صنعة.  

وأفقد مصر عددا كبيرا من العمالة الماهرة المدربة في سوق العمل الداخلي، وتلك التي تحصل على تدريب كاف تلتقطها أيادي تسفير العمالة لينتفع بها سوق العمل الخارجي مع استمرار نزيف العمالة الماهرة وتعطش سوق العمل الداخلي إليها.

وما أقوله على مصر ينسلخ بالضرورة على الكثير من الدول العربية، في نظرتها النمطية الدونية للتعليم الفني، وفزاعته في أن خريجيه لا يحصلون على مهن ووظائف لائقة ولا يوفقون لزيجات راقية على نقيض خريجي الجامعات المرحب بهم دائما.

لم تفلح الثورات المجتمعية على الأفكار التقليدية في تغيير ثقافة المجتمع تجاه النظرة لنوعية التعليم، أو يصلح الحراك الاجتماعي في تفكيك قوالب الفكر الأسري نحو الدفع بالأبناء للالتحاق بالتعليم الفني الثانوي أو الجامعي.

فبنظرة تحليلية بسيطة نجد أن مخرجات التعليم تتنافر مع متطلبات سوق العمل، ظلت مناقشتي لجارتي ساعات طوال، في محاولة لاستمالة فكرها، انتهت للدخول لكلية الهندسة عبر بوابة الثانوية الفنية.