فنانة تجسد صانعة أفلام تعبيرية..

سهى شومان عرافة المتاهة الفلسطينية من خلال تحولاتها حيوية الانتقال

سهى شومان من الرسم إلى الفنون المعاصرة

فاروق يوسف
وكالات

حين يشير المكان إلى خيال من نوع ما فإن ذلك يعني أن هناك موهبة إنسانية خارقة قد نسجت شبكة رؤاها من أجل أن تحلق بذلك المكان ليبدو كما لو أنه من صنع الملائكة.

هذا ما تعلمته سهى شومان من البتراء لتقيم دارة الفنون بعمان.

الفنانة التي استلهمت في رسومها أحجارا هي أشبه بالغيوم كانت ملهَمة يوم اختارت أن تصنع مصيرها بطريقة مختلفة. طريقة يغلب عليها طابع الخلق الذي يسبق أيامه الستة إلى اليوم السابع.

“دارة الفنون” هي مكان محلوم به أكثر من كونه قاعات للعرض الفني ولإقامة الفنانين. ربما لم تراهن شومان على تلك السابقة، بقدر ما انصب رهانها على ما يمكن أن يحمله مكان خيالي من تغيير في الذائقة الجمالية لدى عموم الناس.

راعية فنون وهي مبشرة بالجمال في الوقت نفسه. غير أنها فنانة بالدرجة الأساس. وهي فنانة من طراز خاص. ذلك لأنها جسدت من خلال تحولاتها حيوية الانتقال من الحداثة إلى ما بعدها حين اختارت أن تكون صانعة أفلام تعبيرية.

مع ذلك فإن من الصعب فك الاشتباك بين شخصياتها. ليست هناك أقنعة. فالفنانة التي أسعدها الرمل في البتراء حيث مرسمها هي ذاتها الناشطة التي قررت أن تضع الفن في متناول الناس العابرين في جبل لويبدة بعمان من خلال صرحها الفني وهي في الوقت نفسه رائدة الـ”فيديو آرت” الذي قررت أن تمرر من خلاله رسالتها إلى العالم. وهي رسالة نضال سياسي، أدركت الفنانة مغزى ما ينطوي عليه من جمال متحرك وهو ما عبرت عنه من خلال أفلامها.

تلك المرأة طوت بخيالها الصحراء لا من أجل أن تخترع صومعتها الفنية بل من أجل أن تقيم معبدا للفنانين يذكر بالبتراء لكن بطريقة تناسب العصر. وسيكون من الصعب تفكيك أسرار لغزها.

تلك امرأة تقيم على مفترق طرق. لديها رؤية خاصة لما يمكن أن يفعله الفلسطيني في المنفى من أجل أن يكون موجودا ولديها أيضا ما يمكن أن تقدمه للجمال خالصا. وهي معادلة نجحت في الوصول من خلالها إلى نتائج إيجابية.

امتزجت سهى الفنانة المتمردة بسهى الأم التي ترعى بحنان فنانين تعرف أنهم سيكونون أوفياء لدارتها.

امرأة في مشروع مشروع في امرأة
راعية فنون وهي مبشرة بالجمال في الوقت نفسه
راعية فنون وهي مبشرة بالجمال في الوقت نفسه
ولدت الفنانة سهى أحمد حلمي عبدالباقي عام 1944 في القدس. أما لقبها “شومان” فقد اكتسبته عن طريق زواجها بخالد شومان، سليل العائلة المصرفية المعروف. درست الحقوق في بيروت وباريس وحين عودتها إلى الأردن التحقت بمعهد الفنون الجميلة لدراسة الفن عام 1977.

في المراحل المبكرة من سيرتها الفنية مارست الرسم ومن بعده انتقلت إلى عالم الفنون المعاصرة حيث صارت تقدم أفكارها عن طريق تقنية أفلام الفيديو. فكانت حصيلتها في ذلك “الزمن والضوء” عام 2004، “إنني في كل مكان” عام 2006 و”يكفي مشان الله” عام 2008 و”بيارتنا” عام 2009.

إضافة إلى عروضها الشخصية فقد كانت لها مشاركات لافتة في عدد من الملتقيات الفنية العالمية. منها “بينالي الشارقة” 2005 و”بينالي سنغافورة” 2008 ومعرض مسارات فلسطين الذي أقيم في بروكسل عام 2008.

كرمتها فرنسا بوسام الفنون والآداب برتبة فارس عام 2005.

في سياق مجاور قامت شومان برفقة زوجها بتأسيس دارة الفنون عام 1993 وهي عبارة عن ثلاثة بيوت تراثية تقع في جبل لويبدة، أحد جبال العاصمة الأردنية العريقة، خُطط لها أن تكون قاعات للعروض الفنية ومقر إقامة الفنانين الضيوف كما ضمت الدارة مكتبة لأحدث الكتب والأشرطة الفنية التي تغطي جزءا كبيرا من تاريخ الفن التشكيلي العالمي، بمرحلتيه الحديثة والمعاصرة.

الذكرى الغامضة
امتزجت سهى الفنانة المتمردة امتزجت بسهى الأم التي ترعى بحنان فنانين تعرف أنهم سيكونون أوفياء لدارتها.
امتزجت سهى الفنانة المتمردة امتزجت بسهى الأم التي ترعى بحنان فنانين تعرف أنهم سيكونون أوفياء لدارتها
في الجانبين، الخاص والعام من سيرتها تظهر سهى شومان باعتبارها صاحبة مشروع يتخطى ما هو سائد على مستوى التفكير والممارسة كما أنه يتماهى مع المفاهيم المعاصرة التي تتبنى أفكار وأساليب الفن الاجتماعي.

وهذا ما أضفى على مغامرتها الفنية طابع الجرأة التي تستند إلى ثقة عميقة بمعطيات العصر الثقافية من جهة انفتاحها على مختلف أنواع التحولات الفكرية والأسلوبية.

هي امرأة من طراز قوي، تمشي إلى الأقصى في مشاريعها مؤمنة برسالتها التي تجمع بين الحق والجمال.

حين أقدمت شومان على استعمال رمل الصحراء في الحاضرة التاريخية البتراء في صناعة سطوح لوحاتها فإن ذلك لم يكن بحثا عما يمكن أن يحدثه استعمال تلك المادة الغريبة من تأثير صريح، يكمن مصدره في التقنية الخالصة، بل سعت إلى الزج بمشاهدي رسومها في موقع ملغز، تكون الذكرى الغامضة مصدر سحره. إنها كمَن يضع أذنه على قوقعة ليستمع إلى صوت البحر.

الرمز والظاهرة
وبحكم معايشتها اليومية لفتنة الصحراء فقد كانت الفنانة حريصة على أن تفتح أمام مشاهدي أعمالها أبواب جنة خفية تسكنها الأصوات التي لا يمكن فهم لغاتها إلا عن طريق التأمل الخاشع.

ما لا يُستعاد يمكن الاستعانة بأجزاء مقتطعة من هنا وهناك ليكون من خلالها حيا بطريقة مختلفة. وهي حياة يقترحها الفن مع مراعاته التوتر والاقتضاب اللذين يخلقان صدمة، هي ما يبقى من تأثير العمل الفني باعتباره خزانة خيالية لذكريات تكاد أن تُمحى.

وهو الأسلوب الذي اتبعته في أفلامها حين اعتمدت على الأفلام الوثائقية. لا من أجل أن تمجد الماضي بل من أجل أن تضع حدا لتداعيات الزمن الذي كان بالنسبة للفلسطيني مجالا مفتوحا على التيه والضياع والتشرد كلها تنطوي على نوع من ممارسة العبث في حق الضعفاء.

لدى هذه الفنانة يسبق السؤال الذكرى ويتبعها في الوقت نفسه. فالمسألة لا تتعلق بـ”ماذا نتذكر؟” بل بـ”لماذا نتذكر؟” ربما لأن الذكرى عن طريق الفن حفظت الهوية الوطنية لشعب أجمع العالم على فكرة أن يُنسى.


شومان نجحت في أن تكون ظاهرة فريدة من نوعها
وإذا ما كانت شومان لا تتحاشى السياسة، ذلك لأنها تدرك أن ما يقع من حولها وجله سياسي إنما هو القناع لقضية أكثر عمقا مما يتم تداوله وهو ما دفعها من خلال أفلامها إلى التركيز على الجانب الإنساني الذي تقفز عليه السياسة. وهنا بالضبط تقع مسؤولية الفن في الفصل بين الدعائية التي تروج للزيف وبين الجمال الذي يتمسك بالحقيقة الإنسانية.

شومان تتذكر. هذا صحيح. غير أنها في الوقت نفسه لا تكف عن التذكير بالحقائق الكبرى التي تصنع التاريخ.

“ضقت ذرعا بآليات فن الرسم فسعيت إلى تعلم فنون الميديا والفيديو فأتقنتها ثم وجدت لنفسي سبيلا أخرج فيه همومي وأحاسيسي” تقول سهى ثم تضيف “اتجهت إلى فن الفيديو كي يسمعنا العالم بصوت عال، فإمكانات الكاميرا متعددة. أما اللوحة فلها وجه واحد”.

يمكننا أن نتفق أو نختلف معها وبالأخص في ما يتعلق بوجهة نظرها بالرسم. غير أن ما هو مؤكد أن ما قدمته شومان من خلال أفلامها إنما ينتمي إلى اللغة المعاصرة التي يمكنها أن تتخطى حدود تأثير الصورة التقليدية. ربما يتجاوز ذلك التأثير دائرة التجربة ليشكل وسيلة تحريض لقيام طريقة جديدة في التفكير الفني. وهو ما كانت الفنانة تفكر فيه دائما، حين فتحت دارتها أمام التجارب الفنية المعاصرة وصار فكر ما بعد الحداثة مجسدا من خلال أعمال فنية اتسمت بالكثير من النضوج والتحدي.

في سيرتها الفنية المزدوجة، بين ما هو خاص وما هو عام نجحت سهى شومان في أن تكون ظاهرة فريدة من نوعها. فالمرأة التي هي رمز للنضال الفلسطيني هي في الوقت نفسه ظاهرة جمالية يمكن النظر إليها في سياق وعي فني وفكري معاصر باعتبارها بشارة مستقبلية.