المجلس الروسي ..

كيف يمكن فهم أسباب التواجد الروسي فى الشرق الاوسط؟

الشرق الأوسط يمثل مطلقًا أولوية استراتيجية لروسيا

صحف

على مدار التاريخ، لم يكن الشرق الأوسط يمثل مطلقًا أولوية استراتيجية لروسيا مقارنة مع أوروبا وشمال شرق المحيط الهادئ، أو حتى وسط آسيا، وبعكس العديد من القوى الأوروبية الرئيسية، لم يكن لدى روسيا طموحات استعمارية في المنطقة، وكذلك لم تنظر إلى المنطقة باعتبارها "مجال نفوذها" أو بوصفها ممر عبور اقتصادي أو جيوسياسي مهمًا للغاية. كما أنه حتى وقت قريب، لم يكن لدى روسيا تجربة في استخدام قوتها العسكرية في المنطقة، فضلاً عن عن مطلب تحوّلها إلى قوة خارجية مؤثرة في الشرق الأوسط. 

عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، زعم الكثيرون في موسكو والغرب، أن النفوذ الروسي المتبقي في العالم العربي، الموروث من أيام مجد النفوذ السوفيتي الإمبراطوري العالمي، سيكون مآله الاضمحلال المستمر، ما سيحوّل الكرملين بوضوح إلى لاعب هامشي في سياسات المنطقة.

لكن في الواقع، انحصرت المصالح والاهتمام الروسي في ثلاث دول غير عربية على أطراف العالم العربي: الدولة الأولى هي تركيا، وهي دولة مثيرة للجدل بشدة لكنها شريك مهم جدًّا في منطقة البحر الأحمر وشمال وجنوب القوقاز، وكذلك في مجالات التجارة والاستثمار والطاقة والسياحة. الدولة الثانية هي إيران، وهي حليف  آخر صعب، وقد لعبت دورًا نشطًا في شؤون دولية عديدة مهمة لموسكو، بداية من الحروب الأهلية في طاجيكستان وأفغانستان، وصولاً إلى مشكلة تقسيم بحر قزوين. والدولة الثالثة هي إسرائيل، التي يعيش فيها شتات روسي كبير يتحدث الروسية، ويربطها بموسكو علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإنسانية متشابكة.

أما عن القلب العربي لمنطقة الشرق الأوسط، فإن ذروة النشاط الروسي في بداية القرن الحادي والعشرين كان المجهود الناجح لبناء تحالف روسي- ألماني- فرنسي معارض لغزو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة للعراق في ربيع 2003. مع ذلك، فإن الجهود المتكاتفة من جانب موسكو وبرلين وباريس لم تمنع حرب العراق. كما أن ذلك التحالف الثلاثي الظرفي لم يتطور إلى شراكة استراتيجية متعددة الأطراف لحل طيف واسع من مشاكل الشرق الأوسط، ورغم أخطاء الولايات المتحدة وتخبطات سياساتها في المنطقة، إلا أنها ظلت البلد الخارجي المهيمن بلا منازع على العالم العربي. كانت روسيا تأمل فقط في إحراز تقدم بسيط في التعامل مع دول عربية محددة مثل: مصر والجزائر والسعودية وسوريا. 

لقد بدأ الاستقرار النسبي للمنطقة في التدهور في أعقاب الربيع العربي، وهو ما جلب تحديات جديدة وفرص جديدة لروسيا. فمن جهة، كان لدى الكرملين أسبابه للقلق بشأن انتقال عدوى الربيع العربي، ليس بالنسبة لدول الاتحاد السوفيتي السابقة في وسط آسيا، ولكن أيضًا في شمال القوقاز ومناطق أخرى يقطنها مسلمون في الاتحاد الروسي؛ فقد نظر السياسيون والمحللون في موسكو إلى الربيع العربي من عدسة "الثورات الملوّنة" السابقة في أوكرانيا وجورجيا وقرغيزستان، والتي اعتُبرت تهديدًا مباشرًا لمصالح روسيا الأمنية ونظام بوتين السياسي. 

من جهة أخرى، فإن الربيع العربي واستعداد الدول الغربية الرئيسية للترحيب بحماسة بالتغييرات الجارية في العالم العربي، قدّما للكرملين فرصة لإظهار أن روسيا تتبنّى موقفًا مختلفًا، فقد وقفت إلى جانب شركائها الاستراتيجيين في الشرق الأوسط، وعبّرت عن خشيتها من التأثيرات الجانبية السلبية المحتملة للتحوّل السياسي والاجتماعي السريع والمنفلت في المنطقة، كما أنها حذرت من الدعم الأجنبي المقدّم للقوى المعارضة للحكومات والأنظمة التي تركب موجة الربيع العربي. 

استغل بوتين خيبات الأمل والإحباطات التي أحدثتها الحركات الشعبية داخل منطقة الشرق الأوسط وخارجها من أجل عرض روايته للسياسات العالمية المعاصرة، فيما حدّدت الرواية الغربية التقليدية الخط الفاصل الرئيسي في العالم بأنه خط يفصل بين الديمقراطية والاستبداد. فكل ما يخدم قضية الديمقراطية، ينبغي تشجيعه ودعمه، وكل ما يساعد الاستبداد، ينبغي شجبه ومعارضته. 

وقد جادلت الرواية الروسية الجديدة المُعلن عنها عقب بداية الربيع العربي، بأن تلك المقاربة لم تعد ذات صلة في عالم ما بعد العصر الحديث. فالخط الفاصل الحقيقي لم يكن بين الديمقراطية والاستبداد، ولكن بين "النظام" و "الفوضى". بالرغم من كل نواقص وإخفاقات الأنظمة المستبدة، بيد أنها كانت خيارًا مفضلاً مقارنة مع التوجّه الفوضوي والمنفلت نحو الديمقراطية. 

إن كل مَن يدعم الفوضى بقصد أو دون قصد، وبشكل صريح أو ضمني، سينتهي به المطاف على "الجانب الخطأ للتاريخ"، وكل من يساند النظام ضد الفوضى، سيكون على "الجانب الصحيح"، وهذا كان التفسير الذي نُظر إليه باعتباره منحازًا وتبسيطيًا وأنانيًا، وحظي بقبول كبير في الشرق الأوسط، لا سيما بين الأنظمة السياسية المحافظة القلقة بشأن حدوث موجة ثانية للربيع العربي.

وفي هذا السياق، فإن المرحلة الأوّلية للعملية العسكرية الروسية في سوريا، والتي انطلقت في سبتمبر 2015، ينبغي النظر إليها بصورة أساسية بوصفها إجراءً "تربويًا"، فلم يهدف التدخل الروسي لإضعاف المواقف الأمريكية في الشرق الأوسط، ولا طرد الولايات المتحدة خارج المنطقة؛ حيث إنه كان واضحًا منذ البداية أن موسكو لم تكن تأمل في الحلول محل واشنطن في العالم العربي باعتبارها الموفّر الأساسي للأمن؛ كونها ببساطة لم تملك الموارد الاقتصادية والسياسية والعسكرية لفعل ذلك، ولو قررت الولايات المتحدة لأسبابها الخاصة الانسحاب من المنطقة، فإن الفراغ الذي ستتركه لن تملأه روسيا، بل المتطرفون الإسلاميون، وهي ليست نتيجة جذابة لموسكو، وبالتالي، لم يكن الهدف هو طرد الولايات المتحدة، ولكن تغيير السياسة الأمريكية في سوريا، ومن ثَمَّ في المنطقة عمومًا، وذلك عبر إظهار "النهج الصحيح" لإدارة أزمات المنطقة. وقد كان هذا أمرًا مهمًا بوجه خاص فيما يتعلق بالصراع المستمر في أوكرانيا وحولها، حيث كان الكرملين يخشى من تبعات هذا الصراع على علاقاته مع الغرب، وكان مستعدًا لإظهار أن الانخراط الروسي ليس بالضرورة جزءًا من المشكلة، ولكن جزء كبير من الحل. 

لقد دامت هذه المرحلة للانخراط العسكري الروسي في سوريا لنحو عام، وخلال ذلك العام، حاولت موسكو جاهدة إشراك واشنطن، فيما أثمرت جهودها في سبتمبر 2016 توقيع وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" ونظيره الأمريكي "جون كيري" لاتفاق وقف إطلاق النار في سوريا، والاتفاق أيضًا على إطلاق حملة جوية أمريكية - روسية مشتركة ضد تنظيم داعش ومجموعات متطرفة أخرى، فضلاً عن عقد مفاوضات بشأن مستقبل سوريا السياسي.

مع ذلك، تبيّن أن ذلك الاتفاق قصير الأمد. واتهم الطرفان بعضيهما بعدم الوفاء بالتزامات كل منهما للآخر. وقد خلصت موسكو إلى أنه عوضًا عن محاولة التعاون مع الغرب في سوريا وخارجها، ينبغي على موسكو التركيز على بناء "تحالف الراغبين" مع الأطراف الفاعلة في المنطقة المهتمة بالتوصل لوقف إطلاق نار في سوريا.

وفي محاولة منها لبناء تحالف مع الأطراف الفاعلة في المنطقة، عوّلت روسيا على الميزة النسبية الرئيسية التي ميّزتها عن القوى الأجنبية الرئيسية المنخرطة في أزمات المنطقة، فقد تمتعت موسكو بعلاقات طيبة مع كل اللاعبين المحليين، الشيعة والسنّة، وإيران ودول الخليج العربية، الأتراك والكُرد.. وهكذا. كما أن النشاط الروسي الإقليمي تلقى تشجيعًا بطريقة غير مقصودة من جانب إدارة ترامب التي كانت مترددة بشأن نهجها تجاه سوريا أو المنطقة بشكل عام، فيما تبين إطلاق مسار "أستانة" في نهاية عام 2016 أنه انتصار سياسي مهم لروسيا.

وطوال عام 2017، حاولت موسكو مرارًا البناء على النجاح الأوّلي لمسار أستانة عبر توسيع نطاق المشاركين في هذا المسار، بالإضافة إلى توسيع النقاشات لتتجاوز مسألة خفض التصعيد وآليات وقف إطلاق النار، لتتناول تحقيق تسوية سياسية أكثر استدامة. 

لقد تبيّن أن المرحلة الثانية للانخراط الروسي المباشر في المنطقة، كانت أكثر نجاحًا من المرحلة الأولى. مع ذلك، أظهرت تلك المرحلة عددًا من أوجه القصور، من بينها أن إيران وتركيا غير قادرتين على السيطرة على العديد من الجماعات غير التابعة للدولة التي تقاتل في سوريا، كما أن النجاح العسكري المبهر على الأرض جعل دمشق أقل رغبة في نقاش تسوية سياسية في جنيف، وجعل بشار الأسد أكثر ثقةً وتعجرفًا.

وفي محاولة منها لإشراك تركيا، همّشت موسكو أكراد سوريا، الذين لجأوا للولايات المتحدة للحصول على الدعم والحماية. أخيرًا، تبيّن أن دونالد ترامب يتبع سلوكًا متهورًا في المنطقة، وأنه أكثر ميلاً لاستخدام القوة العسكرية الأمريكية ضد نظام دمشق، مقارنة مع سلفه أوباما، بالإضافة إلى إحجامه عن تقديم التزامات جادة لتحقيق تسوية سياسية وإعادة إعمار سوريا في مرحلة ما بعد الصراع. لقد فشل ما يسمى بـ "مؤتمر شعوب سوريا" - الذي عقدته روسيا في مطلع 2018 - بوضوح في تحقيق إنجاز في الوضع على الأرض، كما فشل المؤتمر أيضًا في إحراز تقدم واضح ووضع تصوّر بشأن إحداث تحوّل سياسي في سوريا يفضي إلى خلق دولة أكثر تعددية وتمثيلاً وأقل مركزية. 

وللحفاظ على موقع روسيا الحالي بوصفها طرفًا فاعلاً مهمًا في سوريا على وجه الخصوص و الشرق الأوسط عمومًا، سيتعيّن على الكرملين معرفة كيفية التعامل مع ثلاثة تطورات أخيرة تتطلب تعديلات مهمة في الاستراتيجية الروسية.

أولاً: أن هزيمة تنظيم داعش، التي تعدّ بالتأكيد تطورًا إيجابيًا لجميع الأطراف في سوريا والدول المجاورة، لها جانب سلبي مهم. فالمنافسات والعداوات والمخاوف والصراعات الإقليمية القديمة التي وُضِعت جانبًا للتفرغ لمواجهة العدو المشترك، عادت مرة أخرى للساحة. وقد يزداد الأمر صعوبة بالنسبة لروسيا في عقد حتى تحالفات تكتيكية في المنطقة، فضلاً عن تحالفات استراتيجية. 

ثانيًا: الخلاف الإسرائيلي - الإيراني والأمريكي -الإيراني يعقّد كثيرًا من دور روسيا كـ "وسيط نزيه" في المنطقة؛ فلا إسرائيل ولا إيران راضية بالكامل عن السياسة الروسية المتمثلة في موازنة علاقاتها مع البلدين، ويحاول كل طرف منهما جذب موسكو لصفه في النزاع؛ وبالتالي فإن مخاطر تنفير طهران أو القدس"المحتلة"، أو كليهما، آخذة في الازدياد. 

أخيرًا، لو حققت دمشق في النهاية انتصارًا عسكريًا كاملاً، واستعادت معظم الأراضي السورية، فإن اعتمادها الراهن على موسكو سيتراجع حتمًا. ويمكن القول إن روسيا وشركاءها بإمكانهم كسب الحرب، لكن ليس بمقدورهم كسب السلام في سوريا؛ نظرًا لأنهم لا يملكون الموارد الكافية لإطلاق عملية إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، وبغض النظر عمن سيكون في السلطة بدمشق مع نهاية الحرب، فإن القيادة السورية ستكون مضطرة للبحث عن شركاء وحلفاء آخرين لديهم موارد مالية أكبر من تلك التي لدى موسكو وطهران أو حتى أنقرة.