عفرين بين التهجير وطمس الهوية..

تركيا تعبث بمدينة الأكراد في سوريا

سوريا

وكالات

تشهد منطقة عفرين شمال غربي سوريا أوضاعًا إنسانية صعبة، في ظل عمليات نهب من جانب جماعات مسلحة (مدعومة من تركيا) لممتلكات الأهالي وفرض إتاوات مرتفعة وشراء محاصيلهم بأثمان بخسة لصالح تركيا، لكن الأخطر ما يشير إليه الأكراد- سواء ناشطون أو جهات رسمية كحزب الوحدة الديمقراطي الكردي- (جناحه المسلح وحدات حماية الشعب الكردية المكون الرئيسي لقسد) من مخطط تركي يُنفذه الوكلاء المسلحون على الأرض، يهدف إلى إفراغ المدينة من مكونها الرئيسي «الأكراد»، مقابل توطين قوميات أخرى، في المقدمة منها القومية التركمانية؛ لما تمثله من صمام أمان لتركيا؛ إذ إن التركمان السورييين ينحدرون من أصل تركي.

ًوتعد عفرين إحدى مناطق ثلاثة في الشمال السوري (الجزيرة كوباني، وعين العرب، وعفرين) أُعلنت فيها الإدارة الذاتية للأكراد عام 2015، وعلى خلاف المنطقتين الأخريين شرق الفرات، تكتسب عفرين ميزة خاصة وهي أن غالبية سكانها من الاكراد، بينما المنطقتان الأخريان ذواتا أغلبية عربية.

 ويقدر الإعلامي الكردي أحمد قطيمة نسبة الأكراد في عفرين نحو 95%، إضافة إلى عشيرتين عربيتين أدخلهما النظام السوري، ويشير قطيمة  في تصريح إلى «المرجع» إلى مخطط تركي لخفض نسبة الأكراد إلى نحو 40 في المئة، مقابل توطين تركمان وعرب؛ وبذلك يضرب التركيبة السكانية في المنطقة الأصفى كرديًّا، بل  يهدم وجود مجتمع كردي واحد متجانس، لافتًا إلى معلومات لديه تشير إلى توطين 600 عائلة تركمانية في مركز ناحية بلبل، والسماح بعودة عشرات فقط من العائلات التي نزحت من أصل مئات العائلات في المنطقة، وكان آلاف العائلات قد نزحوا من عفرين مع بدء الحملة التركية عليها والممثلة في ما يُسمى عملية «غصن الزيتون»، التي انطلقت قبل عام تقريبًا (يناير 2018)، قبل أن تسيطر قوات غصن الزيتون على المحافظة في مارس الماضي.

لا تتوافر إحصائية دقيقة عن حجم التغيير الديموغرافي في عفرين حتى الآن، وإن كانت إحصائية للمرصد السوري لحقوق الإنسان لفتت في سبتمبر الماضي، أي بعد نصف العام من السيطرة التركية على عفرين، إلى معاناة 300 ألف كردي من التهجير في عفرين، وتوطين عشرات الآلاف من المستوطنين، إضافة إلى اعتقال نحو 2300 شخص من المحافظة، وسط استيلاء على ممتلكات وفرض إتاوات والاتجار بمختطفين وفرض فدية مالية على ذويهم مقابل الإفراج عنهم.

والتهجير الجماعي عرفته دراسة سابقة (نوفمبر 2016 ) عن التغيير الديموغرافي في سوريا، أعدها مركز نصح (مبادرة لمجموعة باحثين سوريين) بـأنه «ترحيل مجموعة من الأفراد من موقع جغرافي إلى آخر. ويكون جريمةً حال حدوثه قهرًا دون رضى المهجّرين، أو في غياب السند القانوني، أو لم تتوافر شروط السلامة والحماية المطلوبة أثناء التنقل».

 

ويشمل مفهوم الترحيل ما كان بإشراف قوة عسكرية أو شبه عسكرية، من خلال تسيير عملية التنقل، أو من خلال فرض واقع أمني أو اقتصادي أو صحي لا يترك للمدنيين خيارًا سوى الهجرة من محل إقامتهم.

والحالة الأخيرة حيث فرض واقع أمني واقتصادي لا يترك خيارًا سوى الهجرة؛ ما تشير إليه القوى الكردية في اتهامات التهجير والتغيير الديموغرافي لعفرين عقب شهور من السيطرة؛ حيث نشر الكاتب السوري بدرخان علي في مقال بجريدة الوحدة الصادرة عن الحزب أن «السياسة المستمرة منذ احتلال تركيا ومسلحيها السوريين لمنطقة عفرين، قائمة على نهب ممتلكات المدنيين، إلى جانب ارتكاب انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية».

 كل ذلك يبيّن بوضوح أن ما يجري هو سياسة فاعلة ومرسومة وطبقت بجدارة، إلى جانب غيرها من سياسات الاحتلال التركي وأعوانه من السوريين (تهجير السكان وإجراء تغيير ديمغرافي في المنطقة بإسكان آلاف العوائل من مناطق سورية أخرى في منازل سكان عفرين المُهَجرين، تفكيك النسيج الاجتماعي العفريني المندمج والمتآلف، فرض ثقافة دينيّة/ مذهبيّة متشددة غريبة على سكان المنطقة، ضم منطقة عفرين للنفوذ التركي المباشر على الأرض السورية)، والهادفة أساسًا إلى الاعتداء على الخصوصية الثقافية- القومية للمنطقة ذات الغالبية الكردية بروح انتقامية، تليق بعصاباتٍ منفلتة وقطّاع طرق».

وفي العاشر من ديسمبر الجاري، أصدر التحالف الوطني الكردي في سوريا بيانًا بعنوان «عفرين المحتلة تشهد تغييرًا ديموغرافيًّا ممنهجًا، جاء فيه أن عفرين «المحتلة من قبل السلطات التركية ومرتزقتها من الفصائل العسكرية الإرهابية تعتبر شاهدًا حيًّا على أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان؛ حيث تشهد هذه المنطقة الكردية تغييرًا ديمغرافيًّا ممنهجًا تشرف عليها سلطات الاحتلال التركي، من خلال تغيير الطابع الكردي للمنطقة بتبديل الأسماء الكردية لمعالمها، إضافةً إلى تهجير سكانها الأصليين، واستقدام المهجرين من مناطق ريف دمشق وإسكانهم في تلك المناطق، وكان آخر هذه الخطوات إقامة القرية الشامية، في خطوة أشبه بالمستوطنات العنصرية، وذلك إلى جانب عمليات القتل والاختطاف والتعذيب والسلب والنهب التي تحدث بشكل شبه يومي لأبناء شعبنا الكردي هناك، خاصةً الإيزيديين الذين عانوا الويلات على أيدي قوات الاحتلال ومرتزقتها».

وظلت عفرين أبرز ما تداوله النشطاء الأكراد على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الشهور الماضية؛ إذ تداولوا صورًا لشوارع ومستشفيات يتم تغيير أسمائها من الأسماء الكردية إلى التركية والعربية، ورصد المركز الإعلامي لحزب الاتحاد الديمقراطي بعضها، فقال: على خطى نشر الكراهية ونعت الكُـرد بـ(الانفصاليين والكفار)، ومن ثم تبرير وتعميم اضطهادهم وقمعهم، تتواصل جهود تغيير أسماء المعالم والقرى، مثلما جرى في مدينة عفرين، من تغيير دوار «كاوا» إلى دوار «غصن الزيتون»، ودوار «نوروز» إلى «دوار صلاح الدين الأيوبي»، ودوار «وطني» إلى «ساحة الرئيس رجب طيب أردوغان»، وكذلك تغيير أسماء بعض القرى والبلدات، مثل «كوتانا» إلى «ظافر أوباسي» و«قورنه» إلى «أوندر أوباسي» و«قسطل مقداد» إلى «سلجوق أوباسي»، إضافةً إلى إزالة عبارات بالكردية من لوحات دلالة مقرّات ومؤسسات عامة، ورفع العلم التركي على مبانٍ ومآذن جوامع ومزارات ومدارس، وفي ساحات ومواقع لها رمزيتها التاريخية والثقافية، وعلى مقرّات إدارية وعسكرية، مثلما يُرفع العلم التركي في مناطق ما تسمى بـ(درع الفرات)، لتُعبر بوضوح عن مطامح تركية – عثمانية – جديدة في سوريا عمومًا.

وبالتسليم أن ثمة مخطط تركي لإجراء تغييرًا ديموغرافيًّا في عفرين، ما الهدف أو النفع الذي يمكن أن يعود على تركيا من خطوة كتلك؟

تُحاذي مدن الأكراد الحدود الشمالية التركية، شرقًا وغربًا؛ ما يدعم مخاوف تركيا من مخطط إنفصالي يهدد أراضيها، في ظل الصلة التي تتحدث عنها تركيا دائمًا بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وحزب العمال الكردستاني (مصنفان منظمتين إرهابيتين لدى تركيا)، والأخير يعد المؤرق الأول لتركيا في ظل عمليات إرهابية تستهدف الأجهزة التركية ومخطط انفصالي وفق دعاوى تركيا، ومن ثم فإن إجراء تغيير ديموغرافي بنقل الأكراد من الحدود الشمالية السورية – التركية إلى العمق السوري قد يكون سيناريو مرضيًا لتركيا؛ لتقويض مخاوفها من الأكراد، وقد يتم بتفاهمات مع الولايات المتحدة الأمريكية وفق الباحث في العلاقات الدولية طارق دياب.

وهنا يبرز تساؤل: هل يحقق التهجير في عفرين انتقالًا من مناطق الحدود نحو العمق؟

عمليًّا، بعض الهجرات تحقق الهدف بالفعل؛ إذ انتقلت من عفرين في اتجاه الجنوب منها إلى حلب، لكنها الهجرات الأصعب؛ إذ يواجه النظام توطينهم فيها، فأشار المرصد السوري في تقريره في سبتمبر الماضي، إلى موجات نزوح كبيرة من «عفرين إلى ريف حلب الشمالي، بعد أن منعت قوات النظام المدنيين من الوصول إلى مدينة حلب، وجرى فرض نحو 1000 دولار أمريكي على الشخص الواحد، لتهريبه نحو مدينة حلب، كما جرت عمليات تهريب البعض بطرق مختلفة عبر حواجز النظام لداخل مدينة حلب، مقابل مبالغ مالية كبيرة، لتبدأ رحلة المأساة لهؤلاء المهجرين الذي تمكن بعضهم من إيواء نفسه في منازل، فيما جرى إيواء البقية في مخيمات بنيت على عجل، لا تقيهم برد الشتاء ولا حر الصيف».

وبخلاف مناطق سيطرة النظام في حلب، يشير الإعلامي الكردي أحمد قطيمة إلى لجوء بعض النازحين إلى منطقة الشيخ مقصود الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» في حلب، إضافة إلى لجوء بعض النازحين إلى منطقة الشهباء وهي رقعة جغرافية صغيرة لاتزال خاضعة لسيطرة قسد جنوب عفرين، وأخيرًا مناطق شرق الفرات.

ومناطق شرق الفرات التي أشار إليها الإعلامي الكردي هوشنغ حسن ضمن مناطق اللجوء للمهجرين أو النازحين من عفرين، لا تخدم في المقابل سيناريو إبعاد الأكراد نحو العمق، بل على العكس، فهو ينقلهم من منطقة أبعد عن الحدود التركية حيث عفرين إلى مناطق أقرب حيث شرق الفرات؛ ما يزيد حجم الوجود الكردي فيها، ويضاعف تحديات منطقة شرق الفرات أمام تركيا، خصوصًا أن منطقة شرق الفرات تخضع لنفوذ أمريكي مباشر، وتعد منطقة استراتيجية من حيث الثروات الاقتصادية فيها.

لذا فإن عملية التهجير في عفرين في جزء منها ضرر للمصالح التركية إذا ما حاولت نقل المعركة من عفرين إلى شرق الفرات ذات «الواقع المختلف» وفق قطيمة، ويوضح: جميع المدن الكردية على الشريط الحدود، ومن ثم سيعتبر أي هجوم تركي على شرق الفرات تهديد حقيقي لوجود الشعب الكردي على أرضه التاريخية، ومن ثم فإن أي هجوم على تلك المدن سيعني ضعضعة الأمن في عموم شرق الفرات وليس فقط الشريط الحدودي، ولا أعتقد أن لأمريكا مصلحة في ضرب الأمن هناك، بل ستعمل أمريكا على تثبيت الاستقرار عبر فرض المزيد من الحماية على شرق الفرات بما فيها الحظر الجوي، وفي حال فرض حظر جوي على شمال سوريا، ستصبح الغلبة العسكرية لقسد؛ لأن الميليشيات المتطرفة التي تعتمد عليها تركيا لا يمكنها التقدم على حساب قسد، ويمكن أيضًا لو أراد الغرب إخراج تركيا من سوريا، إعطاء قسد الضوء الأخضر للتقدم من منبج نحو مناطق غرب الفرات، ومنها عفرين.

وكما لاحقت تركيا اتهامات بتهجير الأهالي في منطقة سيطرتها حيث عفرين، فقد سبق ولاحقت «قسد» الاتهامات نفسها في منطقة شرق الفرات ضد بعض القبائل والأسر العربية، وذلك في إطار حربها ضد داعش، وكشف تقرير مفصل لمنظمة العفو الدولية تحت عنوان «لم يكن لدينا مكان آخر نذهب إليه» في العام 2015، مدعومًا بشهادات ميدانية في بعض القرى عن ممارسة عناصر قسد عمليات تهجير وحرق منازل ضد مدنين من العرب بتهمة دعم داعش، وجاء فيه أن المنظمة حرصت على  توثيق طائفة من الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن التابعة للإدارة الذاتية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها في شمال سوريا، وتتضمن هذه الانتهاكات ارتكاب عمليات من قبيل التهجري أو الترشيد (النزوح القسري) وهدم المنازل ومصادرة الممتلكات وتدمريها؛ حيث جرى في بعض الحالات تدمير قرى بأكملها على سكانها العرب أو التركمان؛ للاشتباه في مساندتهم داعش.

وإذا كان التقرير قد صدر قبل 3 أعوام فإن أخبار تداول حول انتهاكات لقوات قسد ضد بعض القبائل العربية في مناطق سيطرتها، تجعل الملف مفتوحًا، والأسئلة مطروحة حول تصرف قسد في التحدي البارز أمامها الآن «النازحين» سواء من الأكراد من عفرين أو المدنين من بلدة هجين وهي الجيب الأخير لداعش في سوريا، والذي تخوض قسد معركتها فيه ضد التنظيم.

واتهامات التغيير الديموغرافي المقصود في سوريا، وإن كانت تلاحق الجهات كافة تقريبًا، فمن قبل لاحقت النظام السوري والمسلحين، لكن تظل أبرزها مستهدفة الأكراد، باعتبار مصيرهم أحد أبرز الملفات على الساحة السورية أخيرًا، وحساسيته الشديدة مع الوجود الأمريكي كعنصر فاعل.