يتباريان في مباراة ..

قتل الصورة الصحافية

كانت الحرب تعمل بجد على مدار ثماني سنوات

كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن

كان مشهدا غير مألوف على الإطلاق في جبهات قتال مستعرة أثناء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي.

فبينما يبحث المصورون الصحافيون عن مشهد يكشف فيه الجنود عن نصرهم بإشارات تقليدية، التقطت عدسة الفوتوغرافي الراحل رحيم حسن لقطة غير متوقع أن تحدث في ميدان قتال، كانت استراحة محارب لم تألفها من قبل قصص الحروب.

وضع جنديان صندوق عتاد فارغا بينهما وفوقه رقعة شطرنج وجلسا متقابلين في ظل دبابة يتباريان في مباراة لا نظير لها في تاريخ الحروب.

جنديان يلعبان الشطرنج في جبهات القتال، لقطة فوتوغرافية نادرة التقطتها عدسة الفنان رحيم حسن، لكـن الخيبة قتلت الصورة ورفضت الصحف الرسمية آنذاك نشـرها تحت مسوغـات واهنة مرتبطة بالعزم والانضباط والمحافظة على روح النصر، لأن مثل هذه الألعاب تلهي الجندي عن واجبه القتالي، الجندي يقاتل فقـط لأن الحرب تقتضي الجد، ولا مكان لمثل تلك التسلية الفكرية في ساحات القتال!

انبهر محرر مجلة الشطرنج بالصورة عندما شاهدها ونشرها على غلاف العدد بعد رفض الصحف الرسمية مجرد مناقشة فكرة نشرها، ومع أن مجلة الشطرنج محلية ومحدودة التوزيع ومتخصصة ولا تلقى الاهتمام إلا من المهتمين بالشطرنج آنذاك، إلا أن صورة الجنديين وبينهما رقعة الشطرنج كانت محظوظة بقيمتها الصحافية، عندما التقطها مراسل وكالة أنباء دولية وهو يطالع مجلة الشطرنج وأعاد بثها للعالم في محاولة إنقاذ غير مقصودة لإخراجها من الطوق المحلي الضيق، وبالفعل انتشرت الصورة بوصفها أيقونة سلام فيما جبهات القتال تستعر بالحرب.

من قَدّر قيمة الصورة الصحافية آنذاك، لا أحد تقريبا، إلا المصادفة، وحتى هيئة تحرير مجلة الشطرنج اختارت الصورة لأنها تتواءم مع خطابها، لكنها في حقيقة الأمر كانت لقطة نادرة في زمن ملتبس، والعين الفوتوغرافية للفنان رحيم حسن التقطت ما لا يمكن التقاطه في جبهات القتال.

انتشرت الصورة أشبه بأيقونة في وسائل الإعلام العالمية وحصلت على أكثر من جائزة آنذاك، كانت رسالتها من ميدان القتال لا تقدر بثمن، بينما لم يشعر الصحافيون الذين رفضوا نشر الصورة بالندم! ولم تتغلب ذائقتهم البصرية وفق تعبير الناقد هربرت ريد، على اعتباراتهم السياسية وحساسية التفسيرات الحكومية آنذاك، فلم يبالوا بإخفاء ما يمثل حينها المحتوى المتميز في الصحافة وكان نادرا، على حساب التقارير السائدة والمكررة والصور التي لا تعبر إلا عن رؤية واحدة رافضة أي زاوية مختلفة معها.

إذا كانت هذه القصة من ثمانينات القرن الماضي تعبر بامتياز عن واقع الصورة الصحافية في العالم العربي آنذاك، فإن نفس الواقع لم يتغير كثيرا، إلا بدخول المواطن الصحافي بوصفه شاهدا بعدسته المحمولة على واقع حياتي يحتمل ملايين القصص المثيرة والتي تثير شغف العيون ودهشتها. عدسة المواطن الصحافي تسببت في صدمة جرأة مضافة للصحافي نفسه، لأنها أقل حساسية ومسؤولية عند النشر، وهذا يمنحها حق التقاط ونشر وتزييف ما لا يمكن التقاطه من قبل وسائل الإعلام التقليدية.

هناك معركة صورة متصاعدة في وسائل الإعلام، لا يمكن للصحافة التقليدية أن تبقى متأخرة عنها إلا بتغيير حساسيتها الكلاسيكية والخروج عن السائد. معركة الصورة أقوى وأكثر تأثيرا من معركة الكلمة، مع أن الخبر غير السار بالنسبة إلى الصحافة التقليدية التي تعتمد على صور وكالات الأنباء العالمية، يكمن في تقليص تلك الوكالات مصوريها في أنحاء العالم خشية التصفية، صار المبدأ ألّا يجازف المصور الصحافي بحياته من أجل السبق أو الظفر بصورة معبرة.

بينما اجتهدت بعض الصحف بتشغيل مصوريها في أعمال أخرى أو التخلي عنهم، كما حدث في صحيفة “شيكاغو صن تايمز” عندما استغنت عن المصورين العاملين لديها والبالغ عددهم 28 مصورا وتكليف المحررين بالتقاط الصور في عمل مضاف لمهامهم التحريرية.

ووزعت الصحيفة هواتف ذكية مزودة بكاميرات وعدد أقل من العدسات على المحررين والمراسلين، فيما تشجع المصورين على استخدام الوسائط المتعددة في عمل جديد لهم.

ويأتي التخلي عن مهمة المصور الصحافي مع استحواذ الصحافة الرقمية على المهام الجديدة والتخلي عن أساليب الصحافة القديمة بفضل التقنيات التي توفرها الإنترنت والتطبيقات الإلكترونية المتاحة حاليا.

يقول ديفيد كامبل، المراسل والمحرر في جريدة بنسلفانيا “يمكنك أن ترى بالتأكيد تراجعاً في هذه المهنة. وبصفتي مراسلاً رياضياً، فقد كان يتواجد عادةً عدد من الصحافيين لتغطية الحدث، أما الآن فإنني أكون وحدي فقط في بعض الأحيان”.

وتبدو فكرة التخلي عن المصورين الصحافيين بداية انحدار فن فوتوغرافي مثير للذائقة البصرية ومكمل للقصة الإخبارية. لن تكون حينها الصورة نصف الخبر عندما تلتقطها عدسة هاتف بيد هاو، وهل سيكون بمقدور جوائز بوليتزر للمصورين الصحافيين أن تستمر بمنح جوائزها لهواة المصورين بعدسات الهواتف النقالة؟

هذا الأمر يدفعنا إلى إعادة تعريف صناعة النشر بطريقة لا تكون وفق خفض التكاليف فقط، من أجل الحفاظ على الصحافة حيّةً، فالإعلام المعاصر، على الرغم من الهالة التي تحيط به، يعاني بشكل حقيقي بجوانبه الإخبارية والوثائقية والترفيهية، بسبب تداعيات مرتبطة بعوامل اقتصادية وتكنولوجية وحتى فردية.

ذلك ما عبّر عنه غريج هيود الرئيس التنفيذي لمجموعة “فير فاكس ميديا ليمتد” بقوله “لا أحد يشكك في أننا نعمل في أوقات عصيبة للغاية”.