الإدراك الحسي..

ركائز العلم والشعر وتداخل المسارات

كلا الطرفين: العلم والشعر صورة عن الآخر

سمر الديوب

ليس التقاء العلم الشعرَ جديداً؛ لذا نفترض وجود ترافق في البحث في الإنسانيات مع البحث في الطبيعيات لكيلا تبدو المعرفة هرماً مقلوباً، فالمعرفة تماثلٌ بين نظامي الكون والعقل، وثمة توافق بين نظام الكون والعقل، والعلوم المختلفة فروع لمصدر واحد هو المعرفة.
ويقوم العلم على الشك في كل شيء، ويقوم الشعر على المعنى، وقد يتسلل إليه الشك بقوة، فليس هنالك ثبات في الشعر؛ ذلك أن كل شيء في الحياة قابل للتغيير، وتؤكد القاعدة العلمية أن الحركة هي الأصل في الكون. 
وليس من مهمات الشاعر أن يقرر قضايا حقيقية علمياً، فتعبير الشاعر تعبير عاطفي، ومع ذلك يبدو الشاعر وكأنه يقرر قضايا مهمة، وما يكون صادقاً من الوجهة الشعرية قد لا يكون صادقاً من الوجهة العلمية، فهنالك فروقات كبيرة بين التقريرات العلمية والتعبير العاطفي.
تتمثل المشكلة في إمكان الجمع بين عالمين مختلفين، فيتعامل الفيزيائيون مع واقع كمومي لا يناسب الظواهر اليومية، ولا ترتبط الأشياء في العالم المادي بعالم الكم، لكنّ هنالك عالماً واحداً فقط، ولهذا العالم مظاهر وأبعاد ومستويات كثيرة، فيتعامل الشاعر والفيزيائي مع مظاهر مختلفة للواقع، ويستكشف الفيزيائي مستويات المادة، ويستكشف الشاعر مستويات العقل، وتقبع المستويات كلها وراء الإدراك الحسي، فيصل الشاعر والفيزيائي إلى مستويات غير عادية في الإدراك، ولكل منهما طريقته، ففي حين يعبّر الشاعر عن مستوى روحي عاطفي يعبّر الفيزيائي عن مستوى مادي، لكنّ ثمة انسجاماً عميقاً بين تلك المفاهيم، ومن هذه الفرضية ننطلق، فالعلوم كلها موضوع للنظر العقلي. 
ويثار في هذا المقام جملة أسئلة، من قبيل: كيف يمكن أن نعالج مسألة تداخل المسارات بين علم دقيق تعبر عنه لغة معقدة، وشعر قائم على التأمل، عن أي نوع من المعرفة نتحدث؟ ما الذي يمكن اختياره من المعادلات العلمية والنظريات التي يمكن أن تتداخل مع التأملات الشعرية؟ ما حدود المعرفة العلمية في الشعر؟ ما القيود التي تقف في وجه العلم شعرياً؟ ما حدود المعرفة الإنسانية في الشعر؟ كيف تتجلى الحقيقة العلمية شعرياً؟ ما العلاقة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الشعرية؟ 

يقوم الأدب على المشاعر، وليست المشاعر في حقيقة أمرها سوى مجموعة من العمليات الكيميائية

ويمكن أن نتحدث عن حقيقة علمية، وحقيقة شعرية رمزية مجازية، ونقول: إن الشاعر يصل إلى الحقيقة الشعرية بالحدس، لا بالتفكير العلمي، وقد يصل الشاعر إلى هذه الحقيقة بالعقل عن طريق الاستدلال، فكلا الطرفين: العلم والشعر صورة عن الآخر مع أن الأوصاف الشعرية أدق من الأوصاف النثرية، وأقدر على بيان الفروقات بين الأشياء، فاللغة إذا استُعمِلت استعمالاً علمياً منطقياً تعجز عن أن تصف حالة إنسانية ما.
إن الخيال والذاكرة لا ينفصلان عن العقل، فيحتاج العقل إلى الخيال، ولا يمكن أن يستغني عن تصورات عالم الخيال، فالعقل والخيال متلازمان في فكر الإنسان. 
ويتبصر الشاعر ببصيرته في الكون بعقل يتلهف لسرّ هذا الكون، ويفسر العلمُ الكون، والعلم فرع من المعرفة، وهو مغامرة عقلية للخيال نصيب فيها، ويغدو عقل الشاعر مركز هذا العالم، فقد عاش المعري في عالم خاص به، وتتحدد معالم هذا العالم تبعاً لمستوى فكر الشاعر وذكائه. ويمكن أن يكون هذا العالم ذاتياً، لكنه العالم المتماثل مع العالم الموضوعي، وتتبع شعريةُ العلم الحدسَ والاستبصار، ولا تقل المعرفة الحدسية عن المعرفة الحسية المباشرة، فتنجم شعرية العلم في الشعر عن مصدرين: محاولة فهم الكون المحيط بالشاعر لمعرفته معرفة كافية، والاهتداء إلى وسيلة للتعامل معه.
يتعين على ما سبق أن العالِم والشاعر يشتركان في إيضاح سر الوجود والكون، فيصل العلماء بالخيال والتصور إلى المعرفة، فهل نستطيع القول لا مناص من الشعر لتقديم الحقيقة العقلية؟!! 
ويحتاج العلم إلى الخيال المبدع كما تحتاج الصرامة العلمية، والنص سواء أكان أدبياً أم غير أدبي يحتوي على بنية متكاملة من العلاقات والدلالات، ووحدات داخلية تختلف عن وحدات اللغة المفردة. 
ومع إدراكنا أن الشعر يرتكز على أساس متواضع من العلم لا يصلح قاعدة للبناء العلمي، لكننا نرى أن العلم بالطبيعيات ضروري لفهم الأدب فهماً صحيحاً، فالقضية الصحيحة لا تكون صحيحة حتى تتفق مع نظام الكون كله، والإنسانيات جزء من هذا الكون. ويقوم العقل بتركيز قوانين الكون في صورة مصغرة، وهو ما نراه متحققاً في الشعر حين أوجد الشاعر كوناً مصغراً، فتقوم آلية عمل الدماغ على جمع قوانين الكون في صورة مصغرة. 
يرتبط العلم بالمعرفة، وباليقين، وهو إدراك الكلي أو المركب، والاعتقاد الجازم المماثل للواقع، والعلم تجريبي استقرائي يضع نظاماً عاماً يفسر مشكلات الواقع، وبضع حلولاً لها، لكنّ المعرفة أخص من العلم؛ لأنها علم بعين الشيء مفصلاً عما سواه، ويكون العلم مجملاً ومفصلاً، فكل معرفة علم، وليس كل علم معرفة.

يحتاج العلم إلى الخيال المبدع كما تحتاج الصرامة العلمية، والنص سواء أكان أدبياً أم غير أدبي يحتوي على بنية متكاملة من العلاقات والدلالات 

ويبدأ العالم بحثه من حيث انتهى الآخرون، ويلتقي العلماء عند قوانين العلم، ولا يتفق الشعراء في الشعر، لكننا لمسنا اتفاقاً بين قوانين العلم والشعر.
فالعلم فعالية نقدية تحليلية، يخضع العالم خياله لرقابة الفكر، لكنّ الشاعر خادم للحاجات الإنسانية، وليس خادماً لذاته؛ لذا تحكم القوانين الفيزيائية الإبداع الشعري. والفلسفة أم العلوم جميعها، والعلوم الإنسانية نشاط عقلي يتميز بالدقة، ويستند إلى ثقافة، فالشعر يتنبأ، ويفسر، ويصف الظواهر، وهذا أساس في البحث العلمي، ويثبت الشاعر فرضيته شعرياً كما يسعى العالم إلى البرهنة.
إن ثمة وعياً عقلياً ووعياً حدسياً، وثمة تكامل بين الوعيين، وتنشأ المعرفة العقلية من التجربة التي تنتمي إلى مملكة العقل، فيقوم الذهن بتحليل المتضادات الناشئة عن العلاقة بالآخرين 
ثنائية العلم والأدب ومبدأ التكامل
إذا كان العلم والأدب متضادين فإن المتضادات تتكامل، فإذا وجد طرف من طرفي ثنائية العلم والأدب الضدية فإن الطرف الآخر موجود حتماً.
إن الجوهر في العلم والأدب واحد وإن اختلف الشكل والأدوات، فالأساس في الحالين الملاحظة والتحليل، وأي اختراع علمي سبقه خيال، فالخيال في العلم هو الفرضية، لكن النظرية العلمية تسقط إن لم تتحقق خلاف الأدب. 
ويتفوق الأدب على العلم في الخيال، لكن العلم توصل إلى ما هو أبعد من الخيال، فما توصلت إليه التكنولوجيا المعاصرة يفوق ما تخيله جورج أورويل في روايته 1984. 
ويستعير الفيزيائيون لغة الشعر، ونذكر مثالاً على ذلك كتاب الكون في قشرة جوز لستيفن هوكنغ، ويقوم الأدب على المشاعر، وليست المشاعر في حقيقة أمرها سوى مجموعة من العمليات الكيميائية. ويعالج العلم القلق الإنساني، ويسائل الأدب هذا القلق. إن ثمة وحدة بين طرفي هذه الثنائية الضدية، وإذ يقال إن الأدب لصيق بالروح، والعلم لصيق بالمادة نجد أن كلتا المقاربتين العلمية والأدبية محاولة لفهم العالم وتفسيره، وهي محاولة غير ثابتة، إنها ذات طبيعة متحركة ومتغيرة، فيكتشف عالِم ما أمراً، ويأتي آخر بعده ليضيف إلى اكتشافه. أما الشاعر فقد يظل متفرداً.
ناقدة وأكاديمية سورية