ترجمة

وائل الفخراني: من سائقٍ في كريم إلى آخر

وائل الفخراني

عبدالرحمن طه (القاهرة)

أيّ شخص، بكامل قواه العقلية، يعتلي منصّة ليقول في الناس «لقد رفدوني»؟ الشركة التي كنت أعمل لحسابها أصدرت بيانًا صحفيًا مُصاغًا بعناية، منحني ما بدا خروجًا مشرفًا. كان بيانًا وقورًا يحمل السمات المميزة لمؤسسة كُبرى تتبّع دومًا النهج الأخلاقي. امتدح البيان مؤهلاتي، وأشار إلى عدم توافق لا يُمكن إرجاعه إلا إلى اختلاف في الشخصيات، وأخيرًا هدية وداع؛ التصريح بأن مغادرتي لشركةٍ تضاعفت قيمتها السوقية إلى خمسة أضعاف خلال سبعة أشهر شغلت فيها الوظيفة كان اختياري الشخصي. لقد كان فعلًا راقيًا؛ مديحٌ بلا لوم، وقدرٌ كبير من الاحترام لاختياراتي المهنية. كان الأحرى بي أن أكون شاكرًا على ما أظنّ. لكن المُحزن أن الأمر لم يكن كذلك.

هجرة إلى الوطن

ربّما قرأت مقالي، لماذا تركت «جوجل» لأنضم إلى «كريم»؟ والذي نشرته قبل ستة أشهر على مدونتي، لأعلن عن انتقالي من جوجل إلى «كريم»، بعد عقدٍ من النجاح في شركة التقنية العملاقة. كانت رسالة أملٍ كتبتها لنفسي. كانت لحظة الصراحة والشفافية التامّة أردت مشاركتها مع الآخرين. عن حلمٌ أتوق لملاحقته.

كان الأمر غير مألوف. بينما يُغادر الكثيرون مصر مُلاحقة للفُرص في الغرب، ومُحاولة لبناء حياةٍ أفضل في مكانٍ آخر، قُمت أنا بالعكس. تركت وظيفة رائعة في جوجل، وكل مناقب الحياة الغربية، وهاجرت إلى الوطن. عُدت إلى وطني في مصر والشرق الأوسط، لأنضمّ إلى شركةٍ ناشئة تُدعى «كريم»، كانت تحاول شنّ حربٍ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مُتنافسة مع العملاقة «أوبر».

كانت مصر كل شيء

مهمّة بالغة الصعوبة تلك التي تواجهها كريم. مجال خدمات التوصيل ديناميكي، و(كما اكتشفت لاحقًا) لا يعرف الرحمة. سباقٌ بلا خطوطٍ حمراء نحو الهيمنة على السوق، وبالنسبة لشركة مثل كريم كان الأمر كلّه متوقفًا على مصر. بسكّانها البالغ عددهم 90 مليونًا، ستُصبح مكانًا يُرسّخ قدم الشركة بصفتها «علامة تجارية مهيمنة في الأسواق الناشئة»؛ ويوفّر لها أُفقًا لنموٍ هائلٍ ضروريٍ لتمكين مشروعاتٍ مستفيضة تموّل أي خسائر في مجال خدمات التوصيل. كان الأمر مخيفًا لا يخلو من المخاطرة، لكن ثلاثة أشياء دفعتني تجاه المجهول؛ أولّها أنني مصري أُحارب على أرضي، وثانيها أنني أحب التحدي، وثالثها أن النجاح مكاسبه كبيرة. وفي القلب من الأمر، أردت أيضًا أن أثبت لنفسي أن تغييرًا إيجابيًا يُمكن أن يتحقق، في بلدٍ يُرى الأمل فيها شحيحًا. أردت أن أكون جزءًا من شيءٍ يتحدّى الوضع الراهن.. ويخلق اضطرابًا تسري موجاته مُحدثة أثرًا إيجابيًا على كل طبقات المجتمع.

مصدوم

أشعر الآن بأنني كنتُ ساذجًا. على العكس من بيان كريم، لم أستقيل. لقد طُردت بلا كياسة من الشركة التي أقنعتني بالانضمام إليها قبل أشهر. الأسلوب، والطريقة، والدوافع محلّ النظر الآن في قضيةٍ يجري رفعها على كريم.

أصلٌ قيّم أم عائق؟

تمنعني التزامات تعاقدية من الاستفاضة بالطريقة التي أريدها. أمرٌ مثير للسخرية أن أُحرم من التفصيل المطلوب لبيان الحقائق إزاء ألم خسارة أكبر. لكن إليكم بضع حقائق غير خاضعة للعقد؛ كانت قيمة كريم تبلُغ 200 مليون دولارٍ قبل شغلي الوظيفة مُباشرة، وأصبحت قيمتها مليار دولارٍ في آخر جولات التمويل. لا أُرجع الفضل لنفسي فقط، لا أحد يُمكنه فعلا هذا، لكن سَل مستثمرًا عن أهمية مصر في قصة كريم. سَل أي خبيرٍ صناعي عن مدى أهمية دمج السائقين في مجال تشارك وسائل النقل. يُمكن أيضًا أن يسألوا المستثمرين عن مدى أهمية أن تحظى بشخصٍ يحظى بالمصداقية يقود دفّة الشركة في سوقٍ مهمٍ مثل مصر؛ شخصٌ يتمتّع بسجلٍ حافلٍ في وقتٍ كانت القصة فيه حبرًا على ورق. سَل أيضًا عن عدد السائقين الذين انضمّوا إلى الشركة في الأشهر الستة الأخيرة، وقيمة التوصيلات. بهذا تتكون لديك صورة عن احتياجٍ حقيقي جدًا، وصورة عن تلبية ذلك الاحتياج ظهرت في دفع المستثمرين خمسة أضعاف ما كانوا مستعدين لدفعه قبل بضعة أشهر.

سؤالٌ آخر ربما ترغب في طرحه: هل كان كل هذا يستحق؟ تعيين مدير «جوجل إكس» الإقليمي في الشرق الأوسط وإفريقيا كان مكلّفًا بالتأكيد.. صحيح؟ صحيح.

لن أزيد، لكنني سأقول إن هناك أوقاتٍ يُمكن فيها أن يتحوّل أصلٌ من الأصول القيّمة للشركة (التي حققت غرضها الأكبر بالفعل) إلى عائق، ويمكن للشركات، إن امتلكت ما يكفي من الدهاء، أن تتجنّب التكاليف الباهظة؛ بافتراض أنّها متحررة من عبء تكاليف المصداقية.

وإن يكن؟

هذا هو الواقع، يُطرد الناس طوال الوقت. وليس الأمر عادلًا على الدوام.. تلك هي الحقيقة القاسية الباردة بالنسبة لي. في النهاية ستُسوّى القضية في المحكمة، لذا فإن هذه الرسالة ليس عني. لقد وقفت على المنصّة من أجل شيءٍ آخر. خلال فترة شغلي الوظيفة كُنت مسؤولًا عن تعيين مئات الآلاف من السائقين. إنّها شركة صارت الآن في جوهرها شركة الناس. شركة تزعُم أنّها توفر حياةً أفضل لمن يختار الارتباط بها. يتخلّى السائق عن مصدر كسبه ليعمل في كريم، على وعدٍ بأرباح مستدامة. لكن في صناعة تتخذ خطواتٍ سريعة تجاه القيادة الآلية، في مجالٍ يتعلّق فيه الأمر كله بالكفاءة، وتحت نظام يتطلب النمو من أجل إقناع المستثمرين بالاستمرار في دفع المال؛ فإن مستقبل هؤلاء السائقين زائف، مثله مثل نزاهة الشركة التي تُعيّنهم؛ وهذه هي الحقيقة القاسية بالنسبة لكريم.

من سائقٍ إلى سائق

رأتني كريم ذا قيمة عندما حان وقت جمع التمويل، ورأتني عائقًا حين انتهى الأمر. وفي حين أنني لستُ كل السائقين، فإنني قُدت أعمال كريم في مصر حين كانت لها الأهمية القصوى. أعرف أنّ هذا لن يهمّ الكثير منكم. لكن بالنسبة لسائقٍ في كريم، للأمر أهمية.

*ساسة بوست