البحث عن الخصوصية والتفرد..

تحدي العشر سنوات على فيسبوك لعبة افتراضية لتحسين المزاج

هوس من مرور السنوات

نهى الصراف

أعرب بعض أصحاب النكتة عن عدم اكتراثهم بما قد تبدو عليه ملامحهم، فالمهم عندهم أنهم استطاعوا خلال هذه السنوات مراكمة الأموال والثروات والممتلكات وبعض دروس الحكمة، كما اكتفى بعض أصحاب الصور بدخول التحدي بصور قديمة معدّلة ببرنامج الفوتوشوب، في هروب مخطط له من الواقع خلف أقنعة متعددة أتاحتها لنا التقنية مشكورة.

في العموم، أظهرت التجربة مزيجا من مشاعر القلق وعدم الارتياح التي يتكبدها إنسان هذا العصر بسبب تخوّفه من زحف الشيخوخة إلى ملامحه، وهو خوف مشروع بالتأكيد إذا تتبعنا جذوره يمكننا أن نتمثله في رغبة دفينة في دواخلنا جميعاً للخلود والهروب قدر الإمكان من الموت.

ويرى أستاذ اللغات وعلم النفس الحديث في جامعة براون البريطانية د. جيمس كوزنر، صاحب مؤلف “شكسبير.. أسلوب حياة”، أن التحدي عند البعض كما أظهرته صفحاتهم في الفيسبوك، هو رغبتهم في إبعاد “تهمة” التقدم في السن عن عيون أصدقائهم أو متابعيهم، وكأنها ذنب يحاولون تبريره أو تزويقه، لكن رغبتهم مستحيلة التحقيق بالتأكيد لأنهم تقدموا في السن فعلاً ولا شيء يمكن أن ينفي هذه الحقيقة.

ويشير عالم النفس د. كاريج مالكين إلى أن النرجسية تدفع بعض الأشخاص إلى البحث عن الخصوصية والتفرد لكن في حالة تعد مرضية تماماً، إحدى نتائجها تتمثل في ادعاء أصحابها عدم تقدمهم في السن، وبالطبع هي تمثل حالة خاصة بحب الذات المفرط أو النرجسية وهذا مخالف للواقع، إذ أننا نخضع جميعاً لحكم الطبيعة والزمن لذلك فإن التقدم في السن والتغيير في الملامح أمر يتماشى مع منطق مرور السنوات، وعلينا تقبل ذلك سواء رضينا أم لم نرض.

وفي “صورة دوريان غراي”، الرواية التي كتبها الشاعر والكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد (1854-1900) ، تطوع صديق البطل الشاب الوسيم برسم صورته، الصورة التي وضع فيها من نفسه “أكثر مما ينبغي لرسام أن يضع في صورة”، وكانت اللوحة أهم عمل فني قدمه في حياته لكنه لم يستطع التنبؤ بأهميتها بالنسبة لصاحبه الوسيم
غراي، والدور الذي ستلعبه في حياته بعد ذلك.

عندما رأى دوريان غراي صورته داخل إطار البورتريه الذي رسمه صديقه، تمنى أن يبقى الشاب الوسيم شاباً ولا يشيخ فخطرت في باله فكرة جهنمية ليصرح للرسام “إذا استطعت أن أبقى شاباً وهذه الصورة تشيخ! سأبذل كل شيء من أجل ذلك”.

وفي لحظة ضعف، تخيل غراي أن الإنسان يفقد كل شيء يوم يفقد جماله، “فالشباب هو كل ما يستحق أن نتمناه لأنفسنا في هذه الحياة، ولسوف أقتل نفسي حين أعرف أن شبابي قد ذهب.. إني أغار من كل شيء جماله لا يموت.. أغار من الصورة التي نقلتها عني، فكيف يبقى لها جمالها وأفقد أنا جمالي مرغماً؟ ليت الأمر كان عكس ذلك.. ليت الصور تتغير وأبقى أنا على حالي”!

كان غراي يؤمن بأننا كبشر لا نحس بشبابنا، لأننا نمتلكه، ولن نشعر به إلا إذا فقدناه “ولسوف تفتقده يوم يضيع منك، ستفتقده حين يزول جمالك ويمتلئ وجهك بالغضون، ستفتقده حين يحفر الهم أخاديده في جبينك الجاف.. قد يكون الجمال قشرة ظاهرية ولكن الظواهر هي كل شيء في الحياة.. لغز الحياة هو ما نراه وليس ما لا نراه”.

التحدي عند البعض كما أظهرته صفحاتهم في الفيسبوك، هو رغبتهم في إبعاد “تهمة” التقدم في السن عن عيون أصدقائهم أو متابعيهم، وكأنها ذنب يحاولون تبريره أو تزويقه

هكذا، أخذه الغرور وأعماه حب الدنيا فصلى إلى الآلهة أن تجعل الصورة تحمل أوزار حياته وأن تبقي له على شبابه الناضر إلى أن يموت.. وهكذا بدأت مأساة حياته. تحققت أمنية دوريان بطريقة فظيعة، فقد قام بأفعال بشعة وبدأت ملامح وجهه في اللوحة تتغير؛ شاخت وأمست قبيحة حيث عكست فساد روحه، بينما بقي في الواقع شاباً وسيماً محافظاً على نضارته.

تعرض الرواية بقصتها الغريبة، لرغبة الإنسان في الخلود وخوفه من الشيخوخة والتقدم في السن وتوقه إلى البقاء في سن الشباب والحيوية، ثم رفضه لكل ما من شأنه أن يعزز فكرة الفناء حتى لو كان هذا الرفض مجرد فكرة جنونية تتأرجح في مخيلة خصبة، لا تعترف بالحدود بين الواقع والخيال.

يؤكد د. جيمس كوزنر على أن بعض تعليقات الأصدقاء التي أظهرها تحدي العشر سنوات، كانت أقرب إلى التطمين والتشجيع منها إلى الحقيقة، حيث كتب بعضهم إلى أصدقائهم “لقد كانت الحياة عادلة معك، يبدو أن ملامحك لم تتغير كثيراً”، ولا يعرف ما إذا كان هذا النوع من التعليقات يعبر عن قناعة أصحابه أم أنه مجرد تشجيع للشخص الذي قبل دخول التحدي.

في كلتا الحالتين، يسارع الأصدقاء بضخ تعبيرات الإطراء في تعليقاتهم وكأنهم بذلك يقرون بأن التقدم في السن أمر سيء وكأنه لعنة، وهم في الحقيقة إنما يقدمون هذه الخدمة المجانية لتبديد مخاوفهم الشخصية، إذا صادف أن تعرضوا لموقف مشابه مؤكدين لأنفسهم أنهم سيحصلون على دعم مشابه من أصدقائهم