سعوا إلى الاحتفاء بعملية الحكي..

كيف تطور النزعة التجريبية في الكتابة السينمائية بالمغرب؟

احتفى السينمائيون المغاربة بفن الحكي

بوشعيب الخياطي

بعد أن اغتنت الفيلموغرافيا المغربية بمنجز سينمائي يفوق الثلاثمئة شريط روائي طويل، وحققت بذلك تراكما كمّيا ملحوظا، صار بالإمكان تصنيف هذا المنجز ضمن اتجاهات فنية تحدد على وجه التقريب الخطوط الكبرى لنزعات السينمائيين المغاربة الفكرية وتوجهاتهم الجمالية. وفي هذا الإطار بدا لنا أن المنجز السينمائي المغربي الطويل لا يخرج في أحسن الأحوال عن توجهات ثلاثة: توجه تقليدي يعطي الأولوية للحكاية ويعتني بالمتلقي ويسعى للاستجابة إلى أفق انتظاره، وتوجه حداثي يحتفي بالحكي وما يتصل به من تجريب على مستوى وسائل التعبير وأشكاله، وتوجه توفيقي يوزع اهتمامه بين الحكاية والحكي ويسعى إلى تحقيق معادلة الإبداع والتلقي في آن معا.

بخلاف التوجه التقليدي، سعى التجريبيون المغاربة -وهم يصنعون أعمالهم السينمائية- إلى الاحتفاء بعملية الحكي، باعتبارها المدخل الرئيسي للكشف والتجريب والبحث. فوجهوا اهتمامهم نحو الصورة وتعاملوا معها باعتبارها بلاغة تثوي بداخلها دلالات الفيلم وإيحاءاته. فالمعنى في هذا التوجه غامض وملتبس ولا نهائي، ينبغي على المشاهد الحفر في أخاديد الصورة من أجل تلمس بعض من إشراقاته. لذلك يأتي الفيلم مكسوّا بالعلامات العميقة، محتشدا بالرموز المستغلقة، مزدحما بالرؤى المتنافرة، موغلا في الخيال، مغرقا في الذاتية. وبالتالي فإن صانعه لا يعبأ كثيرا بالحكاية، بل ينسفها نسفا، ويعوضها بشذرات تحيل على عوالم يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، والخيالي بالواقعي، والماضي بالحاضر.

ويدين الفيلم الذي ينحو هذا المنحى بالولاء إلى فلسفة ترى أن السينما ليست وسيطا لقص الحكايات، وإنما هي وسيط لتوليد الأفكار، وبالتالي فإن المخرجين السينمائيين ليسوا فنانين عاديين، بل هم مفكرون عظام، تقتضي مرتبتهم أن يعملوا على تقويض أركان أنماط الإنتاج الفني المألوفة والمتداولة والمبتذلة، التي تتوافق مع النشاطات الحسية والحركية، وأن يبتدعوا عالما إشاريا طازجا خاصا بهم، حتى يتمكنوا من التعبير عن رؤاهم المتفردة.

ومن معالم هذا العالم، التعامل مع الفيلم باعتباره استشرافا وتأملا، يستثير الأسئلة في ذهن المشاهد، أكثر مما يقدم إجابات، أو يروّج لأطروحات، بل قد لا يهتم بالجمهور إطلاقا، لأنه لا يلقي بالا للقضايا التي من الممكن أن تشغله. فالفيلم الذي يدين بالولاء لهذا التوجه، لا يحكي قصة مترابطة الوحدات، بل يشكك في وجودها، ولا يعتبرها إطلاقا وسيلة من الوسائل التي بإمكانها أن تحقق الغاية المرجوة، إنه يتحاشاها، ويستكشف جوانب جمالية لا علاقة لها بالحكاية، كما أنه يبدو بمثابة الحلم الذي يصوغ الجمال من القبح، ويحول المأساة إلى جمال. لذلك فالقضايا الأخلاقية لا تهمه، وإنما الذي يؤرقه هو توجيه انتباه المشاهد إلى العناصر التي تضمن للفيلم سينمائيته، كما أنه يحرص أحيانا على تقديم تجربة جمالية تحطم حرمات الجمهور وتنتهك مقدساته.

ومن الملامح الفنية والجمالية لهذه السينما، التباطؤ في السرد، والتطويل في عرض الصورة، وتجزئة السرد التتابعي بالتركيز على استقلالية الصورة، واستخدام اللقطات غير المنسابة التي تترك للمشاهد مجالا كبيرا للتأمل في الصورة، واعتماد صور سريعة ومفككة وصادمة، وتوظيف طرق ملتوية في السرد من خلال التلاعب بالأزمنة بغية اللعب على توقعات المشاهد، وخرق الأسلوب التقليدي في تأطير اللقطات، وزوايا التقاط الصورة، إضافة إلى العزوف عن استخدام المونتاج التتابعي بغاية تخريب توقعات المشاهد، وتكسير الاستمرارية الزمنية، واللجوء إلى المونتاج الإيقاعي حيث الأولوية لا تنبع من منطقية التتابع، وإنما من إيقاع الفيلم، والزمن الذي استغرقته اللقطات طولا وقصرا، أو تقنية القطع المونتاجي، حيث يتم تقطيع الصورة مونتاجيا إلى العديد من اللقطات، ثم إعادة تركيبها من جديد. فهذه السينما ترنو للوصول إلى أفق جمالي في شكلها، وذلك عبر تقديم بنية درامية مضادة للدراما التقليدية، وتفكيك السرد، وتشويه قواعد التكوين داخل اللقطة، وكسر قواعد المونتاج، وإلغاء علاقة التعاطف بين المتفرج وأحداث وشخصيات الفيلم.

في جوع كلبك إيهام للمشاهد أيضا بأن الفيلم يقوم على قصة مرتبطة بوزير الداخلية المغربي السابق إدريس البصري
في جوع كلبك إيهام للمشاهد أيضا بأن الفيلم يقوم على قصة مرتبطة بوزير الداخلية المغربي السابق إدريس البصري
ويمكن في هذا المقام الإشارة إلى الموجة الفرنسية الجديدة التي استحدثت لغة سينمائية، مفرداتها من الصور واللقطات، يستخدمها السينمائي كما يستخدم الأديب والشاعر مفردات اللغة، يصوغ بها الرواية أو المقال أو القصيد، وبذلك أصبح بإمكان السينمائي أن يعبّر عن وجهة نظره الفنية والإنسانية بالكاميرا. فالفن ليس عظة أو مواعظ تقدم للمتلقي، وإنما هو إحساس يقدمه السينمائي، ويترك للآخر حرية الاستجابة، منطلقا من حجم الوعي الجمالي والفكري في ذات المتلقي. كما راهن هذا النوع من السينما على استحداث وسائل تعبير جديدة، من قبيل التصوير عبر لقطات مختلفة الأحجام والزوايا، ومن ثم تركيب هذه اللقطات على نحو جديد باستخدام المونتاج، وكذلك بناء الحدث على نحو متواز بما يطور من إمكانات السرد السينمائي، واستخدام الحلول البصرية القائمة على الخدع السينمائية. كما تحولت السينما مع هذه النزعة إلى خطاب مدثر بالمجاز والاستعارة والخيال، قابل لعدد لا متناه من القراءات والتأويلات، نظرا لما أحدثه من خلل في مسار الحدث السينمائي.

ويمكن القول -دون مجازفة- إن مجمل المتن السينمائي السبعيني -على قلته- كان تجريبيا، ما عدا بعض الاستثناءات القليلة. فمعظم السينمائيين المغاربة الذين أنجزوا أعمالهم الأولى خلال هذه الحقبة، كانوا منبهرين بالاتجاهات الطليعية التي عرفتها السينما الأوروبية خلال فترة الستينات من القرن الماضي في فرنسا وإيطاليا وبولونيا. ونشير في هذا المجال إلى فيلم أحداث دون دلالة لمصطفى الدرقاوي، وفيلم الشركي أو الصمت العنيف لمومن السميحي، وفيلم جرحة في الحائط للجيلالي فرحاتي، وفيلم القنفودي لنبيل لحلو.

وانتقلت النزعة التجريبية في صنع الأفلام المغربية إلى المرحلة الثمانينية مع استمرار الدرقاوي والسميحي ولحلو في نهجهم السابق. فقد وقع الدرقاوي أيام شهرزاد الجميلة، وعنوان مؤقت، ووقع السميحي 44 أو أسطورة الليل، وقفطان الحب، ووقع لحلو الحاكم العام لجزيرة شاكرباكربن وكوماني وإبراهيم ياش. كما برزت في هذه المرحلة أسماء أخرى استهواها التجريب ومفارقة النمط السائد، كمحمد أبي الوقار من خلال فيلم حادة الذي اعتبر في حينه لوحة فنية جميلة حازت رضى العديد من النقاد والسينمائيين، لكنها لم تستطع في المقابل استقطاب جمهور المشاهدين. وأحمد البوعناني من خلال فيلم السراب، وأحمد ياشفين من خلال فيلم كابوس.

وستواصل النزعة التجريبية رحلتها في الزمن السينمائي المغربي خلال تسعينات القرن الماضي، وسيواصل معها الدرقاوي والسميحي نهجهما السينمائي، الأول من خلال فيلم قصة أولى، وفيلم أنا الماضي، وفيلم أبواب الليل السبعة، والثاني من خلال فيلم حكايات مغربية. كما سيوقع -وفي نفس المنحى- التيجاني الشريكي فيلمه الأول إيمير أو الأشواك المزهرة، وداود أولاد السيد فيلم باي باي السويرتي.

وسينضم إلى القافلة التجريبية في العقد الأول من القرن الحالي وبداية العقد الثاني من القرن نفسه عمر الشريبي من خلال فيلمه السر المطروز، وحكيم بلعباس من خلال أفلامه خيط الروح، وأشلاء، ومحاولة فاشلة لتعريف الحب، ونورالدين لخماري من خلال فيلمه النظرة، وإدريس شويكة من خلال فيلمه لعبة الحب، ولحسن زينون من خلال فيلميه عود الورد وموشومة، ومحمد مفتكر من خلال فيلمه البراق، ومحمد أشاور من خلال فيلمه فيلم، وهشام العسري من خلال أفلامه جوع كلبك، والبحر من ورائكم، وضربة في الراس.

وعلى الرغم من انتماء هذه الأفلام إلى النزعة التجريبية، فإنها تختلف في بعض التفصيلات، فالبعض منها حاول أن يبقي على خيط رفيع بينه وبين الحكاية، إلا أنه جعلها وسيلة لمراكمة أكبر عدد من الرموز والإيحاءات (قفطان الحب لمومن السميحي، وجوع كلبك لهشام العسري) والبعض الآخر غاص في عالم الأحلام وصنع كونا عبثيا وفق أسلوب ساخر وهجائي (القنفودي، وإبراهيم ياش لنبيل لحلو) والفريق الثالث أغرته الصورة فرسم لوحة تشكيلية تجريدية جميلة محصّنة بالسلاسل والأقفال (حادة لمحمد أبي الوقار، وإمير للتجاني الشريكي).

إن معظم هذه الأفلام قد جعل من الكفر بالتواصل مبدأ أثيرا لديه، لذلك ظل معزولا عن الجماهير، إذ لم تتح له فرصة التوزيع داخل القاعات السينمائية، ما عدا بعض الاستثناءات القليلة كفيلم قفطان الحب لمومن السميحي. وهناك من صادفه الحظ فعرض في بعض الملتقيات السينمائية كجوع كلبك لهشام العسري وحادة لمحمد أبي الوقار، وهناك من مرّ على حين غفلة في التلفزيون المغربي كالقنفودي لنبيل لحلو، وهناك من نال رضا الجامعة الوطنية للأندية السينمائية فوزعته على روادها كفيلم عنوان مؤقت لمصطفى الدرقاوي.

وإذا كان بعض من هذه الأفلام قد نال إعجاب النقاد السينمائيين والنخبة المثقفة ورواد الأندية السينمائية، فإنه لم يظفر بالأمر نفسه مع جمهور المشاهدين الذين استثقلوا متابعته، نظرا لبنيته المفككة، وإفراطه في الغموض، وعرضه لعوالم غريبة، وتكسيره لقواعد الحكي المتعارف عليها، وتشييده لبلاغة سينمائية غير معتادة. وهنا يطرح إشكال التلقي مرة أخرى بصدد هذه النوعية من الأفلام. ففي غياب تفكير استراتيجي يجعل من الصورة مكوّنا من مكونات الفعل التعليمي بجميع أطواره ومراحله، سيبقى المشاهد ضحية لنمط واحد من التلقي رسخته الألفة في وجدانه، وكرسته العادة في مخيلته.

نماذج متعددة لأسلوبية واحدة
يحفل “الريبرتوار” السينمائي المغربي بمجموعة من النماذج الفيلمية التي جسدت بوضوح المنحى التجريبي في الكتابة السينمائية، وكشفت في غاية من الجلاء عناصره ومكوناته، ويمكن أن نذكر في هذا الإطار فيلم السراب لأحمد البوعناني، وفيلم جوع كلبك لهشام العسري، وفيلم محاولة فاشلة لتعريف الحب لحكيم بلعباس.

ففي السراب محاولة لإيهام المشاهد بأن الفيلم مبني على قصة مستلهمة من واقع الناس، ويتعلق الأمر برجل بدوي فقير معدم، عثر بالصدفة على قدر وفير من المال داخل كيس من الدقيق، الأمر الذي سيفجّر بداخله طاقة هائلة من الحلم، ستتكسر في آخر المطاف على عتبات الواقع المحكوم بإرادة فوقية، لا سلطة للمغلوبين والمقهورين عليها، ولا مشاركة لهم في صنعها. هو إيهام إذن لأن هذه الحكاية لم تكن هي قوام الفيلم ولا أساسه، بل كانت فقط مطيّة لحفز المشاهد على التفكير والتأمل في جملة من القضايا التي حبل بها السياق الذي كان يحف المرحلة التاريخية المؤطرة للحكاية، كالقهر الاجتماعي والنفسي، والانشداد إلى الموروثات المتأصلة في الوجدانين الفردي والجماعي، والاحتفاء بالعقل والعقلانية والتحديث والحداثة. ومما يدعم التعامل مع الحكاية بوصفها سندا لا غاية، الانصراف عن السرد الكرونولوجي، والتركيز على المشاهد البصرية المحمّلة بالدلالات والرموز، والاحتفاء بالكلمة الشعرية المشحونة بالإيحاءات والمجازات، واستلهام الفنون الشعبية المتجذّرة عميقا داخل النسيج الثقافي المغربي، والتي تشكل خزانا لا ينضب من الرؤى والأحلام والتعبيرات، إضافة إلى شحن الفيلم برؤية يمتزج فيها النقد اللاذع بالحس العبثي الغرائبي.

وفي جوع كلبك إيهام للمشاهد أيضا بأن الفيلم يقوم على قصة مرتبطة بوزير الداخلية المغربي السابق إدريس البصري، لكن المتأمل المتأني في الفيلم يدرك أن هشام العسري لا يعبأ إطلاقا بالحكاية، بل إنه يتخذها فقط وسيلة لنسج عالم تخييلي، يفتح من خلاله النار على فترة عصيبة من الفترات التي عاشها المغاربة إبان أن كان البصري وزيرا للداخلية. لكن العسري وهو يفتح نار مدفعيته، لم يستعمل سلاح الخطابة والوعظ والإرشاد والسرد التقليدي، بل فعل ذلك وفق أسلوب سينمائي لعبت فيه الصورة الدور الأول والأخير. كاميرا محمولة على اليد، وصورة تكاد تكون في حكم المضببة، وتوضيب متلاحق سريع زاحف، ومؤثرات صوتية صاخبة تملأ فضاء الشاشة ضجيجا، هذا بالإضافة إلى استلهام تقنيات لا سينمائية وافدة من جنس الصحافة، ويتعلق الأمر بتقنية الروبورتاج. أما الحوار فإن جنوحه نحو الالتباس والغموض، وتكسيره لأحادية المقصد قد زاده عمقا وبلاغة وقدرة على حفز المشاهد على التأمل والتفكير.

وفي فيلم محاولة فاشلة لتعريف الحب، سيعتمد حكيم بلعباس أسطورة بحيرة أسلي وتيسلت إطارا عاما لبناء حكيه السينمائي. وتروي هذه الأسطورة حكاية حبيبين استعصى أمر زواجهما لظروف قاهرة عاتية تجاوزت قدرتهما على التصدي والمواجهة، فلم يجدا سبيلا للتخفيف من وطأة ما لقياه، والتعبير عن همها وحزنهما غير الاستمرار في عملية البكاء، فامتلأت بدموعهما بحيرة أسلي وتيسلت. فاستحضار بلعباس لأجواء هذه الأسطورة لم يكن الهدف من ورائه تقديم حكاية تستلهم الخط السردي الناظم لبنية هذه الأسطورة.

بخلاف التوجه التقليدي، سعى التجريبيون المغاربة -وهم يصنعون أعمالهم السينمائية- إلى الاحتفاء بعملية الحكي، باعتبارها المدخل الرئيسي للكشف والتجريب والبحث
بخلاف التوجه التقليدي، سعى التجريبيون المغاربة -وهم يصنعون أعمالهم السينمائية- إلى الاحتفاء بعملية الحكي، باعتبارها المدخل الرئيسي للكشف والتجريب والبحث
، وإنما كانت غايته الكشف عن رؤية ذاتية للعلاقات الإنسانية في مجتمع تغيرت فيه القيم واختلّت فيه المبادئ. ولم يتوسل المخرج بما هو متداول من أدوات تعبيرية، بل اجترح لنفسه مسلكا فنيا يمزج بين التسجيلي والروائي. فقد شرع بداية في سؤال أهل المنطقة عن حقيقة البحيرة، ثم اختار بعد ذلك الممثلين اللذين سيجسدان دور الحبيبين، لينطلق أخيرا في تقديم حكاية حمزة وزينب ليس بمنطق سرد الحدث، ولكن بمنطق عرض التجربة الذاتية للشخصيتين الرئيسيتين بما يشكلها من شوق وألم وحسرة. ولأن الأمر كذلك، فقد اختار المخرج أن يقسم فيلمه إلى مجموعة من الفصول يحمل كل فصل منها عنوانا، لا يشير إلى معنى بعينه وإنما يفتح المجال واسعا أمام المشاهد، ليكتشف عما يختبئ بأعماقه من أسرار دلالية.

ولاء مطلق للنزعة التجريبية
ومن الأفلام السينمائية المغربية التي يكاد النقاد يتفقون حول نزعتها التجريبية، فيلم قفطان الحب المنقط بالهوى للمخرج المغربي مومن السميحي. ففي هذا الفيلم محاولة للاقتراب من موضوعتين نفسيتين هما النرجسية والازدواجية. وقد عمد المخرج لتحقيق هذا الاقتراب إلى اختيار عالم غريب يعلو على القوانين والأعراف والمواضعات، ويتجاوز سلط العقل والقانون والأخلاق، إنه عالم الرؤى والأحلام والتخيلات.

تبدأ عملية الزج القسري بنا في هذا العالم الغريب منذ المشهد الأول من الفيلم، حيث يقدم لنا المخرج البطل خليل في صورة إنسان حالم يرغب في الزواج من فتاة جميلة يصادفها على شاطئ البحر. وينقطع المشهد ليكتشف البطل أن ما رآه لم يكن إلا حلما. وينقلنا المخرج من هذا العالم الحالم إلى عالم الواقع، حيث البطل إنسان عادي يباشر عمله بما يستحقه من الجدية والاهتمام، وتربطه بمؤسسات المحيط الذي يحتضنه علاقات طبيعية.

إلا أن الشيء الذي يملأ حياته، ويؤرق باله أكثر من غيره، هو ذلك الحلم. ثم يعود بنا المخرج -ومن خلال لحظات خاطفة وسريعة تم فيها اختزال المسافات- إلى عالم الواقع، حيث يخطب البطل فتاة أحلامه، ثم يتزوجها بعد ذلك. لكننا ما نلبث أن نكتشف أن ما يجري أمامنا على الشاشة ما هو إلا وهم في صورة حقيقة، خصوصا أثناء بعض اللحظات التسجيلية من الفيلم التي قدم فيها المخرج أجواء احتفالية لا تجسد بالمطلق عادات وأعراف المنطقة الشمالية التي من المفترض أنها تحتضن وقائع الفيلم. وتنطلق مرحلة أخرى من الفيلم مباشرة بعد انتهاء حفل الزواج، لقد اكتشف بطل الفيلم أن زوجته الحسناء معجبة بجسدها إلى درجة الجنون، فهي تقف ساعات طوال أمام المرآة للتمتع بجماله، بل إنها أصبحت تتخيّل أن الصورة التي في المرآة ليست صورتها، وإنما هي صورة امرأة ثانية أكثر بهاء وجمالا، تريد أن تسرق منها زوجها.

وتنجب رشيدة صبيا يتم الاحتفال بمقدمه -وعلى عادة الكثير من الأسر المغربية- بذبح كبش. وفي هذه اللحظة بالذات بدأت تتكشف أول ملامح الفاجعة. فقد اختار المخرج أن تتم عملية الذبح بواسطة شفرة حادة تستعمل عادة للحلاقة، كما اختار أن يوجه كاميراه صوب عنق الكبش بواسطة لقطة مكبرة، مركزا على الدم الذي يسيل غزيرا. أما رشيدة، فلم تتأثر بهذا الطقس الاحتفالي المروع، بل أحست بأن هذا الصبي هو بمثابة جسد غريب عنها، ينبغي التخلص منه في أقرب مناسبة.

وبالفعل فقد تم لها ذلك في جو تورع المخرج في الكشف عن تفاصيله. ولم يكن رد الفعل أمام هذه الجريمة الشنعاء طبيعيا. فخليل انبهر أمام الحدث انبهارا لا يجسد هول المأساة، أما بقية أفراد الأسرة فإن ما صدر عنهم يدل وكأن ما جرى لا يعنيهم. وتتواصل رحلة خليل الزوجية منبئة بالمزيد من الفواجع، لقد بدأ يكتشف أن فتاة أحلامه ستضيع منه، لذلك التجأ إلى طبيب نفساني في مرحلة أولى، ثم إلى الحضرة في مرحلة ثانية. غير أن كلا الحلين لم يجديا نفعا فقد ازداد حال رشيدة سوءا، فلم تعد تفكر سوى في التخلص من منافستها، بل ومن زوجها أيضا. ويتم التبشير بفاجعة جديدة حينما ستكسر البطلة المرآة، ليتقاطر الدم من بين شقوقها، وفعلا ستقتل المريضة نفسها، ليتم دفنها في جو جنائزي رهيب، وليستمر خليل في رحلة أحلامه المجنونة.

الفيلم يبدأ بالحلم وينتهي به، وبين الحلمين تحتشد مجموعة من الدوال التشكيلية واللغوية والأيقونية والموسيقية، التي بدا أنها تشكل نسقا مغلقا ومنغلقا يصعب فك ألغازه. يتعلق الأمر بجملة من وسائل التعبير الجمالي، كزوايا الالتقاط في بعديها المرتفع والمنخفض، واللغة التي كانت في أغلبها فرنسية، والموسيقى المستوحاة من التراث المحلي، واللقطات المختلفة الأحجام، والمونتاج الموازي، والبنية الزمنية المنكسرة القائمة على أساس المفارقات السردية.

ومما زاد من إبهام هذه الدوال وتعتيمها، وانفلاتها من الحصر، وبالتالي تقوية انفتاحها على احتمالية الدلالة ولا نهائيتها أحيانا، اختيار عالم الأحلام كإطار لاشتغالها وفضاء لتحركها. ولكن وعلى الرغم من ذلك، فإن المعاينة الصبورة والمتأنية لهذه الدوال قد تكشف عن بعض من أوجه الدلالة الثاوية خلف الغشاء السميك الذي يغلف العالم الدلالي للفيلم. إن الأمر قد يتعلق بسعي للكشف عن لا شعور قابع في دواخلنا يرتبط بعشق جنوني ومرضي لذواتنا، ولا سبيل إلى التخلص منه إلا بالتخلص من هذه الذوات، كما قد يتعلق الأمر برفض تام للواقع الكائن، ومحاولة لتقويض أركانه، ومن ثم تأسيس واقع ممكن يستجيب لتطلعات الذات الباحثة دوما عن التخلص من قيود الأنا الأعلى ومن اشتراطاته.