جذورها الثقافية مغموسة بالأساطير والبروباغاندا..

ما الأسباب الحقيقية «المحجوبة» وراء {بريكست}؟

أرشيفية

وكالات

أُنفقت ملايين الأطنان من الورق والأحبار، وساعات لا تُحصى من الهواء التلفزيوني على تقديم تفسيرات وتحليلات لنتيجة الاستفتاء الشعبي الذي أجرته الحكومة البريطانية يوم 23 يونيو (حزيران) 2016 حول استمرار عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي (ما اصطلحت الصحف على تسميته وقتها بـ«البريكست» وهو تعبير مستحدث من دمج كلمتي بريطانيا ومغادرة معاً في كلمة واحدة). إذ خالفت النتيجة وقتها والتي أعطت أغلبية 52 في المائة من الأصوات لمصلحة مغادرة الاتحاد معظم توقعات المُراقبين بمن فيهم مؤيدو البريكست أنفسهم الذين لم تكن لديهم أي تصورات واضحة عن الغاية من دعوتهم تلك أو خطة محددة للتعامل مع علاقة ممتدة ومتداخلة مع الاتحاد عمرها أكثر من أربعة عقود ناهيك عن تداخل مستديم لمصائر البريطانيين والأوروبيين بحكم التاريخ والجغرافيا وعلاقات القوة في العالم. وقد تمحورت الغالبية العظمى من التفسيرات والتحليلات حول العوامل الآنية التي طرحها فريقا الحملات الانتخابية الرسمية لمبررات البقاء أو مغادرة الاتحاد كاستعادة السيادة من بروكسل (مقر المفوضية الأوروبية والجهاز التنفيذي للاتحاد) أو الخشية على الوظائف المحلية من تدفّق المهاجرين أو التلويح بإمكان دخول 77 مليونا من الأتراك (المسلمين) عضوية الاتحاد - وبالتالي حرية التنقل والإقامة على أراضي بريطانيا العظمى - أو توفير نفقات العضوية وإعادة استثمارها في النظام الصحي أو التصويت احتجاجياً ضد النخبة النيوليبرالية التي تحكم البلاد.

هذه الأسباب كلّها - وإن تبين لاحقاً عدم دقّتها أو انتحالها - كان لها دون شك دور في الوصول إلى نتيجة الاستفتاء العتيد، لكنها ليست كافية لتعطي العمق والنظرة الطويلة المدى لتفسير مشاعر وسيكولوجيا البريطانيين (لا سيما الإنجليز منهم) تجاه جيرانهم سكان البر الأوروبي والذين سهُل على بعض السياسيين المتهورين توظيفها ولو على حساب حاضر البلاد ومستقبل أجيالها، وانتهت الآن إلى أسوأ أزمة وطنية وجودية تعيشها المملكة المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.

السيكولوجيا هذه تتسم بتعقيد استثنائي عند محاولة قراءة تاريخ تطور الهوية الوطنية الإنجليزية والتي تتقاطع مصادرها مع تجارب تاريخية وعسكرية ودينية عاشتها شعوب (الجزيرة) البريطانية في إطارها الإقليمي القريب، كما نظرة عنصرية استعلائية بالتفوق تجاه الشعوب الأخرى طالما عملت النخبة الحاكمة على تعميقها كجزء هام من أدوات هيمنتها على المواطنين البريطانيين يُدفعون من خلالها إلى التوحد والاصطفاف في مواجهة عدو مشترك (متخيل).

ولعل أولى تجارب المواجهة بين سكان بريطانيا - الذين هم بالفعل أوروبيو الجذور عبروا بحراً وبراً إذ كانت الجزيرة في عصور سابقة شبه جزيرة مرتبطة مع القارة الأوروبية منذ 10 آلاف سنة على الأقل - كانت الغزو الروماني الأول في عهد يوليوس قيصر الذي فشلت قواته عام 55 قبل الميلاد بإخضاع الجزيرة قبل أن ينجح غزو لاحق بعد مائة عام في السيطرة عليها - باستثناء الجزء الاسكوتلندي منها - بعد مواجهات دموية مع السكان المحليين. الرومان نقلوا أدوات حضارتهم المادية والقانونية إلى مستعمرتهم الجديدة وتركوها للسكان الأصليين عندما استدعت روما جيوشها عام 410م لمواجهة التحديات العسكرية التي كانت تتربصها، فخرجوا من بريطانيا بلا عودة. الفراغ الذي تركه الرومان ملأه غزاة أوروبيون من قبائل الجوت والأنجلو والساكسون وهي قبائل متحدرة من الشمال الغربي لأوروبا نجحت بعد 200 عام من الفوضى في تأسيس ملكيات على معظم إنجلترا - بينما بقيت اسكوتلندا وويلز حرتين - قبل أن يجبرها جميعا غزو الفايكنغ الآتين من النرويج والدنمارك على التوحّد لأول مرة كمملكة إنجليزية على يد الملك ألفريد.

لكن هذه الهوية التي بدأت بالتشكل من عناصر أوروبية متفاوتة ما لبثت أن تعرضت للاهتزاز عام 1066 عندما انتصر دوق فرنسي آت من النورماندي على آخر ملك ساكسوني لإنجلترا ليتولى هو وسلالته من بعده حكم الجزيرة ولتصبح الفرنسية مع الدنماركية والأنجلو ساكسونية القديمة مصادر اللغة الإنجليزية التي نعرفها الآن وكُتبت أولى الوثائق بها منذ حولي 600 عام لا أكثر. لكن حتى في الأوقات التي لم تكن فيها الجزيرة مسرحاً لحروب الغزاة الحاكمين مع مقاومة السكان المحليين (لا سيما في اسكوتلندا وويلز) أو مع غزاة آتين من غرب أوروبا، فإن تقدّم البلاد الاقتصادي والمادي بُني أساساً على خبرات استقطبت من كل أوروبا: نساجون فرنسيون، ومهندسون ألمان، وصانعو زجاج إيطاليون، وبناؤو أقنية هولنديون وهكذا.

بقي الهيكل الاجتماعي لسكان إنجلترا مفتتاً بين الإقطاعيات المتنافسة دائماً وأخذت شكل حروب أهلية بين العوائل المتنافسة حتى نهاية مرحلة حرب الوردتين عام 1485 وتولي السلالة الثيودرية مقاليد السلطة. في عهد هنري السابع أول هؤلاء الملوك كرست مركزية الدّولة مُقابل تشظي الإقطاع، بينما خطى هنري الثامن خطوته الهائلة بكسر هيمنة بابا روما على رعاياه المسيحيين عندما أسس لكنيسة إنجليزية وطنية (الأنجليكانية) تخضع لسلطان ملوك إنجلترا لا للباباوات الإيطاليين. وهكذا تشكلت الهوية القومية للإنجليز من خلال الانقسام الديني والمواجهة الحادّة مع فاتيكان روما، ومملكة إسبانيا التي حاولت عسكرياً وفشلت في استعادة الكثلكة إلى بريطانيا، وكذلك أفكار الأصولية التطهرية (البيورتان) المنتشرة بين جزء من نخبة البلاد والذين تبنوا سردية عبرانية الطابع ألهمها كتاب العهد القديم ترى بريطانيا بوصفها إسرائيل جديدة وشعبها مختار كما قبائل بني إسرائيل. التاريخ اللاحق لتلك الفترة وحتى 1945 اتسم بصراعات استراتيجية وعسكرية مستمرة بين الإنجليز وجيرانهم الأوروبيين: بداية من الفرنسيين ولاحقاً الإسبان؛ فالفرنسيين مجدداً قبل موجة العداء مع روسيا القيصرية، فروسيا الشيوعية ومن ثم ألمانيا النازية وعبر كل الأوقات مع الإيرلنديين أيضاً، ليتكرس في ذهن البريطانيين عموماً نوع من تصور سلبي عن العلاقة بإقليمهم القريب بسبب الشرور التي «يصدرها لنا هؤلاء المجانين في أوروبا»: إمبراطوريات طامحة، وآيديولوجيات شوفينية، وحروب وغزوات وطائرات تقصف وتدمّر.

وقد قدّمت الرأسمالية الطالعة بداية من إنجلترا القرن الثامن عشر وقبل أن تشرق (أنوارها) على جلّ العالم المعاصر مكونا إضافياً من مكونات عقدة التفوق الإنجليزي إذ إن استمرار النظام الاقتصادي الجديد كان معتمداً على تجارة وتشغيل الرقيق عبر المعمورة ومن ثم الكولونيالية لضمان تدفّق المواد الخام من دول الجنوب إلى المصانع البريطانية وبأقل الأسعار وإن غلفتها النخبة وقتها بوصفها مهمة تنوير وتحضير للشعوب المتخلفة بحكم بنيتها العقلية والعرقية.

في هذه المرحلة بدأت نصوص الأساطير المؤسِسة لهذه العقدة الإنجليزية بالظهور منذ القرن التاسع عشر. ولعل المجلدات الخمسة في تاريخ إنجلترا التي وضعها المؤرخ وكاتب المقالات والسياسي المفوه توماس بابينغتون ماكولاي (1800 - 1859) يمكن اعتبارها كأقدم مصدر موثق عن الكم المتضخم من الأساطير والأوهام التي عملت النخبة - بوعي أو من غير وعي - على ترويجها عن الإنجليز كأمة مختارة نجحت في تكوين تجربة سياسية برلمانية سبقت كل الأوروبيين (المعاصرين)، ومنعت تكرار حكم الرعاع على حد وصف ماكولاي عند إشارته لفرنسا ما بعد ثورتها المشهورة. لكن دور وينستون تشرشل وأجهزة البروباغاندا التي أطلقها عشية الغزو الألماني لبولندا 1939 تحديداً كان حاسما في إطلاق الوطنية الشوفينية البريطانية بشكلها المعاصر وتحويلها إلى مصدر كراهية لا ينضب تجاه الأوروبيين.

لم يكن من الصعوبة بمكان أن تُستدعى هذه التجارب التاريخية التي يتلقاها التلاميذ البريطانيون دروساً ضمن سرديات تاريخية مؤدلجة تحكي عن عدو متربص دوما على الجانب الآخر من القنال الإنجليزي لتغطي على واقع الانقسام الطبقي الحاد الذي يكسر ظهر المجتمع البريطاني، ويتمسك بها السياسيون كأداة عبقرية للتلاعب بمشاعر مواطنيهم وسوقهم للحفاظ على بنية الهيمنة من خلال التصويت على مغادرة الاتحاد الأوروبي.

البريكست لم يكن يوماً عن «البريكست»، بل هو تمثّل لوهم التفوق وتشكلات الهوية المعادية للجيران البرابرة التي أنتجتها (وتنتجها) النخب الحاكمة البريطانية عبر الأيام.

تماماً كما للأميركيين اليوم حلم بناء جدار يفصلهم عن جيرانهم المكسيكيين، البريطانيون سبقوهم إلى وهمِ جدار فاصل عن (مكسيكييهم) ذوي العيون الزرق سموه بريكست. كل الباقي تفاصيل.