50 عاماً لم يرَ فيها الحريّة..

عمر بن سعيد الذي حملته قوارب العبوديّة إلى أمريكا

عمر بن سعيد

وكالات

لا نعرف الكثير عن حياة "العبيد" العرب في الولايات المتحدة، فالمراجع عن أخبارهم وتاريخهم ووقائع حياتهم نادرة، وخصوصاً أنهم كانوا خاضعين لإرادة ورقابة "الأسياد" واضطر الكثيرين منهم لدخول المسيحيّة حفاظاً على حياتهم وتجنب المشاكل، لكن، مؤخراً، حصلت مكتبة الكونغرس على مخطوط من 15 عشر صفحة كتبه بخطّ يده عمر بن سعيد، الباحث في التراث الإسلامي، والمُنتمي لقبيلة الفولانيّ التي كانت تسكن غرب أفريقيا بين السنجال ونيجيريا، والذي أُسر في القرن التاسع عشر، وحُمل كعبد إلى تشارلستون في ولاية كارولاينا الشماليّة.

ولد عمر بن سعيد عام 1765 -تقريباً- لأسرة غنيّة، وقتل والده في حرب قبائليّة حين كان بعمر الخامسة، ما اضطره وأسرته للانتقال من قريتهم "فوتا تورو- Futa Toro" إلى مكان آخر، ومع تقدّمه بالعمر، بدأ حسب قوله بطلب العلم في "بوندو"، تحت إشراف أخيه الشيخ محمد سعيد إلى أن بلغ الخامسة والعشرين، بعدها، عاد إلى قريته حيث قضى ست سنوات.

يصف عمر أو العم مورو كما كان يُسمى في لقاء صحفيّ أجري معه حين كان عمره أربعة وثمانين كيفية أسره، إذ كان في الثلاثينيات حينها وكان يعمل بالتجارة، ويقول إن جيشاً كبيراً حط على الشاطئ، وقتل الكثير من الناس، بعدها أخذوه على متن "سفينة كبيرة نحو البحر الكبير"، ليقضي بعدها شهراً ونصف في البحر، قبل أن يصل إلى تشارلستون ويشتريه رجل اسمه جونسون عام 1807.

يحكي المخطوط التي تركها سعيد عمّا عاناه وكيفية استعباده ويدعو فيه لله ويتحدث عن رحمته وسعتها، خصوصاً بسبب المعاملة السيئة التي تعرض لها من قبل جونسون، إلى جانب احتوائها آيات من القرآن الكريم، المثير للاهتمام أن المخطوط بغلافه الجلديّ جُمع للمرة الأولى في منتصف القرن التاسع عشر، واختفى لما يقارب 50 عاماً، إلى أن وصل إلى مكتبة الكونغرس إثر عمليّة بيع سريّة لا ضمن مزاد علنيّ.

هناك تم تجديده وترميمه ونشره رقمياً مع مخطوطات أخرى بالعربيّة والانكليزيّة. يمكن الاطلاع على نص الرسالة من موقع مكتبة الكونغرس. 

مكن عمر بن سعيد من الهرب من عبوديته، ووجد كنيسة ليختبئ فيها، لكن قبض عليه مرة أخرى بوصفه عبداً فاراً، ووضع في السجن، وهناك كان يكتب على الجدران باستخدام الفحم، ما أثار اهتمام من حوله، خصوصاً أن أحداً لم يفهم ما يكتب، إذ كان الاعتقاد أن "العبيد" لا يجيدون القراءة والكتابة.

تمكن عمر بن سعيد من الهرب، ووجد كنيسة ليختبئ فيها، لكن قبض عليه مرة أخرى بوصفه عبداً فاراً، فوضع في السجن في فايتفيل في كارولاينا الشماليّة لمدة خمسة عشر يوماُ، وهناك كان يكتب على الجدران باستخدام الفحم، ما أثار اهتماماً، خصوصاً أنّ من حوله لم يفهموا كتابته. وكان مرد الدهشة الاعتقاد السائد أنّ "العبيد" لا يجيدون القراءة والكتابة.

بعدها، اشتراه جون أوين، شقيق جيمس أوين حاكم ولاية كارولاينا في تلك الفترة، وعاش في منزل الشقيقين ما يقارب 30 عاماً، تمت معاملة عمر بن سعيد بصورة جيّدة، وتم تزويده بمصحف باللغة الانكليزيّة علّه يتعلمها، إلا أن الهدف كان اعتناقه المسيحيّة، إذ زوّد أيضاً بإنجيل عربيّ، ويقال إنه عام 1821 تم تعميده، ليتحول إلى مسيحيّ يمارس تعاليم الدين الجديد، مثيراً الجدل حول طبيعة الثقافة في أفريقيا، إذ لم يكن معروفاً أن هناك من يتبع الديانات الإبراهيميّة فيها.

كتب عمر قبل ذلك عام 1819 رسالة إلى جون أوين ورعية الكنيسة في المنطقة يدعو فيها إلى إطلاق سراحه، ويقول أنه يحلم أن يعود إلى وطنه في أفريقيا، مؤكداً على سيادة الله على البشر، وأنه وحده لا شريك له.

إلا أن البعض يرى أن التعليم الذي ناله لم يكن حقيقة بالمستوى الذي قاله، ففي الرسالة التي كتبها، وفي سيرته المكتوبة لاحقاً عام 1831 هناك الكثير من الأخطاء اللغويّة، لكنه يقول إنه "ينسى اللغة العربيّة...كما أن بصره اًصبح ضعيفاً كذلك"، كما إنه يعلم فقط "بعض القواعد اللغويّة وبعض المفردات"، ويمكن تفسير ذلك بالعودة إلى الأسلوب الذي تعلّم فيه، القائم على المعرفة الشفهيّة من جهة، ونسخ الآيات من جهة أخرى، إذ كان يعتمد على ذاكرته وتكوين الكلمات الصوتيّ أكثر من أسلوب كتابتها، وهنا يبرز الاختلاف بين الأخطاء في النص القرآني، والكلمات الأخرى التي لا تنتمي لهذا النص وتحويها سيرته.

بالرغم من دخول عمر بن سعيد المسيحيّة إلا أنها كانت مجرد غطاء له وللتقاليد الإسلامية التي يؤمن بها، فالإنجيل الذي كان يمتلكه كان يحوي عبارات عربيّة مثل "الصلاة لله أو للإله"، إلى جانب كتابته لنص الفاتحة داخل الإنجيل، خادعاً من حوله بأنها مقطع من الكتاب المقدس، والأهم، أن إجادته للغة العربيّة أتاحت له بعكس الكثيرين أن يكتب سيرته الذاتية دون أن يتدخل فيها "مالكه"، لتكون سيرة بصوته الأصيل دون تعديل، فهو يمتدح مُلّاكه الجدد، لكنه لا يُخفي سوء معاملة "مالكه" القديم له، إلى جانب تعليقه على كلّ من الإسلام والمسيحيّة مؤكداً على قيم التسامح والمساواة بين الجميع.

توفي سعيد عام 1864 قبل عام من إلغاء الولايات المتحدة لنظام العبودية التي قضى فيها أكثر من خمسين عاماً كـ"عبد" لم يرَ الحريّة، ودفن في "بلادن" في كارولينا الشماليّة، وهناك بُني جامع باسمه من قبل الأفارقة الأمريكيين تكريماً لذكراه.