مازال نموذج صحيفة برافدا السوفييتية قائما..

تحويل شهية القراء إلى دخل مالي للصحف

الصحافة خدمة عامة يقدمها الصحافي كالتي يؤديها رجل الإطفاء والإسعاف

كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن

مالكو الصحف الكبرى في العالم مثل إمبراطور الإعلام روبيرت مردوخ وصاحب أمازون جيف بيزوس، لا يفكرون بطريقة آلن روسبيردجر بأن الصحافة خدمة عامة يقدمها الصحافي كالتي يؤديها رجل الإطفاء والإسعاف! أنها بالنسبة إليهم مشروع تجاري بمسحة سياسية مؤثرة يجلب الأموال، نعم الأموال أكثر من أي سمعة أخرى.

“الضمير المهني” سؤال قد يكون محيّرا في العالم العربي، فالصحافة عندنا تنفق الأموال ولا تجلبها، ولا أحد من الحكومات العربية يفكر بعكس المعادلة، لأنه بمجرد أن تكون الصحافة العربية مستقطبة لرؤوس الأموال هذا يعني أنها ستعيد ترميم الثقة المقطوعة بينها وبين الجمهور، بينما الحكومات لا تنظر إلا لإطراء الصحافة، وآخر من تفكر فيهم هم القراء! لسوء الحظ مازال نموذج صحيفة برافدا السوفييتية قائما وبامتياز في صحافتنا العربية، لذلك لا أحد يغامر ويستثمر أمواله في الصحافة العربية.

وهكذا يصبح هذا الأمر جهدا ضائعا لمجرد التفكير فيه لإنقاذ الصحافة العربية من سطوة رأس المال الحكومي، ستبقى صحافتنا العربية عالة على الحكومات تديرها بما تشاء بأي محتوى كان.

لكن صحف العالم الكبرى تفكر بجهد وحيوية لإعادة المسار إلى أعمالها من أجل استغلال شهية القارئ المتصاعدة وتحويلها إلى دخل مالي، في أكبر تحدّ تواجهه الصحافة المطبوعة.

تجيب كبرى المؤسسات الصحافية في العالم على سؤال تحويل الجمهور المتصفح لمواقعها الإلكترونية في عالم تهيمن عليه سطوة الإعلان الرقمي، إلى دخل مالي بنعم قوية.

هذه الصحافة تعبّر عن ثقة جديدة في دفع دخل أعمالها وتحقيق أرباح في زمن تغيّر سلوك القراء وبات من المستحيل العود به إلى الوراء.

تدرك أن الأزمة مازالت تستحوذ على السوق المريضة، سوق الإعلانات ذهب إلى غوغل وفيسبوك وكبرى المؤسسات الإعلامية خسرت مئات الوظائف الصحافية وتخلّت عن كوادرها، لكنها تدرك أيضا أن مستقبل الإنترنت مزدهر وبتصاعد ومن المفترض أن ينقذ صناعة مربحة ذات يوم.

هناك بقعة مشرقة وسط كآبة السوق المريضة حسب تعبير ماثيو غاراهان في صحيفة فايننشيال تايمز، فلا تزال شهية الجمهور إلى الأخبار منفتحة ولم تنسد، يكفي الاستشهاد هنا بالرغبة المتصاعدة لأخبار بريكست في العالم، والتمتع بلعبة دونالد ترامب الإخبارية المليئة بالازدراء للآخر أينما كان، زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات كانت خبرا مزدهرا ومتفاعلا بامتياز في شتى بقاع العالم. الأخبار صناعة لم تمت لكنها تحتاج إلى إعادة تأهيل وتطوير، وهذا ما يجعلها تحقق مردودا لصنّاع محتواها في عالم تهيمن عليه الإعلانات الرقمية.

بالنسبة إلى صحيفة نيويورك تايمز، أصبح الاشتراك الرقمي مصدرا قويا للدخل، ما يدفعها للتفكير في المستقبل، فقد أصبح عدد مشتركيها على الإنترنت في الربع الأخير من عام 2018، 4.3 ملايين مشترك وتطمح أن يتخطّى عددهم 10 ملايين بحلول 2025.

وهكذا ينضم مارك تومسون الرئيس التنفيذي لصحيفة نيويورك تايمز، إلى مجموعة من المديرين التنفيذيين في مجال الإعلام ممن يبحثون عن الحياة الصحافية خارج نطاق فيسبوك وغوغل.

بينما مازالت صحف أخرى تعتمد على مال الأثرياء “المحسنين” كما يفعل جيف بيزوس سيد أمازون مع صحيفة واشنطن بوست. وباتريك سون شيونغ رجل الرعاية الطبية والأغنى في لوس أنجلس مع صحيفة المدينة المشهورة.

لكن هذا “الإحسان البرغماتي” ليس نموذجا مفيدا في المدى البعيد للصحافة، أن يكون مالك الصحيفة شخصا ثريّا واحدا أمر مختلف عن أن تكون الصحيفة ملكا للقراء الأوفياء، الذين صاروا يمثلون أحدث الحلول وإن كانت قلقة لاستمرارية الصحافة سواء بالاشتراك السنوي أو التبرعات.

اليوم تنطلق مجموعة إخبارية استقصائية على الإنترنت، على أساس غير ربحي، وتمول إصدارها من خلال التبرعات، كما هو الحال مع “برو بوبلك” المشروع الجديد الذي بدأ بهولندا بتبرعات 61 ألف مشترك يدفعون 70 يورو سنويا، إذا جمعت لحد الآن 2.6 مليون دولار في حملة تمويل جماعي بمساهمات أفراد من 130 دولة لدعم الطبعة المخطط لها أن تصدر باللغة الإنكليزية في وقت لاحق من هذا العام.

كما أطلق الصحافي البريطاني ومدير الأخبار السابق في “بي.بي.سي” جيمس هاردينغ مشروعا صحافيا، يسمح للقراء المشاركة في تحرير وصناعة المادة الإخبارية عبر اشتراك سنوي.

المشروعان الجديدان يعولان على ثقة القراء الأوفياء، ولا يريدان الدخول إلى السوق بأموال ضخمة، فالهاجس هو الصحافة ومحتواها في زمن اللاصحافة التي تمثلها فيسبوك.

تلك الاستراتيجة التي تتبعها صحيفة الغارديان البريطانية، المتمثلة بفكرة البقاء استنادا للعلاقة مع القراء وخفض التكاليف، تكاد تمثل نوعا من الحل، وإن كان غير دائم، حيال صحافة الأثرياء مردوخ وبيزوس.

عندما بدأت الغارديان بجمع التبرعات من القراء عام 2016، كانت تضع نصب أعينها القراء أنفسهم، حتى جمعت في غضون ثلاث سنوات دعم أكثر من مليون قارئ، إما عن طريق الاشتراك في الصحيفة المطبوعة أو تطبيقها الرقمي، وإما عن طريق التبرع. لديها الآن 350 ألف شخص يقدمون مساهمة مالية منتظمة كل شهر.

وجدت الغارديان المموّلة من مؤسسة خيرية، نفسها في أزمة مع استقلاليتها عندما يتعلق الأمر بتمويلها، وهذا ما جعلها تستنجد بالقراء الأوفياء لدعمها من أجل الاستمرار في ربط المجتمع بأفكار حرة ومستقلة، وعدم ترك الساحة للصحافة الحكومية والحزبية. وحثّت رئيسة التحرير كاثرين فاينر القراء على التبرع للحفاظ على استمراريتها في عالم الصحافة. بقولها “لا نعتمد في قراراتنا التحريرية على مالك ثريّ يفرض سيطرته على المحتوى المقدّم، كما أننا لا نقبل وجود مساهمين، أو مُعلنين، أو ناشرين من أصحاب المليارات يحددون نهج رئيس التحرير، الغارديان تعمل في ظروف اقتصادية صعبة للغاية، حيث تستمر إيرادات الإعلانات بالتدهور”.

وكما يبدو أن الأمل قائم في القراء أنفسهم في الحفاظ على حياة الصحافة قبل أن تتحول إلى أوراق مهملة تذروها الرياح.