مفتاح التعايش..

زيارة البابا إلى الإمارات تسامح إلا في التطرف

دعم حماية الحريات ونبذ التمييز وترسيخ الرفاه هي أسرار زيارة البابا

واشنطن

منذ الخطوة الأولى عبر أي من منافذ دولة الإمارات، أول ما يشد انتباه زائرها -بعيدًا عن الدهشة بالتطور العمراني أو الحداثة السائلة على جنبات الطرق واللوحات الإعلانية- هو ذلك التنوع البشري الهائل على مستوى الديانات والثقافات والمناطق التي ينتمي إليها قاطنو وزوار هذه الدولة، لكن ذلك الاختلاف استحال بفضل إصرار أبو ظبي ودبي على تحويل مبدأ التسامح والعيش المشترك ونبذ التطرف إلى أسلوب حياة يمكن أن تلمسه بسهولة في أول التقاء بأي من التجمعات البشرية في الشركات، ودور العبادة، والطرقات.

قدر أبو ظبي والإمارات هو الإصرار على التعايش الإنساني، وهو تحول -بفضل الوقت وإصرار قادتها- إلى واقع ملموس منذ أن دشن الشيخ زايد أولى لبنات التعايش والتعددية والتعاون المشترك الذي يحصد الإماراتيون والمقيمون فيها ثمراته عامًا بعد عام.

التسامح والحوار كأسلوب حياة يبدو للمتأمل في النسيج الاجتماعي والديني والتنوع البشري ضرورة وحتمية للبقاء وليس مجرد خيار هامشي، كما أنه نتاج إصرار الشيخ محمد بن زايد على تحويل تلك الفسيفساء الملونة من الثقافات المختلفة إلى جدار صلب ضد اختراقات التطرف والطائفية والخطابات التحريضية بكل حزم وصرامة، إذ أكد في غير مناسبة على أن الحوار يمثل رؤية إستراتيجية للبلاد، وأن قدرها أن تلعب أدوارًا متقدمة في ترسيخ التسامح الديني والتنوع البشري في الخليج؛ من خلال تعزيز دورها في التعايش والحوار الحضاري المشترك في عالم سادت فيه تيارات العنف والتطرف والإرهاب باسم الأديان أو التمييز العنصري وصعود موجات اليمين المتطرف وحالة الإسلاموفوبيا، ولا شك أن مواجهة كل هذه التحديات ما كان لها أن تنجح لولا تلك الرؤية والإصرار على جعل التعايش والتسامح أولوية قصوى.

التسامح بذرة لا تنبت في أرض يباب، كما أن شجرة الإرهاب والتطرف الملعونة لا يمكن أن تعيش في بلد يحترم الحريات ويقدم نموذجًا يستحق الاحترام لمجتمعات الرفاه والاستقرار، ولا يتوقف الأمر عند الطرح النظري أو التجميلي كما هو الحال لدى عدد من الدول التي تسعى إلى تحسين الصورة ضمن إطار زمني محدد، بل يتم طرح مفهوم التسامح المجتمعي في رؤية أبو ظبي كأسلوب حياة يومي وقيمة تجد طريقها في العمل المؤسسي المستدام، وذلك عبر التقنين وتشريع القوانين والسياسات التي تتعلق بقيم التسامح والحوار، وتقبل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، خصوصًا لدى الأجيال الجديدة، وهو ما يلامسه كل فرد مهما كانت مرجعيته الدينية أو الثقافية بشكل إيجابي في أول زيارة لها ومعايشته للمجتمع الإماراتي بصورة عامة.

التسامح الديني والاعتدال وفق أطر مدنية وخطابات دينية معتدلة هو الخط الفاصل بين الدول الناجحة اليوم وبين الدول الفاشلة، بين الدول التي تقف بحزم وعناد أمام مخططات الهدم ومناهج التطرف وخطابات الإرهاب الملتوية، وبين الدول التي تحاول إشعال فتيل الفتنة لتحقيق مآرب سياسية قصيرة المدى دون اكتراث أو إحساس بالمسؤولية تجاه القيم الإنسانية الكبرى.

وفي السياق المفاهيمي، يمكن القول بأن حالة السلم والأمن المجتمعي والتسامح بشكل أخلاقي لا يمكن أن تؤتي أكلها إلا عبر حزمة من الإجراءات التشريعية والقانونية الصارمة، وعبر تفعيل كل الدعم من خلال المؤسسات البحثية والمؤتمرات والندوات لتعميم حالة السلم والحوار المشترك، ويأتي ذلك مع التأكيد على سيادة الدولة وقوة القانون الذي يأتي بجانب ثقافة التسامح عبر تشريعات واضحة ومحددة لتجريم الكراهية ومكافحة التمييز.

وجنبًا إلى أبو ظبي التي يتم ترسيمها كعاصمة للتسامح اليوم، تقف حكومة دبي كتجربة ملهمة تتجسد فيها رؤية الشيخ محمد بن راشد، الذي أدرك منذ وقت مبكر أن تفوقها الاقتصادي لم يكن له أن يتحقق بدون الاستثمار في الإنسان وتفعيل حزمة من قيم التعايش والحوار وعدم التمييز بين كل القاطنين على أرضها.

ومع أن قصة التسامح الإماراتية لا يمكن تأريخ سياقها الطويل والمضني عبر مقالة عابرة، إلا أن من المناسب جدًا الآن التأكيد على أن صورة التسامح وتجليات التعايش -ذلك الدرب الطويل الذي مشى فيه الإماراتيون متجنبين أشواك التطرف وعثرات التمييز الديني- توجت اليوم بزيارة تاريخية على مستوى التوقيت وحجم الحدث لبابا الفاتيكان؛ الزيارة التي لم تكن عابرة أو وليدة الصدفة أو مجرد مناسبة للمجاملات أو العلاقات العامة، بل هي -بحسب ما جاء في كلمته- عهد جديد وصفحة أخرى لكتابة تاريخ التسامح الديني في المنطقة مجددًا، بعد أن باتت مستهدفة بالإرهاب ومتهمة بتصدير التطرف.

ومن هنا، يمكن فهم مدى تأثير هذه الزيارة الأولى من نوعها في دولة تنتمي إلى نطاق جغرافي خاص واستثنائي مرتبط بجزيرة العرب تاريخيًا، التي كانت مهد الأديان السماوية، على رأسها الإسلام المبكر الذي احتضن التعايش وعزز قيم التسامح قبل أن يجري اختطاف الاعتدال على يد الإرهابيين الذين استباحوا بيضته وشوهوا صورته في العالم؛ من خلال استغلال ضعاف النفوس الذين امتدت إليهم يد التطرف الآثمة في فترات تاريخية عديدة، لكنها بلغت الذروة في عصرنا منذ نشأة الإسلام السياسي وتيارات العنف المسلح التي أفقدت المسلمين أعز ما يملكونه، أي الإيمان بالاختلاف والحق في العيش المشترك دون تمييز ديني أو طائفي على قاعدة “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

الإيمان بالله يجمع ولا يفرق؛ فهو يقربنا إليه في الاختلاف، يبعدنا عن الجفاء كما تقول كلمات بابا الفاتيكان الصادقة من قلب أبو ظبي، وهو الذي اعتبر أن زيارة الإمارات منحة إلهية كتبها الرب فوق أرضها، لتشع عاصمتها أبو ظبي كمنارة للتسامح والاختلاف والتعايش، كما أن البابا لم يعتبر هذه الزيارة ضمن سياق زياراته للتأكيد على القيم المشتركة بين البشر، بل عدها صفحة جديدة في العلاقة بين الأديان والثقافات.

أبو ظبي اليوم تجربة عملية ضد التطرف والإرهاب وفرصة للتأمل بأن المجتمعات -مهما كانت التحديات التي تقف أمامها- قادرة على ترسيخ التعايش وجعله أسلوب حياة، وهو ما أشار إليه البابا حين استشهد بكلمات الشيخ زايد، مؤسس نهضة البلاد، حين قال: 

“إن الثروة الحقيقية ليست في القدرة الاقتصادية، بل الثروة الحقيقية في قيم الشعب… ثروة الإمارات برجالها”.

يمكن القول إن زيارة البابا شملت التأكيد على متوالية قيمية تشكل ثلاثة مسارات في الرؤية الإماراتية الشاملة للعيش المشترك؛ هذه الثلاثية تتمثل في تقديم نموذج قائم على التسامح المطلق إلا مع التطرف، ورعاية مجتمع الرفاه والأمن والاستقرار من خلال الحوار وحماية الحريات الدينية والحرب على الإرهاب، فهي كل لا ينفصل، ومنظومة فكرية وأخلاقية لا يمكن الإيمان ببعضها دون بعض، لذا فإن نجاحات الإمارات في دعم السلم والأمن وازدهار دبي التنموي قصة يجب أن تروى ضمن سياق أكبر من التفوق الاقتصادي.

وهكذا، تتجسد واحدة من التجارب العملية الملهمة لتدعيم حالات الأمن والاستقرار وحفظ السلم والأمنين الإقليمي والدولي؛ فهي محطة التقاء للحضارات المختلفة، يجد فيها الفرد حريته الشخصية مهما كانت مرجعيته الدينية، وهي من جهة ثانية -بحسب كلمات البابا- ليست مكانًا ملهمًا للعمل والاكتساب، بل أرض تسامح آمنة للاختلاف والتعايش بين الفرقاء، على أرضها مسجد “مريم أم عيسى” الذي دشنه الشيخ محمد بن زايد إلهامًا للتسامح الديني، وفيها أيضًا معبد هندوسي يجد فيها أتباع الديانة موئلًا لممارسة عباداتهم الدينية، دون الحاجة إلى الاختباء في زاوية معتمة في مقر سكنهم خوفًا من البطش، كما أنها جنبًا إلى دبي وباقي الإمارات تحوي العديد من المؤسسات المدنية القائمة على رعاية التعايش وتدعيم خطاب الوسطية والاعتدال.

عام التسامح بقعة ضوء في منطقة الشرق الأوسط التي انزلقت منذ عقود -عدا استثناءات تشكل ومضات ضوء يمكن الاستنارة بها- في دوامة الفوضى وحالة عدم الاستقرار والتطرف بتجليات دينية ومجتمعية مختلفة، وصولًا إلى تشويه صورة الإسلام الذي طاله من أبنائه من الأذى في فترات تاريخية عديدة أكثر مما مسّه من أعدائه.

في تصريح لإحدى وكالات الأنباء قبل سنوات، وصف الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، الإمارات بأنها مفتاح الانفتاح والتعايش المشترك في المنطقة، واليوم يتطلع الجميع في العالم الإسلامي إلى تعميم التجربة الفريدة التي تستحق المزيد من التأمل.

كيوبوست