الروائية التي جسدت رومانسية الألم

من هي شارلوت برونتي؟

شـارلوت برونتي

اليوم الثامن (حسناء)

روائية تتمتع بخصوصية في كتاباتها، كأنها معنية بسر السيرة الذاتية للمرأة، إنها تكتب رواية نسوية بامتياز، تفوح منها رائحة المرأة بكل عذوبتها وجمالياتها، وتذكرنا بمقولة ألبير كامو بأن المرأة هي رائحة الجنة على الأرض.
عندما أقرأ شارلوت برونتي أشعر بأنني أمام فتاة بالغة الخجل، متوسطة القامة، صغيرة الحجم، شعرها منسدل إلى الخلف، تنطلق إلى الحياة للتو.
مع هذه المرأة البديعة نتعرف على بعض خصوصيات المرأة بما لم نعرفه في غيرها، ولذلك أعتقد أن قراءة شارلوت برونتي هي هامة لضرورتين، الأولى أنه يتعرف على نمط يمتلك خصوصية مميزة في شخصية المرأة، وهذا يجعلنا نغير الكثير من المفاهيم السائدة عن المرأة، واعتقد يجعلننا نكن لها احتراما أكثر بعد قراءة برونتي، والثانية أننا نقف أمام إبداع نسوي بامتياز، أي أننا نتذوق نكهة حديث المرأة، نشـم رائحتها، اعني نتعرف على وجهة نظر المرأة من المفاهيم والوقائع ومقومات الحياة.

الأخوات برونتي

ولدت الابنة الثالثة شارلوت في 21 نيسان 1816 لأب مهاجر من إيرلندا، ومستقر في فرنسا يعمل راعيا في الكنيسة الإنجليزية في هيوارث.
تزوج هذا الأب من أمها التي ماتت بعد عشر سنوات من الزواج لتترك بناتها: ماريا – أليزابيت – شارلوت – إميلي، وكذلك ابنها باتريك في رعاية أب شديد القسوة.
أدخل هذا الأب بناته مدرسة رخيصة في كوان بريدج، وهي مدرسة خاصة بتعليم أبناء رجال الدين
أحيانا تكون العزلة منحة تمنح للإنسان من أجل أن يقدم شيئا مجديا، فتكون بمثابة انطلاقة حقيقية نحو العالم بصورة أقوى مما لو كان يعيش في أعماق إيقاعات مدينة صاخبة.


هنا تمنح العزلة فرصة ثمينة للتعرف على الذات وعلى العالم بصورة تأملية.
ربما ليست هناك من عانت في حياتها كما عانت شارلوت برونتي، التي تعد من رائدات الرواية في فرنسا مع أخواتها اللواتي انطلقن من ذات البيت وذات الواقع التربوي الشديد، فقد شاءت الأقدار أن تعيش هذه العائلة البالغة العبقرية والإبداع في ظروف بالغة القسوة.
هذه العائلة الموهوبة والمعروفة بـ الأخوات برونتي وليس بوسع التاريخ أن يذكر اسم إيميلي برونتي دون أن يذكر اسم أكثر الروايات شهرة في العالم وهي روايتها ‘مرتفعات وذرنغ’.


فبعد أن فقدت الأخوات الأربع أمهن، تولى الأب الصارم تربية بناته بكثير من الشدة، وهو رجل من أتباع كالفن .
أول ما قام به هذا الأب هو أن حذر على بناته أكل اللحوم حتى لا يتعلقن بملذات الحياة، ومن ثم عمل من أجل قطع كل صلة لهن في ممارسة الحياة الاجتماعية، فقد رغب هذا الأب أن يعشن ويمتن دون أن يعرفن شيئا على الإطلاق، فلم يسمح لهن حتى لمجرد النظر من نافذة المنزل، وعلى هذا النمط المفروض عليهن ضمن أسرة بابوية يعشن في شبه سجن مغلق بدون القيام بأي نشاط اجتماعي، أما فرصتهن الوحيدة للحديث مع الأب وهذا نادرا ما يحدث، فكان يستغلها حتى يروي لبناته أحاديث العالم الآخر والموت، ويعزز في نفوسهن وحشة الحياة، والشر الذي دوما يأتي من شخص يمكن أن يدخل هذا البيت، أو حتى من شخص ينظرن إليه من النافذة، فيمكن لهذا الشخص أن يجلب لهن الشر.


بطبيعة الحال فإن البنات لن يرين أحدا لأن البيت تم اختياره بشكل جيد، فهو يشرف فقط على مقبرة ولايتردد هناك سوى أولئك الذين يعيشون حالة الحداد، أما عندما ينتصف الليل فلا يتردد هذا الأب أن يتحدث لهن عن الشيطان وجهنم والشر الذي يملأ العالم، وأن خير وسيلة لتجنب الآثام هو الابتعاد النهائي عن الآخرين.

الإبداع من عمق المعاناة

أمام هذا الحصار فارقت الأخت ماريا حياتها بداء السل، ويمكن القول أن هذا الفقد جعل الأخوات يدركن المصير ذاته، فقد ولدت ماريا وماتت دون أن تعرف شيئا من العالم.
مع هذا الواقع استيقظت الأخوات على فكرة تأريخ هذه الوقائع في حياتهن، ووجدن أن خير وسيلة لبلوغ ذلك هي الكتابة، فمن خلالها يمكن أن ينقذن أنفسهن من النسيان الذي يجلبه الموت كما حدث لأختهن، ومن ناحية أخرى فالكتابة تفسح لهن مساحات للعيش والخيال والتسلية والاستئناس.
وبالفعل استطعن أن يكتبن ديوانا شعريا مشتركا، وحتى لايكشفهن الأب اتفقن على إصداره تحت أسماء ذكورية، فقد اختارت شارلوت لها اسم كوريربيل ، واختارت إميلي اسم إيليس واختارت آن اسم أكتون بيل تجنبا للاصطدام مع هذا الأب الذي يمكن له أن يحرق هذا الديوان إذا وقع عليه، ثم يوجه أي عقاب بحق بناته.
بعد ذلك قررت الأخوات أن يركزن جهودهن الأدبية ويرسمن لمستقبل أدبي لكل واحدة منهن، فكان التحول إلى عالم الرواية.
بعد أن أبدعت شارلوت روايتها الشهيرة جين أير وهي من الروايات التي تصور واقع الحياة الاجتماعية في الحقبة الفكتورية، وتتسم برومانسيتها البالغة، كشفت للناشر عن هويتها لتتمكن من مواصلة الكتابة متحدية أي عقاب، ثم استمرت في الكتابة فقدمت رواية شيرلي عام 1849. ثم فيليب، ثم البروفيسور.
لكن لم تكتمل فرحتها إذ أن الموت اختطف أخواتها واحدة تلو الأخرى، فلم تملك غير أن توافق على الزواج من القس آرثر نيكولز رغم عدم حبها وعدم قناعتها به كزوج، وربما لأنها كانت ترغب في أن تغدو أما. ومن جهة أخرى ربما يتحقق حلمها القديم في فتح مدرسة حتى تستطيع أن تسهم في تقديم جيل مختلف عن التربية الصارمة التي تلقتها، لكن هذا المشروع أيضا لقي الفشل.
بعد تجربة زواج مريرة مع الزوج، وهي تحتمل حتى يتحقق حلم الأمومة من هذا الرجل، تقول في إحدى رسائلها إليه: سيدي إن الفقراء لا يحتاجون إلى الكثير حتى يكون بقاءهم في الحياة، بل أنهم لا يرجون إلا الفتات الذي يتساقط عن مائدة الغني، وأنا الأخرى لا أطمع بغير قسط ضئيل من عطف مَن أحبهم لأنني لا أدري ما الذي أفعله بالولاء الكامل الشامل منهم، فأنا لم ألف التفكير في ذلك.
هنا تجدر الإشارة بأن الأب أصيب بالعمـى، كما تحول الأخ الوحيد إلى كائن كحولي مدمن لا يُـحتمل.
لقد حملت شارلوت، ولكن قبل أن تنجب مولودها الأول كان الموت أسرع إليها من ذلك فماتت بعد سنة واحدة من الزواج وهي في التاسعة والثلاثين من العمر، بعد أن تركت أعمالا روائية وأصبحت مع أخواتها احد أعمدة الرواية في العالم.

شيء من أجواء روايتها جيـن أيـر

تعد هذه الرواية من الأعمال المبكرة التي دعت إلى تحرر المرأة، وأن تمارس حريتها في النمط الذي تشاء، وهي كذلك من الروايات التي تبرز قوة الرومانسية.
رواية يمكن اعتبارها سيرية تتحدث عن وقائع حياة الكاتبة نفسها.
تقول شارلوت برونتي عن بطلتها: إن الكُـتّاب ليخطئون إذ يصرون على أن يجعلوا من بطلاتهم جميلات، ويتخذون من هذا قاعدة، ولسوف أثبت أنهم مخطئون، سأقدم بطلة خالية من الجمال ضئيلة الجسم مثلي تماماً .


هذه بعض المقاطع من الرواية، وهي تعطي لمحة عن أسلوب شارلوت برونتي:
كان من المستحيل التنزه في ذلك النهار، فمع أننا تجولنا في الحديقة الجرداء لمدة ساعة في الصباح، والطقس كان دافئاً نوعاً ما، إلا أنه منذ الغداء، بدأت ريح الشتاء الباردة تهب، حملت معها غيوماً داكنة وأمطاراً غزيرة بحيث استحال الخروج من المنزل.
وبما أنني كرهت كثيراً النزهات الطويلة، خاصة بعد ظهر الأيام الباردة، سررت لهذا التغير المفاجئ في الطقس، فالمجيء إلى المنزل عند الغسق كان رهيباً بالنسبة إلي بأصابع أيدٍ وأرجل مجلدة، وقلب أحزنه توبيخ الممرضة بيسي والإدراك كم كان جسدي الصغير الهزيل ضعيفاً، بالمقارنة مع أجساد إليزا، جون، وجورجيانا ريد.


جلس أبناء خالي أليزا، جون، وجوجيانا الآن مع والدتهن في غرفة الجلوس في منزلهم، غايتسهد. كانت مستلقية بالقرب من الموقد، وأطفالها الأعزاء حولها. شعرت بغاية السعادة لأنهم لم يكونوا يتشاجرون ولا يصيحون .إلا أنني طرد ت من المجموعة. فقد قالت أنها نادمة لاضطرارها إلى أبعادي، وأنها حتى أحاول بإخلاص التصرف بمزيد من اللياقة وأنمي طبيعة أكثر ودية ورقة، لن تستطيع السماح لي بالملذات المخصصة فقط للأطفال الطيبين والمطيعين.


سألتها: لكن مالذي فعلته؟
قالت : كوني مهذبة والزمي الصمت، ياجين، فأنا لا أحب الأسئلة أو الاعتراضات. لا ينبغي للأطفال التحدث مع الأكبر سناً بهذه الطريقة. ابتعدي عن الغرفة، والزمي الصمت إلى أن تتمكنين التكلم بلطف.
سرت ببطء في اتجاه غرفة طعام صغيرة مجاورة لغرفة جلوسهم. شملت الغرفة الكثير من رفوف الكتب، فتناولت كتاباً بعدما تأكدت أنه غني بالصور.
تسلقت إلى حافة النافذة، وبعدما رفعت قدمي، جلست متربعة، وبعدما سحبت الستائر الحمراء، شعرت بأنني محمية وبعيدة عن أنظار الآخرين.
كان كتاباً ذا صور ملونة جميلة. كل صورة روت قصة غامضة ومثيرة للغاية، مثيرة تماماً كالقصص التي روتها لنا بيسي أحياناً في أمسيات الشتاء عندما يصدف أن تتمتع بمزاج جيد، مستحوذة على أنفسنا وانتباهنا المتلهف بذكريات الحب والمغامرة المأخوذة من الأغنيات والروايات القديمة .
في كتابها غرفة خاصة بالمرء وحده تصف فرجينا وولف شارلوت برونتي بأنها: حُـرمت من حقها في التجربة، حيـــث فرضت عليها حياة راكدة في بيت كاهن، ترتق الجوارب في وقت كانت تتوق فيه إلى أن تجوب العالم حرة .
تكمن أهمية هذه الروائية في أنها تمكنت بصورة غاية في التأثير من تصوير أبلغ لحظات الألم والعزلة التي تحولت إلى نشيد في أغلب أعمالها الروائية.
شارلوت برونتي تبقى مقروءة في مختلف لغات العالم، لأنها تشبه السيمفونية التي يصغي إليها الجميع وعبر مختلف الأجيال والبقع الجغرافية.