استند الكاتب إلى مقاربات يدعي أنها جديدة..

فيلسوف مغربي يدعو الفلسطينيين عدم المطالبة بأراضيهم

طه عبد الرحمن

أصدر المفكر المغربي، طه عبد الرحمن^، قبل بضعة أسابيع، كتابًا جديدًا بعنوان “ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية”.

يذكر طه في مقدمة الكتاب أنه لم يتعوَّد على الكلام في قضايا الساعة كلما استجدت، ويشرح سبب إمساكه عن ذلك بالقول: “لأني أحب أن تفصلني عنها فترة من الزمن، حتى أتفكر فيها على مقتضى التأمل الفلسفي المبني على القيم”، وليس “التكهن السياسي المبني على المصالح”.

لكن ما الدافع إلى هذه الصحوة السياسية “المفاجئة” لدى مثقف عُرف عنه زهده التصوفي تعبديًا ونزوعه التجريدي فلسفيًا؟ يجيبنا بنفسه قائلًا: لأن الأمتين الإسلامية والعربية “تتعرضان اليوم لما لا يتعرض له غيرهما من الأمم”؛ فأحداث الساعة تتعلق “بوجودهما ووجهتهما ومصيرهما في عالم قل حياؤه”.

لكنه لا يبين لنا خصوصية المرحلة التي جعلتهما -حاليًا وليس سابقًا- مهددتين في “وجودهما ووجهتهما ومصيرهما”، فهل كانتا أحسن حالًا إبان نكبة 1948 ونكسة 1967، وما سبقهما وتلاهما من هزائم نفسية وأزمات اقتصادية وحروب بينية وأهلية…؟ إنه السؤال الذي لا يجيب عنه مباشرة ليتركنا نكتشف معالمه أثناء تجولنا في صفحات الكتاب وتنقلنا بين فقراته.

الفلسفة خادمة للسياسة

هذا التوجه الجديد في اهتمامات طه يعبر عن انعراج في مرجعيته الصوفية نحو الإسلام السياسي، فهو يرفض على شاكلة هذا الأخير الفصل بين الدين والدولة، زاعمًا أن “الوحدة الائتمانية التي أنشأها الرسول ﷺ في المدينة لا يمكن الكلام عنها بلغة «المقابلة بين الدين والسياسة»؛ فهي دين من حيث هي سياسة، وسياسة من حيث هي دين، ولا بلغة «المقابلة بين الدعوة والدولة»؛ فهي دعوة بما هي دولة ودولة بما هي دعوة، ولا بلغة «المقابلة بين الدين والسلطان»؛ فهي دين من جهة كونها سلطانًا وسلطان من جهة كونها دينًا، ولا حتى بلغة «المقابلة التقليدية بين الدين والدنيا»؛ فهي دين بما هي دنيا ودنيا بما هي دين»”. للدين، في تصور طه، الحق في تناول الشأن العام، لأنه أُنشِئ ليكون “المؤسسةَ الكبرى التي تندرج فيها كل المؤسسات الأخرى”، منتقدًا القائلين بـ”بوجوب قصر الدين على الحياة الخاصة أو الوجدان”.

غير أن طه لا يتماهى مع مشاريع الإسلام السياسي، ما دامت قد فشلت وتساقطت أوراقها، لكنه يدعو إلى تقويمها وبعث الحياة فيها عبر تزويدها بمسحة صوفية تتمثل في إنتاج نسخة جديدة من “المنظر الإسلامي”، يسميه “المثقف المرابط”. فهو يقر بأن الإسلاميين “الذين تولَّوا السلطة في بعض البلاد العربية لم يستطيعوا أن يطبِّقوا الأحكام الشرعية”، وبالتالي لا بد من مخرج لأزمة خطابهم الذي انحرف عن مقاصد الشرع واستعدى العالم وكفَّر الحكام وحارب المجتمع؛ مخرج تلمسه طه من خلال إعادة تأسيسه على الأخلاق أولًا، والتنكر لعمليات القتل ثانيًا، ثم تجنب الاصطدام مع الدولة ثالثًا، وهذه هي المهمات الرئيسة التي تناط بالمثقف المرابط، فهو يرابط في ثغر السياسة لكي “يتجاوزها إلى أفق التخليق”، ويرفض “القتل”، ويكتفي بمعارضة السلطة “متى اشتطت في الحيازة”، ولا يزاحمها لأن الأصل في المزاحمة هو “انتزاع السلطة”، بينما الأصل في المعارضة هو تقويمها.

هكذا يحاول طه تقديم خارطة طريق لانتشال خطاب الإسلام السياسي من أزمته، ولتحقيق ذلك سوف يخوض في موضوعين محوريين: موضوع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المقدسة والصراع السعودي الإيراني. إنهما موضوعان -أو بالأحرى مدخلان- وظفهما في إستراتيجيته الرامية إلى تبييض صورة تحالف الغلو وتشويه خصومه، مستعينًا في تفلسفه فيهما على ما سماه “النظرية الائتمانية”.

وبالتالي فإن أهم نقد لكتاب طه لا بد أن ينطلق من تفكيك هذه النظرية التي حولها من الإطار التجريدي/الأخلاقي إلى الإطار التطبيقي/السياسي، وكيفية توظيفها فيما سماه “تفريط العرب في القدس”، قبل التطرق إلى الازدواجية في تناوله لموضوع “تصارع الحكام المسلمين على النفوذ”.

طوباوية الائتمانية

يؤكد طه في كتابه أنه بنى نظريته الائتمانية على حقيقة أن «الإنسان فُطر على الدين»، وهذه الحقيقة إن كانت محل اتفاق بين المتدينين بلا شك، فإن التعامل معها بإطلاق يجعل من يقول بها مصادمًا لسنة الاختلاف على المستوى الاعتقادي الذي يعززه انتشار مظاهر الإلحاد في ربوع واسعة من العالم، بما فيها المجتمعات الإسلامية، حتى إنه قال بنفسه عن العالم الذي نعيش فيه قد “قل حياؤه”. وبذلك، يكون طه قد خرج عن مقتضى المنطق الذي يدعيه حين جعلها “حقيقة إناسية لا ينازع فيها إلا مكابر”، وأن “من أنكر ذلك، فإنما ينكر خَلْقه”.

بل إنه يوغل أكثر في طوباويته عند معالجته لما سماه “تفريط العرب في القدس”، فالرجل أضرب عن تحليل الواقع من خلال معطياته وعوَّضها بكلام هلامي حول شروط الائتمانية، منتقدًا اتفاقيات أوسلو التي انخدعت بها، حسب قوله، منظمة التحرير الفلسطينية، لاتفاقها حول “قشور الصراع”، وتأجيل قضايا “القدس والحدود إلى مفاوضات لا يحدها زمان ولا يُحدَّد لها مكان”.

كما انتقد مطالبها بـ”المالكية” على الأرض، لا سيما أنها تطلبها على الطريقة الإسرائيلية، مستهجنًا سعيها إلى “إقامة الدولة الفلسطينية على جزء محدود من الأرض المقدسة” وليس كلها؛ ما يجعلها “تُخلُّ بأمانة حفظ القداسة”، وبالتالي اشتراكها مع الكيان الغاصب في “تدنيس” الجزء القابع تحت سلطته.

وفي مقابل نقده لخيار المفاوضات، نراه يقترح لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ما يسميه “المرابطة المقدسية”، إذ يعمد المرابط المقدسي إلى تغيير خطة المقاومة المتبعة “رأسًا على عقب”. وميزة المرابط المقدسي أنه لا يقيم مع الأرض علاقة امتلاك، وإنما “علاقة ائتمان”، ناسبًا “ملكيتها لله وحده”، لذلك لا يقابل “المزاعم الإسرائيلية لملكية الأرض المقدسة بدعوى ملكية الفلسطينيين لها”، وإنما بـ”دعوى أنه مُؤتمن عليها”. وللبرهان على صحة قوله “الغريب”، يقدم دليلًا لا يقل غرابة عندما يشير إلى أن الإسرائيليين أشد الناس تعلقًا بالملكية، وأقدرهم على التفنن في تحصيلها “إن تزويرًا أو انتحالًا أو اغتصابًا، حتى ولو كانت حفرية مزعومة تحت المسجد الأقصى”. وتبعًا لذلك، لا ينصح الفلسطيني بمواجهتهم في “مجال هم أدرى بأفانين التحكم به، مُشهِرًا حقه في الملكية في وجوههم”.

هكذا إذا كان الإسرائيلي يحشد أسلحة العلم والواقع في ادعاء أحقيته في الأرض، ما يجعل لحججه منطقًا يستقطب محاورين ومدافعين في المجتمع الدولي،

فإن طه يوصي الفلسطيني بعدم مجاراة الإسرائيلي في الدفاع عن حقه بهذه الطريقة والاستسلام أمام تفوقه في هذا المضمار، ويحثه في المقابل على إشهار التَمسُّك “بقدسية الأرض”!

فهل يمكن لهذا الكلام أن يكسب حلفاء من خارج البلاد العربية والإسلامية؟ ويبادر طه باستباق السؤال فيقول: “ورب قائل يقول إن في المرابطة على هذا الإنكار تحدّيًا للمؤسسات العالمية والقوانين الدولية”، مبديًا استخفافه بها، وحسبه في ذلك أنها “لم تكن من الأصل منصفة في مسألة فلسطين”، لذلك “من يَقبل بهذه المؤسسات والقوانين إنما يخون الأمانة التي في عنقه”، كما أنها “تكيل بمكيالين” في قراراتها بين الكيان الإسرائيلي والفلسطينيين، وبالتالي يوصي بالتشبع بالروح الرباطية؛ لأنها “أقدر من غيرها على دحر الاحتلال”!

من خلال هذه النظرية، يراهن طه على “الافتراضات الذهنية” وليس “الحقائق الواقعية” في بناء استدلاله المنطقي، دون أي اعتبار منه لمقتضيات العمل الدبلوماسي وتعقد العلاقات الدولية والملابسات السياسية واختلال الموازين العسكرية، بل يتمادى في نبذ العمل التفاوضي واستغلاله في التشهير بالدول العربية المناوئة للتيار الإسلامي متهمًا إياها بالتطبيع؛ زاعمًا أنها أضحت “ظهيرًا للإسرائيليين في قتل المقاومة الفلسطينية”.

ذهب طه عبد الرحمن بعيدًا فهو يتهم السعودية بالتحالف مع الكيان الصهيوني للقضاء “على نظام ينتمي إلى هذه الأمة نفسها”، كما اتهمها بإسقاط العمل بمعتقد “الولاء والبراء” ومعتقد “أخوة المؤمنين”. ولعله يختزل موقفه من السعودية وحلفائها، بذريعة التطبيع، في قوله أن من “هان عليه أن يرفع القدسية عن «بيت المقدس»، فكذلك يهون عليه أن يرفعها عن «بيت الكعبة»، بل لا يتوانى في المزايدة عليها من الناحية الشرعية بقوله عمن يسميه المطبع إن “هان عليه أن يُسقط بعض الكتاب المنزَّل”، فإنه يهون عليه أيضًا “أن يُسقط الكتاب كلَّه”.

ازدواجية المعايير

يتطرق طه لموضوع “تصارع الحكام المسلمين على النفوذ” من خلال الصراع القائم بين النظامين السعودي والإيراني، “اللذين استبدا” بالصراع -حسب وصفه- بشكل ينذر بـ”زوال الأمة”؛ إذ لم يَعُد لصراعهما “حدّ معلوم يقف عنده”، حتى إن الأخ “أضحى عدوًّا ينبغي تدميره”، والعدو “أضحى أخًا ينبغي تقريبه”. لكن نقده للنظامين بني على ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، فضلًا عن اعتماده على القراءات الصحفية والأحكام المسبقة؛ فهو يدعي أن على رأس وسائل النظام السعودي في مواجهة نظيره الإيراني تأتي “الفكرانية الوهابية” و”الثروة النفطية”، كما تأتي على رأس وسائل النظام الإيراني “الفكرانية الخمينية” و”الثورة الإسلامية”.

وهنا لا بد من وقفة “تعجب واستغراب”؛ فإذا كانت إيران تقر وباعتزاز سيرها على نهج الخميني وافتخارها بما تعتبره إنجازات الثورة الإسلامية، فإن الوضع بخلافه لدى السعودية التي أعلنت تبرؤها من الفكر المتطرف وباشرت مراجعة سياستها الدينية وأطلقت مبادرات جريئة في إطار “رؤية السعودية 2030″، واكبتها مؤشرات على تحولات ثقافية واجتماعية عميقة، سواء على المستوى الحقوقي فيما يتعلق بقضية المرأة خصوصًا، أو على المستوى الاجتماعي والثقافي كتأسيس “الهيئة العامة للترفيه”، والحد من صلاحيات هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وإعادة افتتاح دور السينما والإعلان عن تأسيس “مجمع ملكي للفنون”. حتى إن البعض صار يتحدث -أمام جرأة الإصلاحات الجارية- عن مرحلة “ما بعد الوهابية” في التاريخ السعودي، بل صار خصوم السعودية، في الطرف الآخر، يتهمونها بقمع شيوخ الوهابية ومصادرة حقوقهم.

ويتناول تسخير السعودية “الثورة النفطية” كوسيلة استقواء بالغرب في مواجهة إيران دون أي بيِّنة علمية أو واقعية أو وثيقة إحصائية. بل أكثر من ذلك لما كانت الخلفية المتحكمة في أطروحة الكتاب، هي رد الاعتبار لتيار الإسلام السياسي، فإنه ادعى قابلية الحُكم السعودي لمعاداة تركيا، وأنه اختزل همَّه في التفرد بالنفوذ الإسلامي ومنع قيام أي نظام عادل في محيطه يمكنه أن يغري الشعوب برؤية “أنظمتها تنتهج نهجه في الحكم”، ملمحًا في ذلك إلى تركيا.

ويبدو واضحًا سلوك طه مسلك الازدواجية في نقد النظامين؛ فإذا كان نقده للسعودية يتخذ شكل شتيمة لتقويضها، فإن نقده لإيران يتخذ صورة نصيحة لتسديدها.

فنقده لنظام الملالي ينطوي على المدائح أكثر ما يُعرّي من الفضائح؛ إذ وصف الخميني بـ”الإمام”، وأشاد بفضله في جسر الهوة بين “الفقه الشيعي في نظام الحكم عن الفقه السني”، بل أكثر من ذلك ذكر تمكنه “من تقويم الاعوجاج الذي لَحِق مفهوم «البيعة» عند أهل السنة أنفسهم”، وزاد على ذلك بالقول إن إيديولوجيته ثَبَّتت “الهوية الإسلامية للمجتمع الإيراني”. وحتى عند اتهامه للنظام الإيراني بـ”الاغترار بالقدرة” الذي ينمِّ عن فساد وسائله، فإنه اتهم النظام السعودي بـ”اختلال الوجهة” الذي ينمُّ عن فساد مقاصده، مستنتجًا “أن الاغترار بالقدرة أخف إيذاء للأمة من الاختلال في الوجهة، إذ إن الاغترار يضيِّع وحدتها، بينما الاختلال يضيّع قبلتها”.

كما انتقد حلفاء السعودية وخصَّ منهم الإمارات، ألد أعداء الإسلام السياسي، متهمًا نظامها بتبنِّي “السياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة”، وبأنه جمع من “الآفات ما تفرَّق في النظامين: السعودي والإيراني”. وفي مقابل ذلك، تلمس العذر لتنمر إيران في المنطقة بمقارنتها مع جيرانها العرب الذين ازدادوا، حسب قوله، تصميمًا على حماية أنفسهم من نظامها عبر “الانحياز إلى ألد أعدائه من خصوم الأمة”.

ولم يفت طه تجيير الموضوع الطائفي في الصراع السني الشيعي بما يخدم أطروحة كتابه، ولعل نزوعه “الصوفي”، رغم تسننه، كان حاضرًا هذه المرة لاصطفافه بجانب “التصوف الإيراني” رغم تشيعه، منعشًا بذلك التداخلات الملتبسة تاريخيًا بين التصوف والتشيع في التراث الإسلامي، ومبيحًا لقلمه الطعن في رموز أهل السنة والجماعة.

ويرى طه أن مقاربته في هذا الكتاب، هي الأولى من نوعها التي تتناول أمهات التحديات العربية الإسلامية الراهنة، تناولًا فلسفيًا يتجاوز المناهج التي اعتمدها كل المفكرين العرب، التي يشوبها -حسب تعبيره- غياب الحس النقدي وركاكة الأساليب.

^ طه عبد الرحمن: فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، يقوم منهجه البحثي على تقديم مفاهيم متصلة بالتراث الإسلامي بالاستناد إلى “نظريات الخطاب” و”المنطق الحجاجي” و”فلسفة الأخلاق”. من أهم مؤلفاته: “فقه الفلسفة”، و”سؤال الأخلاق”، و”العمل الديني وتجديد العقل”، و”سؤال المنهج”… وغيرها الكثير من المؤلفات.