أسرار الدولة العميقة في اليمن..

تحليل: الصراعات الإدارية على السلطة في الشمال والجنوب

تظاهرات سابقة في العاصمة عدن تطالب بالانفصال عن الشمال

د. باسم المذحجي

تتباين الرؤى، والتحليلات حول حقيقة الأزمة في اليمن، ويكمن اختلاف وجهات النظر في تمايز المنطلقات الأيديولوجية والأهداف السياسية التي تتبناها النظم والتكوينات السياسية القبلية، لكن هناك شبه اتفاق على أن أزمة الدولة اليمنية مركبة وعميقة، وعلى أنها متمثلة في ثلاثة عناصر أساسية هي:

• الأزمة الاجتماعية (أزمة هوية الدولة والانقسامات والتمييز القائم على هذا الأساس).

• الأزمة السياسية (قضية احتكار السلطة والتوجهات التي فرضتها الأنظمة الحاكمة منذ تحقيق الوحدة اليمنية).
• الأزمة الاقتصادية (التوجه الاقتصادي للدولة المستند على نمط الاقتصاد الطفيلي وسياسات تركيز البني الاقتصادية في المركز).
هذه الأوجه الثلاثة مترابطة مع بعضها وتشكل البنية الكلية للأزمة. فأيهما متقدم على الآخر؟ أو أيهما سبب والآخر تابع؟ يبقى مجال للدراسة لتحديد الأولويات في المعالجة واختيار البدايات الصحيحة لتجاوز الأزمة في كلياتها.


كيف وصلت اليمن إلى هكذا وضعية مركبة؟


عندما انتخب المقدم علي عبدالله صالح من قِبل مجلس الشعب التأسيسي سنة 1978في اليمن، كان هذا المجلس برئاسة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وجرت التفاهمات السرية الإستراتيجية على النحو التالي:

1 - حوالي 35 % أي ثلث إيرادات الدولة اليمنية وثرواتها للقبيلة بزعامة الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر، وبقية السلسلة الهرمية للمشايخ في اليمن، والذي أصبح رئيس البرلمان اليمني بعد ضم الجنوب العربي وإلحاقه بالقوة العسكرية بعد حرب صيف 1994، ويعد حزب التجمع اليمني للإصلاح (إخوان المسلمين) امتداداً طبيعياً لهذا التيار السلطوي.

2 - ثلث إيرادات الدولة للرئيس الراحل علي عبدالله صالح، والقادة العسكريين من حوله، وأصبح هو مؤسس وقائد المؤتمر الشعبي العام، ورئيس اليمن بعد حرب صيف 1994، والتي ضمت الجنوب العربي بالقوة العسكرية.

3 - ثلث إيرادات الدولة المتبقية تصب في خزينة الدولة فعلياً، لكنها تدخل في شراكة ومحاصصة مع الشركات الأجنبية العاملة في مجال استخراج الثروات النفطية، وهذه ما تم نشرها بشكل شفاف للشعب اليمني، والتي كان آخرها النشرات الدورية للنفط في 2006.

النتيجة النهائية الكائنة أمامنا تتمحور حول كيف كل طرف استثمر حصته من ثروات اليمن، وقام بإدارتها إستراتيجياً، والحقيقة بأنها كانت عى النحو التالي:

أ - القبيلة الزيدية برئاسة الشيخ القبلي وأولاده «على رأسهم حميد الأحمر» توجهت نحو الشركات العقارية، والاتصالات، وغيرها من أصناف الاستثمارات الخارجية بما فيها الاستثمار في شراء مصنع سلاح خارج اليمن، لكن علي عبدالله صالح تنبه لذلك، وجرت أول محاولة اغتيال للشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في السودان في 2004 لكنها فشلت، وكانت تلك بداية الصدام ما بين شيخ القبيلة ورئيس الدولة والخروج عن تفاهمات 1978.
ب - علي عبدالله صالح ركز على الجيش والتسليح وتأهيل أبنائه وأقاربه ليشغلوا مواقع إستراتيجية في الجيش، ونجح في بناء إمبراطورية عسكرية، لكنها اصطدمت بالجنرال علي محسن الأحمر، والذي كان قبلياً معادياً للطائفية الهاشمية، ولأنه من الجيش فقد كان في حزب المؤتمر، لكنه إيديولوجيا يميل لإخوان المسلمين، وطبيعي أن تخلى عن علي عبدالله صالح بعد احتجاجات 2011، لينضم إلى القبيلة غير الهاشمية الزيدية، التي كانت تقود احتجاجات 2011 بمظلة الإخوان المسلمين وقيادة رجل المخابرات «محمد اليدومي»، وشماعة الإسلام السياسي القادم من دول الكابوس «الربيع العربي».

تتضح الأمور بأن احتجاجات 2011، والمسمى ثورة 2011، هدفت للإطاحة والاستيلاء على ثلث الإيرادات التي يستحوذ عليها فريق علي عبدالله صالح، والذي كون فيه جيشاً، وأبرزها القوات الضاربة المسمى الحرس الجمهوري وألوية الصواريخ التابعة لها، وتمت على خطوتين حيث تم إعادة هيكلة الجيش من جهة، ومن جهة أخرى الشروع في فكرة اليمن الاتحادي، والتوزيع العادل للسلطة والثروة وبروباغاندا مشروع الفيدرالية من ستة أقاليم.


أين موقع ميليشيات الحوثي؟ أي الطائفة الزيدية الهاشمية

كانت تعيد ترتيب أوراقها في الخفاء خصوصًا عندما سعت إيران لتجنيد العلامة نجم الدين المؤيدي؛ لكنه رفض، فاضطرت للتعامل مع بدرالدين الحوثي، ومن هذا المنطلق بدأت تعد نفسها لكنها كانت تصطدم بالقبيلة الزيدية الحاكمة والدولة والجيش برئاسة علي عبدالله صالح، ومن جانب آخر الجنرال المؤتمري والإخواني علي محسن الأحمر.
كانت محاصرة من القبيلة الزيدية في صعدة ومن الجنرال الأحمر، ومن علي عبدالله صالح بدهاء إستراتيجي، فقد حد من تواجدهم بجهاز القضاء بالتدريجي عندما صعد رجل «المخابرات» القاضي عصام السماوي رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى، وقام باستقطاب البعض في حزب المؤتمر الشعبي العام، وجزء في الجيش لكن في المخابرات تحديداً كـ «زكريا الشامي»، بل ركز الراحل علي عبدالله صالح في حربه الخفية بإنشاء مرجع ديني سلفي في مناطقهم، وهو المسمى الشيخ المرحوم مقبل الوادعي، الذي يرأسه اليوم الشيخ يحيى بن علي الحجوري، ليجعلهم تحت التهديد الإحلالي الاستبدال الذكي، بمعنى كونوا معي، وإلا سينمو السلف، ويطيح بما تبقى لكم من مساحات في المجتمع، والدولة.

القبيلة سواء زيدية، أو طائفية هاشمية مهما اختلفت إلا أنها بعد التوافق على الصورة الإدارية لحكم البلد تعود لتتحد مجددا، ولكن الخلاف لا يخمد إلا باستقواء مركز سنحان بصنعاء، أو مركز خمر بعمران على الهاشمية الطائفية.

فمعروف عن القبيلة بأن تترك الصراع يشتد لتقوم بدور المخلص، أو تنتظر انتهاء الصراع لتقوم بدورها في تصفية المنتصر، كما فعلت ذلك في مناسبات عديدة مع جميع أبناء اليمن الأسفل منذ السبعينيات، والثمانينيات.
نموذج واضح للهاشمية الطائفية، فقد كانت في ثورة 2011 تنتظر نهاية الخلاف الإداري ما بين جناح الشيخ القبلي، ورئيس الدولة، ثم تنقض على كل مؤسسات الدولة رغم أنها تماهت مبدئياً في مشروعات الحوار الوطني يومها، لكنها كانت تدرك بأنها مقصية لا محالة عن حكم كل اليمن  بفعل المبادرة الخليجية، والحديث عن مناصب الحكومة التوافقية الحاكمة يومها.

فبيت الشامي على سبيل المثال هي قبائل من خولان، لكنها تنتسب للهاشمية، ومع ذلك انتقلت إلى محافة إب لتتوسع في رقعة سيطرتها منتظرة التوقيت المناسب لتقدم نفسها كقبيلة زيدية طائفية هاشمية، رغم أنها كانت في دولة علي عبدالله وحزبه وأجهزته الأمنية، والذي عادت فيه الهاشمية في 2014 مستفيدة من خلاق القبيلة الزيدية وصراع مركزها في خمر مع سنحان 2011، حيث التهمت القبيلة في خمر 2014، ومن ثم انتقلت للجنرال الأحمر كخطوة ثانية عبر ذراعه الجنرال القشيبي، أما جناح علي عبدالله صالح فقد كان لقمة سائغة بعد هيكلة الجيش من قِبل عبدربه منصور هادي، ذات الأمر لبيت الكحلاني، والتي كانت تسيطر على الاقتصاد في المؤسسة الاقتصادية اليمنية.



القاعدة والجماعات الإرهابية

ينتشر بناء خارطة النفط في اليمن، ومواقعها، محددة بالكيلوهات النفطية في خارطة استكشاف والتنقيب والحفر وإنتاج النفط في اليمن، في أبين، وعدن، وحضرموت، وشبوة، والجوف، ومأرب، ما عدا البيضاء فهي تتركز هناك بناء الحاضنة الاجتماعية.

تعز والحجرية، ومأرب، وتهامة، ضحية بدرجة أساسية للشمال القبلي متضررة دومًا بسبب جعلها مسرح خلفي للصراعات الإدارية على السلطة في الشمال والجنوب على حد سواء.



اليمن في وضعية انفجار داخلي


تصورات تجاوز هذه الوضعية لا تخرج من ثلاثة:

1. وضعية ثورة 2011: وذلك بتشكل كتلة تاريخية وطنية Historical Mass عبر تحالف الكيانات المهمشة مع قوى الحداثة، والتغيير في (المركز) للنضال من أجل تغيير هذه الوضعية التاريخية المأزومة، والتي باتت تضر بغالبية الناس في اليمن. وتأسيس الأوضاع الجديدة بشروط تستند على حقيقة التعددية، وتلتزم بتوجهات الديمقراطية، العدالة، المساواة والتعايش السلمي.
2. وضعية التسوية، أو المساومة التاريخية: إن لم يتيسر قيام كتلة تاريخية ناضجة، وقادرة على إنجاز فعل الثورة لأي أسباب أو تداخلات أخرى، فتبقى المسألة مرهونة بمقدار التنازلات التي يمكن أن تقدمها الدولة المركزية القائمة الآن، واستعداد قوى الوعي والمهمشين للتضحية بالاتفاق على برنامج حد أدنى (مثل ما تم في مخرجات الحوار الوطني الشامل)، والذي شكل بداية مساومة تاريخية ما بين الشمال، والجنوب على حساب تعز وتهامة ومأرب)، والالتزام به مما قد يؤدي ـ على المدى الطويل ـ إلى التحولات الضرورية، وإنجاز ما كان يمكن أن ينجزه فعل الثورة. 
3. انهيار منظومة الدولة القائمة: فإذا استمرت المساومات السياسية التي لا تعنى بجوهر المشكلة، واستمر العجز عن تشكيل كتلة تاريخية وطنية ناضجة (وعياً وقوة)، وعجز المركز عن تقدير الواقع حق قدره وأصر على مشروعه، فيبقى الاحتمال الأقوى هو الانهيار (استمرار الحروب الأهلية خصوصاً وأن القبيلة الزيدية، والطائفية في الشمال ترتب لحرب أهلية في الجنوب تحت بند اضطهاد الإسلام السياسي، والحرب على الانفصال، والحرب ضد الاحتلال، والدفاع عن الشرعية، وغيرها من بروباغاندا الضم، والإلحاق العسكري)، وتفتت الدولة اليمنية إلى أقاليم، وكيانات متحاربة. ولا تستبعد التدخلات الخارجية كنتيجة طبيعية.

مهام التأسيس لليمن الجديد: الانتقال التنموي على حساب تفاهمات الكتلة القبلية التاريخية.
هذا يعني ضمن أشياء أخرى، أن هناك مساعي لتشكيل خارطة سياسية جديدة في اليمن، وستكون لها انعكاساتها ليس على الأوضاع الداخلية فحسب، إنما على العلاقات الإقليمية أيضاً. بالتالي، من الأرجح أنه سيكون هناك معسكرين. المعسكر الأول تمثله القوى المهيمنة، والتي بدأت مؤخراً تفقد سيطرتها، مضافاً إليها أحزابها المتحالفة معها الآن، وآخرين محتلمين. تتركز مهام هذه الكتلة المهيمنة في الحفاظ على موقعها ومكاسبها التي تراكمت لها طوال العقود الماضية من امتيازات وأوضاع اقتصادية واجتماعية وثقافية وسلطة. أما المعسكر الثاني، فالرؤية في الأفق المنظور تنبئنا أن يتم تشكيل كتل الحكم الذاتي في الجوانب العربي، وقد تنضم لها مأرب، وتعز، والحجرية، وتهامة، لكن بتكتلات منفردة، إضافة إلى تحالفاتها التي خلقتها طوال الفترة الماضية، وربما تحتمل أيضاً شركاء جدد من داخل معسكر السلطة المركزية القائمة الآن، نتيجة اقتناعهم بضرورة «مساومة تاريخية جديدة» لمراكز القوي التقليدية القائمة منذ تحقيق الوحدة اليمنية، وفشلت في تحقيق المهام السياسية والاقتصادية للدولة الوطنية. المهام الأساسية والإستراتيجية لهذه الكتلة الوطنية التاريخية تتلخص في إنجاز التحول الضخم، بفعل وأهداف الثورة عبر آلية الصراع السلمي عن طريق إضعاف السيطرة ثم تفكيك الهيمنة.



أزمة الدولة وقوى اليمن الجديد

بلا استثناء فالحديث الصريح عن الجوانب الاجتماعية: تحدثت بشكل مركز، وضمني عن سيطرة فئات اجتماعية بعينها على مقاليد السلطة السياسية، ومفاصل الدولة الاقتصادية، تحدثت عن توجيه هوية الدولة والوطن نحو وجهات لا تعكس التكوين الثقافي، والتنموي الإستراتيجي الحقيقي، تحدثت عن تمييز قائم على أسس مختلفة بدأت بالتمييز على أسس عرقية، وانتهت إلى تمييز على أسس دينية..إلخ، والذي يتم إجماله في مصطلح «التهميش المركب» أو المتعدد الاتجاهات والنتائج، والذي تمارسه هذه الفئات أو النخب المسيطرة في المركز على الأطراف، التهميش المركب بمعنى (التهميش الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والثقافي).

الأحداث من حولنا مختلفة بالكامل عن الظروف التي أقامت فيها تحالفاتها في الماضي، فأمامها وضعية تسوية تفرض نفسها، وتؤسس لمرحلة صراع سياسي داخل أسوار أسوأ شريك. فما هي تصورات هذه القوى لهذه المرحلة؟
* باحث إستراتيجي في مجال تطوير البلدان​