مبررات القضاء لم تقنع الوسط الصحافي..

منع تحقيق تلفزيوني عن وفاة الرضع التونسيين

قضية رأي عام

لندن

منع القضاء التونسي بث تحقيق تلفزيوني حول حادثة وفاة 15 رضيعا داخل مستشفى حكومي بالعاصمة، الأمر الذي أثار غضبا واستنكارا واسعا في الأوساط الإعلامية، نظرا لخطورة القضية التي شغلت الرأي العام التونسي منذ أيام، واهتمام الجمهور بمتابعة تفاصيلها ومستجداتها لحظة بلحظة.

وأمر قاضي التحقيق في المحكمة الابتدائية بتونس، مساء الخميس، بمنع بث تحقيق استقصائي على قناة “الحوار التونسي” الخاصة، حول حادثة وفاة مجموعة من الرضع في ظروف غامضة، مؤكدا أن “التناول الإعلامي لقضية ما زالت في طور التحقيق دون تحقيق مسبق في الغرض من شأنه أن يمس من سلامة سير البحث ويتعارض مع مبادئ سريّة التحقيق الجنائي ويُعد تدخلا في سير العدالة، وهو ما يمثل خرقا لأحكام الفصل 109 من الدستور”.

لكن مبررات القضاء لم تقنع الصحافيين الذين اعتبروا المنع هو أحد ممارسات السلطة للرقابة على الإعلام، ومحاولة للتعتيم على هذه القضية وعدم كشف الحقيقة للرأي العام.

وقوبل قرار منع بث التحقيق بموجة تنديد واستنكار شديد وعزّز الشكوك بوجود محاولة للتستّر على تفاصيل هذه القضيّة، حيث كتب الإعلامي هيثم مكي في منشور على صفحته في موقع فيسبوك “مسألة أن قاضي التحقيق يمنع بث برنامج بتعلة ‘سرية التحقيق’ فضيحة ومهزلة أخرى تضاف إلى مخازن الفضائح والمهازل الفائضة علينا في هذه البلاد. هناك المئات من القضايا التي نتكلم عنها ونغطيها منذ سنوات وهي مازالت قيد التحقيق”.


وأضاف مكي في منشوره “هناك قضايا تبقى في التحقيق ست وسبع سنين، فساد، إرهاب، اغتيالات، ماذا نفعل إذن؟ نغلق التلفزيونات والإذاعات، ونكتفي بفقرة صدى المحاكم في الجرائد أم نعود إلى السيد قاضي التحقيق ونستشيره قبل أن نمارس عملنا، وهو يقرر حسب مزاجه؟ ومنذ متى أصبح القضاء يمارس الرقابة القبلية، عوضا عن التدخل بعد البث في حال وجود تجاوزات؟”.

من جهتها، أكدت نقابة الصحافيين التونسيين أن قرار منع بث التحقيق التلفزيوني، يُعدّ “سابقة خطيرة من شأنها أن تنسف ما تحقق بعد الثورة من مكاسب في مجال حرية التعبير والصحافة”. وأكدت أن ذلك “يؤشر إلى عودة الاستبداد وتكميم الأفواه، وتطويع القضاء وتوظيفه من قبل السلطة التنفيذية”.

وعبرت عن صدمتها من قرار منع تحقيق برنامج الحقائق الأربع على الحوار التونسي حول فاجعة وفاة الرضع وقرار منع إعادة بث برنامج 50/50 على قناة قرطاج المتعلق بنفس الفاجعة.

وانتقدت قرار قاضي التحقيق ذاته منع إعادة بث الفقرة الخاصة بالموضوع من برنامج 50/50 رغم عدم تعرضها لأي وثيقة من وثائق الملف القضائي.

وأكد الهيكل النقابي أن القرار المذكور مجرد واجهة لقرار سياسي بمنع التداول في قضية رأي عام تسعى السلطة إلى التعتيم عليها والتحكم في تفاصيلها ومنع الإعلام من الاضطلاع بدوره الاستقصائي والرقابي. وشدد على أن ذلك يعزّز الشكوك حول الأسباب الحقيقية لكارثة وفاة الرضع في ظروف مريبة.

ودعت النقابة الصحافيات والصحافيين والمؤسسات الإعلامية إلى عدم الخضوع لمحاولات تدجين الإعلام وإرجاعه إلى مربع الاستبداد مهما كانت المسوغات، والقيام بدورهم الطبيعي في تنوير الرأي العام في إطار احترام القانون وأخلاقيات المهنة.

وطالبت جميع مكونات السلطة القضائية بالتمسّك بتطبيق القانون بكلّ حياد واستقلالية وعدم الخضوع مجددا لأي إملاءات من شأنها مزيد ضرب ثقة الجمهور وتوقه إلى قضاء عادل ومستقل ينتصر للحقوق والحريات وفي مقدمتها حرية التعبير والصحافة.

ومن جانبه، قال الصحافي زياد الهاني إن “تدخل قاضي التحقيق لمنع بث برنامج تلفزيوني أو جزء منه، يمثل اعتداء على الدستور الذي منع الرقابة المسبقة والتعرض للمنتوج الإعلامي قبل بثّه، ويمثل أيضا تسلطا على الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري التي تختص وحدها بوقف البرامج التلفزيونية والإذاعية، فضلا عن كونه يمثل اعتداء صارخا وجريمة في حق حرية الإعلام”.


وأشار الهاني إلى أن “الرضوخ لهذا القرار التعسفي والإذعان له، يعتبر تهربّا من مسؤولية الدفاع عن شرف المهنة وعن أهم مكسب تحقق للتونسيين”، لافتا إلى أنّ “صمت المنظمات المهنية على هذا الاعتداء، يعتبر عارا وجريمة في حق الإعلام”.

وكانت النيابة العامة قد تعهّدت نهاية الأسبوع الماضي بالتحقيق والبحث في ملابسات وأسباب وفاة 15 رضيعا دفعة واحدة داخل مركز توليد بمستشفى حكومي، في ظروف غامضة.

بدورها أكّدت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، في بيان لها الجمعة، أن قرار قاضي التحقيق سابقة خطيرة تهدد حرية الإعلام في تونس.

وشددت الهيئة على أن ”صدور قرار في منع بث برامج تلفزيونية يشكل سابقة خطيرة تهدد بنسف ما تحقق من مكاسب في مجال حرية التعبير والإعلام تم التأكيد عليها صلب دستور الجمهورية التونسية خاصة في الفصل 31 منه الذي ينص على أن ‘حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة عليها’”.

وأكدت الهيئة، في ذات البيان، أن “استناد قاضي التحقيق في قراري منع البث على أن ما سيتم بثه ‘من شأنه أن يمس من سلامة سير البحث ويتعارض مع مبادئ سرية التحقيق الجنائي ويعد تدخلا في سير العدالة’،هو توجه في غير طريقه على اعتبار أن الجزم بذلك يقتضي الاطلاع على محتوى البرامج المعنية بعد بثها، وماعدا ذلك فهو عودة إلى آلية الرقابة المسبقة المرتبطة تاريخيا بالنظام الدكتاتوري”.

وشددت على أنه من “واجب المؤسسات الإعلامية التطرق إلى مختلف المواضيع لإنارة الرأي العام ضمانا لحق المواطنين في الحصول على معلومة دقيقة وقطعا مع ممارسات التعتيم الإعلامي الذي يفضي ضرورة إلى انعدام الشفافية وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة”.

وذكّرت الهيئة بأن “القرارين المذكورين يشكلان مسا بصلاحيات الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري باعتبارها المؤسسة الموكل لها بصفة حصرية مراقبة مدى تقيد القنوات التلفزيونية والإذاعية بالقوانين والتراتيب الجاري بها العمل واتخاذ ما يتعين بشأنها”