ترجمة..

كيف يستخدم حزب العدالة القوة الناعمة للإسلام؟

محاولة تركيا للقيادة الدينية

أنقرة

يعمل حزب العدالة والتنمية على توظيف الدين كأحد أهم أدوات السياسة الخارجية التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى قيادة البلاد في عام 2002. وتعمل حكومة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" على التمدد خارجيًا من خلال استخدام الشعارات الدينية بهدف تحقيق مكاسب مادية مثل انتشار المنظمات الدينية التركية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا ودول أوروبا؛ إذ تقدم الحكومة التركية المنح والعطايا لبناء المساجد وتمويل التعليم الديني واستعادة التراث العثماني، وذلك بغرض إبراز دور تركيا كقائدة للعالم الإسلامي كما كانت في عهد الدولة العثمانية.

ويقدم "أردوغان" نفسه كوريث شرعي لأجداده العثمانيين باعتبارهم مثلوا آخر خلافة للمسلمين. ويوظف في ذلك مؤسسات المجتمع المدني والحكومي لإبراز الهوية التركية ونشر اللغة بهدف إحياء الحضارة العثمانية. وينافس تركيا في هذا الدور كل من المملكة العربية السعودية التي تٌشرف على الحرمين الشريفين في مكة ومدينة، وإيران باعتبارها ممثلًا للطائفة الشيعية في العالم الإسلامي. وتعمل كل واحدة من هذه الدول المتنافسة على نشر الإسلام وفق نسختها الخاصة من خلال بناء المساجد وتمويل المنظمات الإسلامية المنتشرة في أفريقيا، آسيا، والدول غير الإسلامية.

في السياق ذاته، تحاول تركيا تقديم نفسها كنموذج للإسلام الحداثي الذي واكب بين التقليد العثماني والحداثة الكمالية، وهو ما يعتبره الكاتب علامة تجارية لإسلام أكثر تسامحًا واتساقًا مع النموذج الغربي عند مقارنته بنمط الإسلام المحافظ الذي يقدمه منافسي تركيا.  ويرى (Gonul Tol)  أن المدرسة الحنفية التي تتبناها تركيا تتسم بالليبرالية النسبية، وتوفر مساحة مرنة لتفسير القوالب الدينية الجامدة عند الحنابلة على سبيل المثال.

دبلوماسية المساجد

تستخدم تركيا ورقة بناء المساجد كأكثر الأوراق وضوحًا وربحًا لاكتساب تعاطف الرأي العام الإسلامي. وافتتح "أردوغان" في 2015 مسجدًا كبيرًا في العاصمة الألبانية تيرانا، كما افتتح في ربيع عام 2016 أكبر مركز إسلامي في نصف الكرة الغربي في ولاية ماريلاند الأمريكية. وفي مطلع هذا العام، افتتح واحدًا من أكبر المساجد في أوربا بمدينة كولونيا الألمانية، والتي تضم جالية تركية كبيرة. وتخطط أنقرة في الوقت الحالي لبناء عددٍ من المساجد في فنزويلا وكوبا ورومانيا.

وتدعم الحكومة التركية هذه المشاريع من خلال مؤسسة (Diyanet foundation) التي تعمل تحت إدارة الشؤون الدينية. وبدأت مؤسسة ديانات عملها عام 1924 للترويج للعلمانية الإسلامية التي انتهجتها تركيا بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، وذلك لإبراز أنه لا تعارض بين سياسة أتاتورك العلمانية والقيم الإسلامية التي انقلب عليها. وبالإضافة إلى بناء المساجد ودعم المنظمات الإسلامية، تقوم ((Diyanet foundation بتعيين الأئمة ودفع رواتبهم من ميزانيتها، وكذلك تقديم التعليم الديني للجمهور التركي، وتفسير النصوص الدينية وفق الأحكام الشرعية، والإشراف المباشر على كتابة خطب الجمعة التي تُقرأ أسبوعيًا في المساجد التركية.

تجدر الإشارة إلى أن الدين لم يكن له أي دور خارج حدود تركيا الكمالية، ولكن بعد انقلاب 1980 لجأت الأحزاب والمنظمات الإسلامية واليسارية إلى اكتساب النفوذ بين مجتمعات المهاجرين الأتراك في أوربا الغربية. وقد استخدمت الحكومة العسكرية في ذلك الوقت مؤسسة ديانات (Diyanet foundation ) للترويج السياسي لهم من أجل اكتساب الولاء ومنع التطرف. وفيما بعد، قام حزب العدالة والتنمية بتوسيع دور (Diyanet foundation ) الدولي، وجعلها أداة واضحة لتنفيذ الأجندة السياسية والأيديولوجية لحزب العدالة والتنمية، وهو ما تأكد في عام 2010؛ حيث تدخل حزب العدالة والتنمية في تعيين رئيس للمؤسسة أكثر ولاء للحزب وقياداته. وتوسع دور المؤسسة بشكلٍ كبير بعد إجراء العديد من الاصلاحات التشريعية؛ حيث تعززت قدرتها البيروقراطية والإدارية بما في ذلك توظيفها لخدمة السياسة الخارجية التركية. وتنتشر أعمال (Diyanet foundation ) في جميع أنحاء العالم، من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا وإفريقيا وآسيا، وتقدم الخدمات الدينية للمجتمعات المسلمة في هذه الدول مثل تنظيم رحلات الحج والعمرة، وتثقيف الدعاة ونشر الكتب الدينية، وترجمة القرآن إلى اللغات المحلية. كما تقوم بتوفير المنح الدراسية لطلاب إفريقيا والبلقان وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية لدراسة العلوم الشرعية في تركيا.

لم تعد مؤسسة (Diyanet foundation ) أداة تركيا الوحيدة للقوة الدينية الناعمة؛ حيث قامت الحكومة التركية بإنشاء وكالة التعاون والتنسيق التركية، ووسعت دورها دوليًا. وتعمل مؤسسة التنسيق والتعاون في الوقت الحالي على رعاية مواقع التراث العثماني في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك العشرات من المعالم الأثرية في البلقان، وضريح المحارب والشاعر العثماني "جول بابا" في المجر، وسوق مدينة كركوك العراقية، ومبنى قنصلية الدولة العثمانية في أثيوبيا. وقد عملت المنظمات الإنسانية غير الحكومية على تعزيز الدور التركي في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال تقديم المساعدات الإنسانية كالإمدادات الطبية، والغذاء، وتطوير البنية التحتية اللازمة لعمل المدارس والمستشفيات ودور الأيتام. واستفادت هذه المنظمات من جهود حزب العدالة والتنمية في تخفيف القيود التي كانت مفروضة على عملها في السابق مثل جمع التبرعات وتوسيع أنشطتها في الخارج. وتستغل قيادات حزب العدالة والتنمية أنشطة هذه المنظمات لصالح الحزب مستغلة في ذلك العلاقات الوثيقة التي تجمعها مع قيادات هذه المنظمات.

نموذج جني المكاسب: الصومال نموذجًا

يستشهد (Gonul Tol) بالدور الذي لعبته تركيا في مجاعة الصومال المدمرة في أغسطس/آب 2011 لإثبات ان دبلوماسية الدين التي تتبعها تركيا نابعة في الأساس من مصالحها الاقتصادية والثقافية. ففي الوقت الذي غاب الغرب فيه عن هذه الكارثة الإنسانية، ترأس "أردوغان" وفدًا من كبار الوزراء والمسؤولين من المنظمات الإنسانية التركية لتقديم الدعم النفسي والمادي للمتضررين من هذه الأزمة. وفي حديثه لوسائل الإعلام؛ قال "أردوغان": "لن نتخلى عن إخواننا المسلمين في أي مكان". ومنذ ذلك الوقت، أنفقت تركيا أكثر من مليار دولار على المساعدات الإنسانية للصومال. على الناحية الأخرى، جنت تركيا مكاسب استثمارية ضخمة من هذه الدبلوماسية؛ إذ تقوم شركة تركية بإدارة مطار مقديشو الدولي في ذلك الوقت فضلًا عن الامتيازات التي جنتها الخطوط الجوية التركية التي تُعتبر الناقل الدولي الوحيد الذي يعمل في الصومال. وتُدير (Diyanet foundation )، وغيرها من المنظمات الإسلامية غير الحكومية العديد من المدارس الدينية في الصومال. علاوة على ما تقدم، يوجد مستشفى في الصومال يحمل اسم زعيم حزب العدالة والتنمية "أردوغان". 

نموذج تركيا للتدين

ينتشر التعليم الديني بنمطه التركي في العديد من الدول الأفريقية مثل تشاد وإثيوبيا وغانا والنيجر ونيجيريا. وتدير المنظمات الإسلامية التركية هذه المدارس. واستفادت تركيا من أحداث 11 من سبتمبر/أيلول التي جعلت العالم ينظر إلى نمط التدين التركي الذي اعتبروه بديلًا للتيارات الأكثر تطرفًا. وتقوم الحكومة تركيا بتقديم المنح الدراسية للعديد من الطلاب الأجانب لتلقي العلوم الدينية في مدارس إمام وخطيب الدولية بمدينة إسطنبول. كما لعبت جمعية معاريف دورًا نشطًا في تعزيز التعليم الديني على الطراز التركي في الخارج؛ إذ تقوم بتقديم المنح الدراسية وبناء المدارس وملحقاتها اللازمة للإعاشة إضافة إلى تدريب المعلمين.

العلاقات العربية التركية: العودة إلى المربع صفر

تسود حالة من عدم الثقة بين العديد من دول الشرق الأوسط وتركيا، وذلك نتيجة لحالة العداء التاريخي بين العديد من دول الشرق الأوسط، والدولة العثمانية؛ إذ يراها العرب قوة إمبريالية احتلت بلادهم لفترة كبيرة من الزمن. في المقابل، لن ينسَ الأتراك ما يعتبروه خيانة العرب لهم بسبب تحالفهم مع البريطانيين ضد الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. ومنذ ظهور حزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإسلامية في عام 2002، بدأت هذه المساحة من العداوة تتلاشى، وذلك اعتمادًا على القوة الناعمة للإسلام، والاتصال بين حزب العدالة والتنمية في تركيا وجماعة الإخوان المسلمين المنتشرة فروعها في العالم العربي إضافة للدعم الإعلامي الذي قدمته قناة الجزيرة المدعومة قطريًا لتعزيز صورة تركيا كنموذج للدولة الإسلامية التي تجمع بين التقليد والحداثة. وظهرت نتائج هذه التقارب بشكلٍ إيجابي في أعقاب أحداث 2011، ولكن ما لبث إلا وتغير الحال نتيجة الانخراط التركي العنيف في الأزمة السورية، وسقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، واعتبارها منظمة إرهابية في مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة. 

المصدر