صراع امريكي روسي حول التسلح النووي..

"الرؤوس الساخنة" تحرق معاهدة الصواريخ الروسية الأمريكية

القضاء على منظومة كاملة من الصواريخ بين الدولتين العظميين

صحيفة البيان

سيكون من الصعب على كل من الولايات المتحدة وروسيا استكشاف نوايا كل منهما الأخرى بعد أن انتهت معاهدتهما الوحيدة للحد من الأسلحة النووية المحمولة على صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، ما سيعطي لكل منهما الحافز لتوسيع ترسانته. في 8 ديسمبر 1987 تنفس العالم الصعداء، بعد توقيع قادة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في واشنطن، على معاهدة القضاء على الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، التي تنص كذلك على تدمير أسلحة التموضع الأرضي ومنصات الإطلاق الخاصة بها.

كان هذا الاتفاق الأول والوحيد في تاريخ القضاء على منظومة كاملة من الصواريخ بين الدولتين العظميين. وبالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، لم يكن الاتفاق الذي وقعا عليه قضية سياسية أو دبلوماسية، بل قضية حياة أو موت.

ظهورهذا النوع من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، التي تتمتع بسرعة ودقة، وضع على المحك العنصر الأبرز للاستقرار في القرن الماضي، ألا وهو التوازن النووي، الذي وضع حداً لأوهام الانتصار في أي حرب نووية مفترضة.

في البداية جرى الالتزام بروح ونص المعاهدة، وشكلت لجان مشتركة لمراقبة تنفيذها. وقام كل طرف بتدمير كل الصواريخ التي كان يملكها من هذا الطراز: الاتحاد السوفييتي 1846 صاروخاً، والولايات المتحدة 846.

30 عاماً تقريباً مضت على توقيع هذه المعاهدة، تخللتها اتهامات روسية لواشنطن باختبار صواريخ باليستية، يصل مداها لـ5 آلاف كيلومتر. الأخيرة كانت تبرر ذلك بأنها صواريخ تجريبية لاختبار منظومة الدفاع الصاروخي في بولندا ورومانيا.

مفترق طرق

أما في الوقت الراهن، والذي أصبح الكثيرون يطلقون عليه اسم «الحرب الباردة الثانية»، فقد انسحبت الولايات المتحدة من المعاهدة، وتلتها روسيا بعد أيام، إثر تبادل الاتهامات بارتكاب خروقات ومخالفات لبنود الاتفاقية، التي شكلت في وقتها صمام أمان من سباق غير مقيد للتسلح، ونزعت فتيل مواجهة نووية محتملة.

من جديد أصبح العالم أمام مفترق طرق جديد، وهنا يتجدد الخطر الذي نسيه العالم لنحو ثلاثين عاماً، وهو الحرب النووية.

مغزى الاتفاقية

لفهم أهمية هذه المعاهدة يجب أخذ فكرة عن أنواع الأسلحة النووية التي صنعها كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، إضافة إلى المعاهدات الثنائية التي وقعت بينهما، للحد من انتشارها.

كانت القنابل الجوية هي الشكل الأول للسلاح النووي، لكنها كانت عديمة الجدوى دون توفر وسائط «التوصيل»، التي تسمى بـ «القاذفات الاستراتيجية». وحتى مع وجود أسطول كبير من الطيران بعيد المدى، فإن خطر هذا النوع من الذخيرة لا يمكن معادلته بوجود نظام دفاع جوي قوي ومقاتلات حربية متطورة لدى الخصم.

بعد تصنيع القنابل النووية ذات السقوط الحر، بنى كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة نظاماً هشاً، دفع بالطرفين للخروج منه لاحقاً، عبر نشر أنظمة خاصة بكل منهما.

ومع توفر أعداد كبيرة من القنابل الجوية والقاذفات، أصبح الرهان الآن على القيام بتدمير الخصم، دون إلحاق ضرر كبير بقوات الدولة التي قامت بالهجوم، نتيجة لضربة انتقامية.

بيد أن نقطة ضعف هذه النظرية تكمن في المدة الزمنية الطويلة نسبياً للوصول إلى الأهداف، ما يعني إمكانية تدمير القاذفات الناقلة للقنبلة النووية، إضافة لتوفر مدة زمنية كافية لدى الخصم لاستجماع قواه، وتوجيه ضربة انتقامية.

تمثل المخرج من هذه المعضلة بتصنيع سلاح الصواريخ الاستراتيجية العابرة للقارات، وتحديداً أنظمة تأمين توجيه الضربات الهجومية لأية نقطة داخل مناطق العدو، دون الحاجة لاستخدام تقنية الطيران.

ورغم أن هذه الطريقة أدت لتقليص الفترة الزمنية اللازمة لوصول السلاح النووي إلى هدفه، إلا أنه مع ذلك بقي لدى الخصم زمن كاف للقيام بهجوم مضاد.

من هنا كان إدراك «الرؤوس الساخنة» في كلا البلدين، بأن احتمال التدمير المتبادل يتطلب الإسراع ببدء الحرب.

هذا المنطق دفع الطرفين لتجربة أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ، التي تسمح بإسقاط أكبر عدد من الصواريخ التي تحمل رؤوساً نووية للعدو.

لكن المفارقة تبقى في أن نظام الدفاع الصاروخي لا يؤمن الحماية المطلقة. لذا فإن الطرف الذي لا يملك هذا النظام، يمكن أن يقوم بمحاولات لتدمير الخصم، من خلال هجمات صاروخية مكثفة، في مسعى منه لاختراق درع الخصم.

بدورها، وفي حال توفر هذا النوع من نظام التصدي لهذه الصواريخ، فإن الدولة الخصم، يمكن أن توجه ضربة جوية، معتمدة على متانة وفاعلية أنظمتها الدفاعية.

ماذا جرى لاحقاً؟

على ضوء هذه التناقضات والمصاريف الهائلة على سباق التسلح، جرى في العام 1972 التوقيع على معاهدة الحد من أنظمة الدفاع الصاروخي. وفي العام 1974 تم إضافة ملحق للمعاهدة ينص على نشر هذا النوع من الأنظمة في مكان واحد فقط، سواء حول العاصمة، أو في مكان انتشار الصواريخ العابرة للقارات. فقام الاتحاد السوفييتي بتأمين الحماية حول مدينة موسكو، أما الولايات المتحدة فنشرتها في محيط قاعدة غراند-فوركس.

بيد أن عدم الثقة المتبادلة بين القطبين، ورغبة كل منهما في محو الآخر من على وجه الأرض، دفعت كل منهما لتصنيع الصواريخ الباليستية والمجنحة القصيرة والمتوسطة المدى، والقادرة على تدمير منصات صواريخ العدو، ومراكز السيطرة والتحكم التابعة له، وغيره من الأهداف المهمة التكتيكية في دقائق معدودة.

لكن مشكلة واحدة بقيت، وتمثلت في الحاجة لنشر منصات إطلاق الصواريخ بالقرب من حدود الخصم، وذلك نظراً للمدى غير البعيد نسبيا لهذه الصواريخ.

على هذا الأساس، قام الاتحاد السوفييتي بنشرها على أراضيه وفي بلدان حلف وارسو آنذاك، فيما نشرتها الولايات المتحدة على أراضي حلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بأوروبا.

بهذا الشكل أصبحت الأهداف الأولى لأي هجوم نووي، ليس فقط الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، بل وبلدان أوروبا، لاسيما تلك التابعة لأحد المعسكرين.

وقد دفع تعاظم القلق العام من سباق التسلح، وإقحام بلدان أخرى في هذا النزاع، إضافة إلى بدء الدفء في العلاقات بين الغرب والبلدان الإشتراكية، إلى توقيع معاهدة الحد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، ما أزاح خطر اندلاع الحرب النووية بين المعسكرين.

بيد أن التطورات الأخيرة، وإعلان واشنطن ومن ثم موسكو مطلع العام الحالي انسحابهما من المعادلة، أدت لانهيار كل ما تم إنجازه، وأعاد الهواجس من إحياء سباق جديد للتسلح والصدام النووي.

«تمزيق» المعاهدة!

في العام 2019 قامت واشنطن بآخر خطواتها نحو العودة لأجواء الحرب الباردة، وهو الشيء الذي ذهبت إليه كذلك موسكو.

بررت الولايات المتحدة انسحابها، باتهامها لروسيا بانتهاك البند المتعلق بتصنيع صواريخ يتجاوز المدى المنصوص عليه في المعاهدة.

وينبع قلق واشنطن من قيام روسيا بتجربة صاروخ «9-729»، هو النسخة البرية لصاروخ «كاليبر» البحري.

أما موسكو فنفت كل الاتهامات الموجهة إليها، وأصرت على أن مدى هذا الصاروخ لا يتجاوز الـ 500 كيلومتر، ما يطابق نصوص المعاهدة. ورداً على الخطوة الأمريكية قررت موسكو تعليق مشاركتها في المعاهدة، بل وأعلنت على لسان الرئيس فلاديمير بوتين أنها ستعمل على تطوير صواريخ متوسطة المدى، رداً على ما قال إنها مشاريع مماثلة تقوم بها الولايات المتحدة.

لطالما كانت الشكوك حاضرة بين البلدين بخصوص التزام كل طرف بنص الاتفاقية، وهو ما كان واضحاً في تصريحات قادة الولايات المتحدة وروسيا، لاسيما في تسعينيات القرن الماضي.

وخلال هذه الفترة تمكنت الكثير من البلدان في آسيا ومناطق أخرى من العالم بتجربة هذه المنظومة من الصواريخ، والتي نصنف بأنها قصيرة ومتوسطة المدى. ولكن مع ذلك يبقى الروس والأمريكان اللاعبين الأساسيين، اللذين يتحملان مسؤولية الأمن والاستقرار في العالم.

«شعرة معاوية»

وزارة الدفاع الروسية، وفي محاولة وصفتها بالأخيرة منها لإنقاذ الموقف، وسحب فتيل الأزمة، دعت الجانب الأمريكي إلى العودة للالتزام بتنفيذ بنود الاتفاقية، داعية إياها لتدمير منصات الإطلاق على اليابسة من طراز «ام ك 41» والمخصصة لإطلاق صواريخ «توماهوك» المجنحة، وغيرها من الصواريخ التي تصنف بـ«الباليستية»، والمنصوبة على اليابسة، القصيرة والمتوسطة المدى، إضافة إلى الطائرات بدون طيار الهجومية، والتي تقع وفق المعاهدة، تحت تصنيف صواريخ كروز.

وبانتظار رد واشنطن، لا تزال موسكو تنفي بشكل قاطع مخالفتها لأحكام معاهدة الحد من انتشار الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، بل تصر على أن الولايات المتحدة هي من قامت بذلك، من خلال تهيئة الظروف لتصنيع صواريخ تدميرية خلافاً لبنود المعاهدة.

السبب الحقيقي

يرى نائب مدير معهد الاقتصاد والسياسة الدولية ألكسندر سوزدلتسيف أن اعتبار واشنطن الصواريخ الروسية بأنها تطابق تعريف الأسلحة التي تحظر الاتفاقية تصنيعها، يجافي الحقيقة،وأن ثمة شعوراً بأن هذا ليس هو السبب الحقيقي، بل في إدراك الإدارة الأمريكية الحالية بأن الاتفاق الذي وقعه ميخائيل غورباتشوف ودونالد ريغان عام 1987 لم يعد يلبي مصالحها.

وأضاف أن الولايات المتحدة كانت تمتلك هذا النوع من الصواريخ قبل انسحابها من المعاهدة، وقد اصبح من الملح بالنسبة لها الآن الانسحاب من الاتفاقية لشرعنة تصنيع واختبار هذه الصواريخ.

وأوضح أن حديث الرئيس دونالد ترامب عن نية بلاده إجراء تجربة صواريخ جديدة، يدل بشكل قاطع على امتلاك الولايات المتحدة لهذه الصواريخ من قبل، لأنه من غير الممكن تصنيعها خلال 5 أشهر، ما يؤكد أنها هي من خالفت أحكام اتفاقية نزع الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، أو على الأقل من بادر إلى ذلك.

أخطر سيناريوهات المواجهة

تأتي الأزمة الجديدة بين موسكو وواشنطن، وفق مراقبين روس، ضمن سلسلة تنافرات غير مسبوقة، لم تشهدها العلاقات بين البلدين منذ حقبة «الحرب الباردة»، وتصاعدت بشكل حاد مع تولي دونالد ترامب لمنصب الرئاسة في البيت الأبيض، خلافاً لتوقعات بتحسن العلاقات بين البلدين، كما كان يلمس من البرنامج الانتخابي لترامب.

لكن المفاجيء أن التدهور وصل إلى الخطوط الحمراء، التي تلامس أخطر سيناريوهات المواجهة بين البلدين- المواجهة النووية.

مصلحة مشتركة

بيد أن ذلك لم يسد الأبواب أمام قراءات متفائلة، كما يرى الخبير في العلاقات الدولية ألكسندر موسييف، الذي يرى أن تجميد العمل باتفاقية القضاء على الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى هو في مصلحة الطرفين.

ويوضح الخبير الروسي أن الاتفاقية تتعلق فقط بروسيا والولايات المتحدة. ومنذ بدء العمل بها قد تكون دول كالصين وباكستان والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية، وربما إيران أيضاً، أصبحت تمتلك صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، ما سيحرر قيود موسكو وواشنطن في محاولة اللحاق بتلك الدول.

وعلاوة على ذلك، فإن انسحاب واشنطن وموسكو من الاتفاقية قد يمهد الطريق أمام صياغة اتفاقية جديدة، سيتطلب التوقيع عليها ضم جميع الدول التي تملك صواريخ من هذا الطراز.

وفيما تبدو الآمال أكثر شحة حيال احتمال من هذا النوع، إلا أن التوقعات خلال الحرب الباردة بحصول انفراج في العلاقات بين الخصمين اللدودين، وتراجع السباق والتهديد النوويين كانت كذلك متشائمة. فهل سيؤدي «تمزيق» اتفاق الصواريخ، إلى حصول مبادرة في المستقبل، تضمن الأمن لكوكب الأرض ؟