تكريس ثقافات جهوية..

حصادنا من ثقافة "المكونات" والاستئثار بالثروات

صابرات على باب محاصصة تعد بكل شيء ولا تقدم أي شيء

عبدالأمير المجر

في الاشهر الاولى بعد الاحتلال، انتشرت في بغداد والمحافظات، لوحات "تثقيفية" علّقت على جوانب الشوارع بشكل مكثف، وقد كان بعضها على شكل "شدة ورد" مكتوب على كل وردة: شيعي، سني، كردي، تركماني، مسيحي، صابئي، ايزدي. القصد الظاهر منها، حث العراقيين على انهم، بطيفهم المتنوع، يمثلون شدة ورد! وقد تزامن هذا مع كتابة الدستور الذي رافقه جدل كبير، لاسيما في النقاط التي تحدثت عن الاقاليم المقترح ادراجها فيه وصلاحياتها والقصد منها.. الخ. ربما لم يعرف الكثيرون، حينذاك، ان من وقف وراء هذا التثقيف، اراد زرع بذور الفرقة بين ابناء الشعب الواحد، والذي عرّفه الدستور بالمكونات التي نسفت ضمنا فكرة المواطنة، بغية تكريس ثقافات جهوية، ستكون المرجعية الاساس للعملية السياسية، فيما بعد.

لقد شهدت الاعوام القليلة التي تلت اقرار الدستور، سعيا حثيثا من بعض القوى السياسية، لإقامة الاقاليم الفيدرالية، وكان العام 2007 الذي اقر فيه مجلس النواب قانون الاقاليم، بداية هذا الحراك، لكن بعض القوى المعارضة لهذه الفكرة بالاساس، وقوى اخرى انتبهت متأخرة لخطورة هذا المشروع التقسيمي، تصدت للأمر وجمّدت المسعى، لان بتطبيقه ستختفي الدولة العراقية، وهو ما كان مخطط له من قبل المحافظين الجدد بزعامة جورج بوش الابن، والذين لم يأتوا العراق الاّ من اجل تنفيذ مخطط كبير، لتقسيم المنطقة على اسس دينية وطائفية وعرقية، يبدأ من العراق. وهو ما تبين لاحقا، بعد ان بات العمل عليه جليا بشكل لا لبس فيه اثناء الازمة في سوريا التي شهدت محاولة لتقسيمها هي الاخرى، لم تتوقف الى اليوم. ما دفع بدول اقليمية، استشعرت الخطر، وفي مقدمتها ايران وتركيا، بالإضافة الى القوى العراقية الرافضة، الى التصدي للمشروع واحباطه، وان لم يحسم الامر بشكل نهائي حتى الان.

ثقافة التقسيم، التي بدأت بتهيئة الناس نفسيا، من خلال الاعلانات التي اشرنا اليها، ارتدت اقنعة مطلبية، كان ابرزها اقرار قوانين تمييزية بين ابناء الشعب الواحد، تمثلت بتخصيص نسبة خمسة بالمائة من واردات النفط، باسم البترودولار، للمحافظات المنتجة، واعقبها تخصيص نسبة اخرى من واردات المنافذ الحدودية للمحافظات التي تقع فيها منافذ! ورافق هذا تثقيف جهوي اثناء الحملات الانتخابية لمجالس المحافظات تحت عنوان "محافظتي اولا" وغيرها! لتكريس الانعزالية وقتل روح الايثار لدى العراقيين تجاه بعضهم البعض، واشاعة ثقافة الاستئثار، التي لم تكن اصلا لصالح الناس وانما للاحزاب والقوى المتنفذة. وهكذا وجدنا انفسنا امام واقع ثقافي سياسي غريب على حياة العراقيين.

من يقرأ الدستور العراقي، سيتأكد من ان الاقاليم المقترح اقامتها، لم تكن سوى مقدمة لإقامة دويلات مستقلة، كون الصلاحيات الممنوحة لها، لاسيما في حق التصرف بالثروات وغيرها، يجعل من المستحيل انسجامها في دولة واحدة، منوهين الى ان لكل اقليم سيكون هناك حرس اقليم، ممول من ثرواته الخاصة، ورئاسة اقليم ورئاسة وزراء وبرلمان ووزراء وتمثيل خارجي، ما يعني ان الحكومة الاتحادية ستفقد قدرتها على ادارة البلاد، بعد ان تفقد سيطرتها على التصرف بالثروات التي تمكنها من بناء جيش وطني ومؤسسات امنية توحد البلاد وتحميها، وستفقد شخصيتها المعنوية التي ستوزع بين اقاليم، هي في الحقيقة دول مستقلة، استحوذت على الاموال واستكملت اسباب استقلالها، وسيكون اعادة توحيد البلاد مرة اخرى امرا شبه مستحيل.

هل اكلنا يوم اكل الثور الابيض، كما يقول المثل؟ أي هل كانت الموافقة على منح صلاحية اقامة الاقاليم في الدستور، واقرار قانونها لاحقا، بذريعة انهاء المركزية لقطع الطريق على اقامة دكتاتورية مرة اخرى، خطأ وعلينا تداركه قبل فوات الاوان؟ نعم، ومن خلال تعديل قانون الاقاليم، لان من الصعب الغاءه، بما يجعله منسجما مع مبدا اللامركزية الادارية للمحافظات، بعيدا عن البيروقراطية التي اثقلت على الناس واشاعت التذمر بينهم، ما سهل على اللاعبين في الظلام، تحركهم بهذا المسعى المسبوق بثقافة الاستئثار، والمرفوق بوعود معسولة للناس المحرومة من ثرواتها، بسبب الفساد، لكسب تأييدها، وهو ما صرنا نسمعه ونقراه للبعض من المواطنين في البصرة وغيرها من المحافظات الغنية. ويبقى الاهم الذي يجب ان ننبه اليه، هو ان الفساد الاداري لم ينته بإقامة الاقاليم، بل سيزداد بعد ان ينفرد الفاسدون بثروات البلد المقسّم والمخرّب، وحينها سيندم الجميع حتما!