العزل حتى الموت

مصر: المجتمع يحكم على مرضى الإيدز

الفنانون والمجتمع الدولي في مقدمة الصراع مع المرض

عماد أنور (لقاهرة)

أن يسوقك القدر، لتجد نفسك في حضرة مجموعة من “المتعايشين” مع مرض الإيدز، فهو أمر محيّر ومقلق للغاية، لكن التجربة لن تغادر ذاكرتك حتما، وستكون هناك صعوبة بالغة في مقابلتك الأولى معهم، حيث ستجد فيها نفسك مضطرا لمدّ يدك كي تصافحهم وتبادلهم السلام، وفي تلك اللحظة ستلـمح في أعينهم نظرة اليقين بأنك خائف منهم، غير أنهم -ودون أن تنطق ألسنتهم بكلمة واحدة- ستبلغك ابتساماتهم رسالة بليغة فحواها “مدّ يدك.. فمصافحتك لنا لن تنقل العدوى”.

القصص الكثيرة تكشف عن واقع مرير، يحاول المرضى التعايش معه بنفس راضية، وبمعونة الصداقات التي تنشأ بينهم، بعيدا عن أعين المتأففين منهم، أو الواصمين لهم، لأنه لا يمكن لأحد أيّا كان أن يشعر بمعاناة المريض سوى مريض آخر.

وكمشاركة لنا في أوجاعهم، ننقل معاناتهم الشديدة لعلنا ننجح في تغيير النظرة إليهم، والتعامل معهم كالأسوياء، نعم.. هم أصيبوا بالإيدز، وأخطأوا بممارستهم سلوكيات معينة (جنس غير شرعي، وإدمان…)، لكن هذا لا يعطي الحق في إصدار حكم إعدام مسبق على أشخاص ينتظرون الموت كل يوم.

فيروس نقص المناعة المكتسبة، المسبب للإيدز، يهاجم خلايا جهاز المناعة في جسم الإنسان بغرض تدميرها، وبالتالي تنخفض قدرة هذا الجهاز على مواجهة الفيروسات والمسببات للأمراض الأخرى التي تصيبه.

وهناك فرق بين المتعايش مع فيروس نقص المناعة البشري ومريض الإيدز، إذ عندما يصاب الشخص بفيروس نقص المناعة البشري، يطلق عليه “متعايش مع فيروس نقص المناعة البشري”، ويتأثر جسمه وقتها بصورة بطيئة وتدريجية، وقد يمارس حياته بشكل طبيعي لفترات طويلة، إلى أن يضعف جهاز المناعة تماما، وتظهر عليه الأعراض، وحينها يتحوّل من متعايش إلى “مريض بالإيدز”.

في اليوم الأول من ديسمبر من كل عام، يتمّ الاحتفال باليوم العالمي لمرضى الإيدز، ووفقا لمدير برنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة الإيدز، الدكتور أحمد خميس، بلغ عدد المتعايشين مع الإيدز على مستوى العالم نحو 36.7 مليون شخص في عام 2015، منهم 230 ألفا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ووصل العدد في مصر إلى نحو 11 ألف شخص، بزيادة 1200 حالة عن عام 2014.

الشكاوى كثيرة، من عدم انتظام تلقي العلاج، والمعاملة السيئة من الممرضات قبل الأطباء، خصوصا من يقطنون في المحافظات البعيدة

وأرجع خميس، أسباب هذه الزيادة العددية في مصر، إلى وصم المريض والتمييز الملازم له، وعدم حصول المتعايش على حقوقه، والاعتماد على المنح الخارجية للعلاج المجاني.

وقال لـ”العرب”، إنه “للأسف يتم ربط برامج التوعية عن مرض الإيدز بالتمويل الدولي، لذا فإنه لا بدّ من التفكير في مشروعات توعوية للشباب عن مرض الإيدز، خصوصا وأن أكبر معدل زيادة في عدد المتعايشين، يوجد في 5 بلدان بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي بالترتيب؛ إيران، السودان، مصر، المغرب والصومال”.

انتقال الفيروس

بالالتفات إلى طرق انتقال فيروس نقص المناعة البشري، فإنه ينتقل عن طريق الدم الملوث بالفيروس، أو مشاركة الأدوات الثاقبة للجلد الملوثة بالفيروس، أو الاتصال الجنسي غير المحمي مع شخص مصاب، أو من الأم المتعايشة مع الفيروس إلى مولودها أثناء الحمل أو الولادة أو الرضاعة الطبيعية.

ولا ينتقل الفيروس عن طريق المعايشة اليومية للمريض، مثل المصافحة أو المعانقة أو التقبيل أو مشاركته الطعام والشراب أو استخدام المرحاض، كما لا ينتقل أيضا عن طريق الدموع واللعاب والعرق أو لسع الحشرات.

وإذا كانت الإحصاءات الطبية، وطرق انتقال المرض، أمورا مهمّة للباحثين عن المعلومات، فالدخول إلى هذا العالم المليء بالأسرار والتجارب المأساوية، درس لا يمكن لأحد أن يتعلمه في أعرق قاعات المحاضرات العالمية، وما قاله المتعايشون مع المرض لصحيفة “العرب”، يثبت صحة ذلك.

في مكان آخر غير المراكز الطبية أو ساحات المستشفيات، يجلس المرضى من الرجال والنساء معا، ربما من أجل الفضفضة أو الاطمئنان على بعضهم البعض بحكم العلاقات التي تنشأ بينهم، فهم جميعا شركاء في هذا المرض اللعين، وقد وجدوا في التعاون والتعاضد سبيلا للتغلب على تلك المعاناة.

ضرورة وجود مشروعات توعوية للشباب عن مرض الإيدز

تبدأ الحكاية، باتصال هاتفي لا تتعدّى مدته دقائق قليلة، يتلقاه شخص ينتظر نتيجة بعض التحاليل الطبية المعتادة بأحد المستشفيات الحكومية، والاتصال يتمّ من خلاله استدعاء المريض بجملة مقتضبة هي “من فضلك ممكن تشرفنا بكرة الصبح”.

ودون ذكر أيّ توضيح يغلق المتصل الهاتف، لتجول في خاطر المريض كل أنواع التوقعات والتخمينات، ثم عند وصوله إلى المستشفى، يتمّ إخباره بنتيجة التحاليل “أنت يا سيدي مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز)”، ثم يأخذ الطبيب في طرح الأسئلة والاستفسار عن الممارسات التي أدّت إلى انتقال الفيروس، وللاطمئنان يتمّ إجراء التحاليل الطبية للزوج أو الزوجة والأولاد، للتأكد هل أن المرض قد انتقل إليهم أم لا، ثم يتمّ تلقين المريض تعليمات التعامل مع الآخرين، وكيفية تلقي العلاج الدوري، وهي معاناة أخرى شديدة الوجع، يلقى فيها المرضى أقسى أنواع الانتهاكات الآدمية.

أسئلة محظورة

أردنا طرح السؤال نفسه عن كيفية انتقال المرض، على الذين استضافونا في جلساتهم، لكن قيل لنا إن هناك سؤالا “محظورا”، إياك أن توجهه إلى أحدهم، ألا وهو “لماذا فعلت ذلك؟”، كذلك إيّاك أن توجّه له اللوم على ممارسة الجنس غير الشرعي، أو على وقوعه في دائرة الإدمان، أو حتى الشذوذ الجنسي.

إذا زل لسانك، فوصمت واحدا منهم أو عيّرته بمرضه، سوف تتلقى إجابة لا تخطر على بالك، إذ أنه سيجيبك متسائلا، “وهل تضمن أنت عدم إصابتك بالإيدز؟” وحينها ستقف أمامه مبهوتا، تفكر طويلا في السؤال، وتندم أشدّ الندم على طرح سؤال يتعلق بالسلوك، فليس من المقبول الحديث عن أمر مضى.

أحدهم قال لنا، ربما على سبيل الاختبار، إنه يريد صبّ كوبين من الشاي لي وله، لنتناولهما سويّا أثناء الحوار، وعندما شكرته للخروج من المأزق، كان ذكاؤه أشدّ من دهائي، فقال “أنت قرفان مني؟”.

لم أجد ما أفعله سوى أن لمست كتفه في ودّ، مؤكدا أنني أتشرف بتناول الشاي بصحبته، ثم بدأ في سرد ما يضيق به صدره، قائلا “ما ذنب زوجتي”، التي وصفها باللفظ المصري الدارج (زي القمر)، تعبيرا عن شدة جمالها، في أن تعيش مع رجل مصاب بالإيدز، وتتحمل معه غلطة ارتكبها بمفرده منساقا خلف أهوائه، ما ذنبها أن ينتقل إليها المرض بحكم العلاقة الحميمة بينهما؟

كانت زوجته من المشاركات في الجلسة، فملأت وجهها ابتسامة الرضى بقضاء الله، رغم تعرضها لأزمة كبيرة تركت على أثرها عش الزوجية، بل والمنطقة السكنية بأكملها، بعد أن علم الجيران بأمرهما، وهي أزمة مجتمعية أخرى، نابعة من الجهل وعدم تبنّي الدولة برامج توعوية للمحيطين بالمريض.

لا للإقصاء

لقد افتضح أمر الزوجين، عندما طلب من الزوج الظهور في أحد البرامج التلفزيونية الشهيرة بمقابل مادي، على أن توضع بعض المؤثرات البصرية والصوتية حتى لا يحدّد المشاهد العادي شخصية المتحدث، ولخطأ ما لم تقم المؤثرات بالدور المطلوب، ما سهل على المقربين منه معرفة الضيف.

كانت المفاجأة، عندما عاد الزوج إلى المنزل ليلا، ويجد السكان قد أحرقوا شقته والمحل الصغير الذي استأجره لبيع السجائر والحلوى والمرطبات للإنفاق على أسرته، وتمّ طرد زوجته وابنتيه، ولم يجد المريض سبيلا للخروج من المأزق، سوى الاستعانة بزميل له في المرض لإنقاذه، فقد اعتاد المصابون جميعا على مثل هذه المواقف. لقد هرولت الزوجة وسارعت بالاتصال بأحد الأصدقاء، فجاء بصحبة زوجته، واصطحبا الأم وابنتيها إلى منزلهما، ولحق بهم الزوج، وظلوا في ضيافة الأصدقاء، حتى استأجر الأب شقة متواضعة في منطقة سكنية أخرى.

عيش وملح

في هذه الجلسة، لم يكن هناك مانع من المشاركة في تناول وجبة “ساندويتشات” سريعة، ورغم كل ما يدور في ذهنك، فليس لك اختيار سوى أن تلتقط الساندويتش، من اليد الممتدة، وحتى لا يصل إليهم شعور بالاشمئزاز منك تجاههم، فلا بدّ من التقاط قضمة بشهية مفتوحة، حتى وإن كان ذلك نوعا من المجاملة، لتنصت بعدها لرواية أخرى أكثر غرابــة،

قد تخجل أنت عند سماعها، لكن صاحبها لم يجد غضاضة إطلاقا في سردها على الحاضرين.

قال صاحب الرواية، إنه يهوى مرافقة فتيات الليل، كما أنه وقع في فخ تعاطي المخدرات، ومن ثمّ لم يكن غريبا أن يحتفظ معه دائما “بالواقي الذكري” في جيب من جيوبه، وفي إحدى “سهرات المزاج” العامرة بكافة أنواع الكيْف، انتقل إليه المرض.

أكد أنه يحاول دائما العودة إلى رشده، والكف عن تلك الممارسات، خاصة وأنه الوحيد القائم على رعاية أمه، التي لا تعرف شيئا عن مرضه، لذا فهو يعيش في هاجس دائم من انتقال المرض إليها، وإذا حدث وتعرض للجرح أثناء حلاقة ذقنه، أو فتح بعض المعلبات، فإنه يهرول مسرعا لإغلاق باب الحمام، وإجراء الإسعافات الأولية، وتطهير الجرح، وتعقيم أيّ مكان تناثرت عليه قطرات الدماء.

شرح في حسرة كيف أنه غير قادر على الكف عن تعاطي المخدرات، وقال “المخدرات وحدها القادرة على أن تنسيني الهموم والأوجاع”.

التوعية والدعم

بخلاف ذلك، هناك شبح دائم يطارد جميع المتعايشين، وهو تعرّض أحدهم لوعكة صحية مفاجئة تستدعي تدخلا جراحيا فوريا، وقتها سيجد المتعايش نفسه في موقف أشبه بالموت البطيء، ويقف حائرا بين مراعاة ضميره بعدم إخفاء إصابته بالفيروس، حفاظا على سلامة الطبيب وأدوات الجراحة، أو التمسك بالعيش والتفكير في نفسه فقط، فلا يخبر أحدا.

وقطعا هناك إجراءات طبية احترازية لمثل هذه الحالات، حتى وإن يتحمّل نفقاتها المريض نفسه، غير أن الجميع يتوقعون رفض الطبيب إجراء الجراحة، أو المغالاة الشديدة في الطلبات المادية.

هناك جانب مضيء في الروايات حول المواقف الإنسانية، ومنها هذه الرواية عن شهامة أحد الأزواج؛ تروي صاحبة القصة (وهي شابة عشرينية)، أنها علمت بإصابتها بالفيروس، بعد إجراء تحليل طبي لمعرفة سبب تأخر الإنجاب، والانعتاق من التأنيب اليومي من جانب أهل الزوج الذين يسكنون معها في نفس البناية، وفور علمها بالأمر صارحت الزوج وطلبت منه الانفصال.

كان الفيروس قد داهمها عن طريق إحدى الأدوات الطبية المخترقة للجلد (الحقن)، لكن موقف الزوج، وهو ليس مصابا، كان أكثر إنسانية، حيث رفض الانفصال، مفضلا استكمال الحياة على هدم البيت، وتفهم ظروف الزوجة، وترك منزل الأسرة ليقطن بيتا آخر، على أمل أن يمنّ الله على الزوجة بالشفاء.

في أحيان كثيرة يعتاد المتعايشون، على استغلال بعض القنوات الفضائية، ليحلّوا ضيوفا على استديوهاتها من أجل بضعة جنيهات قليلة،، كما يلجأ آخرون إلى المؤسسات الأهلية المعنية بعلاجهم ودعمهم النفسي، وتوفير فرص العمل لهم.

روى أحدهم كيف أن الكثير من الأطباء يرفضون علاجهم، أو حتى الاقتراب منهم، حتى أن أحد الأطباء قال له “إن كل مرضى الإيدز يستحقون الحرق”، ومن بين المواقف الغريبة والكثيرة التي سمعناها، ذلك الموقف الذي حدثنا عنه أحد المتعايشين، حين احتاج إلى إجراء عملية جراحية، لكن بمجرّد معرفة الطبيب أنه مصاب بالإيدز، طلب منه مبلغا مضاعفا. واحدة من المرضى ذهبت إلى أحد الأطباء، لمداواة مرض جلدي أصابها أثناء الحمل، فوجّه إليها الطبيب اللوم قائلا “ما كان ينبغي أن تحملي وأنت مصابة بالإيدز؟”. وكذلك فإن المتعايشين مع الفيروس يعانون كثيرا من تعمّد بعض الأطباء فضح أمرهم.

وفي ما يتعلق بوزارة الصحة في مصر، فإن الشكاوى كثيرة، من عدم انتظام تلقي العلاج، والمعاملة السيئة من الممرضات قبل الأطباء، خصوصا من يقطنون في المحافظات البعيدة، وقد يتأخر وصول الأدوية لأيام، فضلا عن عدم وجود متابعة صحية شاملة بعد تلقي العلاج، لمعرفة تأثيره على الفيروس، وإلى أيّ مدى وصلت نسبته، وإذا حدث وتمّ إجراء التحليل الخاص بذلك فإن معرفة النتيجة أمر بالغ الصعوبة، حيث لا يهتمّ أحد بذلك، وأمام كل تلك المعاناة، لا يجد المرضى إلا علاجا واحدا، هو أن يردّدوا دائما عبارة “حسبنا الله ونعم الوكيل”.