دار الإفتاء المصرية..

عشرون كلمة تفضح التنطع وتفتح باب "جهاد شمّ النسيم"

أغلبية المصريين أوفياء للجذور الحضارية

سعد القرش

الأكثر خطورة من فساد أنظمة الحكم والهيئات التعليمية والدينية هو سريان الضلال في المجال العمومي. في الحالة الأولى يحاصر الفساد وينتهي بتغيير الأنظمة ونسف القواعد المؤسسة للهيئات، وفي الحالة الثانية يكون خبزا يقتاته الناس ولهم فيه حياة لا يشعرون فيها بدهشة استئناس الفساد.

وأضرب مثلا بتغيّر يمثله عيد شعبي بقدوم فصل الربيع، هو “شمّ النسيم”، الذي يوافق يوم اثنين، وتسبقه طقوس شهدتُ منها في طفولتي “سبت النور” التالي لجمعة الآلام والسابق على أحد السعف. في ذلك الوقت كان طلبة الجامعات في قريتنا قلائل، قبل مدّ التديّن الاستعراضي لطمس فطرة من مظاهرها تأهّب العجائز في الشوارع وعلى نواصي الحارات في سبت النور، وبأيديهن أدوات الكحل، وتأتيهن مساعدات أصغر سنا بكل بنت عابرة لتكحيل عينيها، فيصبح “سبت النور” نورا منذورا للفرح، مختلفا عن سابقه، ويمهد لأنواع من الأطعمة تشمل البيض الملون يوم الاثنين الذي اكتشفنا مع الطغيان السلفي والإخواني أنه ليس احتفالا شعبيا مصريا قديما بالربيع، ولكنه عيد للنصارى “الضالين، ومن تشبّه بقوم فهو منهم”.

وافق الاثنين 29 أبريل 2019 الاحتفال بعيد “شمّ النسيم”، وأغلبية المصريين أوفياء للجذور الحضارية، والميل إلى الترويح عن النفس. وقبل بضعة أيام، في 24 أبريل 2019، نشرت دار الإفتاء المصرية في صفحتها الفيسبوكية 20 كلمة بلا داع، تبيح فيها الفرح بشم النسيم، في مجاراة للاستجابة للرد على أسئلة سخيفة بفتاوى يفترض أن تنأى عن الخوض في الإجابة عما إذا كان دم البرغوث ينقض الوضوء. استقبال فتوى من دون سائل حيران، كشف جانبا من الضلال والتشويش والفساد العمومي.

غاية الفتاوى شفاء القلوب من قلق يساور مسلما ينشد الكمال، ومن شأن أي كمال أن يترفّع عن زلل عفوي أو مقصود لإحراج المفتي بالبحث عما لا ينفع الناس، وما يمكن اعتباره تنطعا من السائل. وفي العادات الاجتماعية لا يبالي العقلاء بما يقال هنا أو هناك، فيتوارثون البهجة في مناسبات وطنية لا تخص أتباع دين، حتى لو ارتبطت المناسبة بذكرى دينية، مثل أعياد “شم النسيم” المصرية القديمة التي ارتبطت بأعياد القيامة، ويحتفل بها الشعب المصري، بأجياله وطبقاته وأفلامه وإعلامه.

ومن السخف أن يسأل أحد عن شرعية الانخراط في فرح بريء، وليس من الفطنة الرد على مثل هذا السؤال إذا تحامق أحدهم وسأله، ولكن دار الإفتاء سارعت واستبقت هذه الاحتفالات بما يشبه البيان، وكتبت في صفحتها 20 كلمة فضحت النفاق الديني، وأبرزت حصاد نحو خمسين عاما من إرساء قواعد التنطع، وامتهان الإفتاء في قضايا أكثر تفاهة من خطورة دم البرغوث على نقض الوضوء.

نص البيان/الفتوى “شم النسيم عادة مصرية ومناسبة اجتماعية ليس فيها شيء من الطقوس المخالفة للشرع، ولا ترتبط بأي معتقد ينافي الثوابت الإسلامية”. وبعد فتوى “شم النسيم” انطلقت حراب وسهام محمولة على الآلاف من التعليقات والمشاركات الفيسبوكية، وبعضها شتائم طالت دار الإفتاء،

وتتنافى مع سماحة القرآن الذي لم يأمر حتى بسباب الخائضين في آيات الله؛ اكتفاء بالإعراض عنهم.

وما جرى هو اجتراء من جاهلين قال فيهم ابن سينا “بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم”. قال أحدهم إن “ما يسمى بشم النسيم مناسبة لا تخص المسلمين، ولكنه مرتبط بأعياد النصارى، ناهيك عمّا يحدث في هذا اليوم من المخالفات من الاختلاط وغيره وهذا لا يجوز شرعا”. ولا يدري المحتفلون بعيد الربيع، في المنتزهات والحدائق العامة، طبيعة المخالفة للدين.

وكتب آخر أنه “احتفال مبتدع عند المصريين تقليدا للفراعنة الوثنيين، ويجب عدم تبادل التهاني بعيد شم النسيم؛ لأنه عيد للفراعنة ولمن تبعهم من اليهود والنصارى، وإذا هنّئ المسلم به فلا يردّ التهنئة”. وكتب أحدهم أيضا “لما تكون دار الإفتاء بهذه المياعة والانحطاط يبقى حسبنا الله ونعم الوكيل”. واجترأ آخر فغيّر اسم الدار إلى “دار الإفساء”، “والله أنتم عار على الإفتاء…. والله ولا إفتاء الكنيسة”.

وسخر أحدهم بغلظة “تحسّ أن دار الإفتاء اللي ماسكها شنودة أو تواضروس″. واتخذ جاهل دور القاضي الإله فكتب “آخرتكم مع أبولهب”. وعلق أحدهم بسماجة “لما أمك تعمل لك دار الإفتاء في البيت”، في إشارة إلى ما يتم صنعه في البيوت بمهارات متواضعة تفتقر إلى الإتقان.

الفتوى الجديدة الخاصة بشمّ النسيم استدعت من مواطنين، أقل حماقة وأكثر تعقلا، اختلاق فتوى لدار الإفتاء نسبوها إلى عهد الشيخ جاد الحق علي جاد الحق بحرمة هذا الاحتفال. الفتوى المختلقة شاعت في الفضاء الفيسبوكي باعتبارها واردة في كتاب “فتاوى دار الإفتاء المصرية”، بتقديم الشيخ جاد الحق الذي صار شيخا للأزهر وبقلم الشيخ عطية صقر الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر، وفيها أن شمّ النسيم يرتبط “بعقائد الكفار وشعائرهم، فأول من احتفل بشم النسيم هم الفراعنة عام 2700 قبل الميلاد على حسب عقيدتهم الوثنية من أن إلههم رع خلق الخلق في هذا اليوم..

 وكان شم النسيم عيدا فرعونيا، ثم صار عيدا دينيا عند اليهود والنصارى.. وعلى هذا فإن الاحتفال بشم النسيم حرام، بل تزداد الحرمة لكونه مرتبطا بعقائد لا يقرّها الدين.. إن المجاملة على حساب الدين والعقيدة والخلق ممنوعة ولا يقرها الدين”. واضطرت دار الإفتاء إلى إصدار بيان مساء الاثنين 29 أبريل 2019 ينفي وجود هذه الفتوى “على الإطلاق في فتاوى دار الإفتاء المصرية منذ إنشائها إلى الآن”. تعليقات خشنة تنشد التحريم، وتستهل الشتائم والتطاول على هيئة فقدت هيبتها.

ولكن هذه الظاهرة أعمق من مجرد تعليقات، وتستدعي من علماء الاجتماع والتحليل النفسي بحثا عما جرى للمصريين، وكيف صار التدين الشكلي قرين التجهم والفجاجة، مزيجا من السادية والمازوخية، ومصدرا للقتامة والرغبة في الأذى. ما أتعس مجتمعا يكره الحياة.