الاهتمام بتاريخ للدولة الإسلامية في السودان..

"أزمة الإسلام السياسي" يعري فشل المسجد في إدارة الدولة

عقود من الأزمة

سعد القرش

في كتاب “أزمة الإسلام السياسي.. الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا”، الذي نشره مركز الدراسات السودانية في القاهرة عام 1991، يتوقف مؤلفه حيدر إبراهيم أمام تجربة بلاده مع “حكم الإسلامويين”، قائلا إنها “كان يمكن أن تتكرر في تونس والجزائر لولا أن لطف الله أنقذهم حقيقة من حكومات إنقاذ كانت يمكن أن تجعل من الأوطان سجونا كبيرة بعد أن تهدم السجون الصغيرة”.

هكذا كان السودان على الرغم من الطبيعة المسالمة لشعبه، في ظل حكم عسكري ديني، إذ استغلت الجبهة الإسلامية القومية التسامح الشعبي السوداني في الوصول إلى السلطة، والاستمرار في الحكم، تجسيدا لطموح وحلم خايل الإسلامويين، بأن يكون السودان “حقلا لتجاربهم السياسية ذات المسرح الديني”.

ويستشهد على ذلك بزعيم الحركة الإسلامية حسن الترابي في كتابه “تجديد الفكر الإسلامي” إذ يقول “ومن حسن حظنا في السودان أننا في بلد ضعيف التاريخ والثقافة الإسلامية الموروثة. وقد تبدو تلك لأول وهلة نقمة، ولعلها ببعض الوجوه نعمة؛ إذ لا تقوم مقاومة شرسة لتقدم الإسلام المتجدد”، بمعنى أن الجبهة في المرحلة التمهيدية السابقة على التمكين، لن تجد مناهضة لتأويلاتها التي كانت ستواجه بمعارضة تمثلها اجتهادات دينية مستنيرة.

النموذج والتجربة

النموذج الديني الذي يعد به الإسلام السياسي، يتهشم ويتشوه حين تختبره التجربة، ولا عيب في ذلك، فالتاريخ يحفل بتصورات نظرية لم تصمد في اختبار التطبيق العملي، حين نزلت من مثالياتها إلى تعقيدات الحياة ودروبها غير المستقيمة، غير المواتية. ولكن الأزمة في حالة الإسلام السياسي، كما يقول الكتاب، أن للتجريب عند الإسلامويين خطورة “تكمن في إيمانهم بأنهم يقومون بمهمة إلهية مقدسة، لذلك ينجم عن أي خلاف الجهاد والقتل والتعذيب والملاحقة دون تأنيب ضمير بل العكس بشبق إيماني ونشوة انتصار الحق على الباطل”.

في الفصل التمهيدي للكتاب عودة إلى ما ترتب على إلغاء الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك، في مارس 1924، وكان أول رد فعل مصريا، بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، “بسبب وضعية مصر المتميزة إسلاميا”، بحكم وجود الأزهر. ويورد المؤلف تحولا آخر غير مشهور، وأقرؤه للمرة الأولى في هذا الكتاب الذي يسجل أنه في أكتوبر 1929 “ظهر لأول مرة” وفي مصر شعار “الإسلام دين ودولة”، وصاحبه هو الفقيه الدستوري عبدالرزاق السنهوري، في مطلع بحث نشرته مجلة “المحاماة الشرعية”.

وبهذه الإشارة إلى جذور الشعار وحمولاته الأيديولوجية، لا يكون أبوالأعلى المودودي (1903 – 1979) هو العراب لجماعات الإسلام السياسي ودعاة الحاكمية، وإن ظل معلما في الطريق لبضاعة رُدّت إلينا، بقوله إن “الأرض كلها لله، وهو ربها المتصرف في شؤونها، فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب بل ولا للنوع البشري كافة شيء من سلطة الأمر والتشريع”.

وسوف تصبح أفكار المودودي مصدر إلهام لسيد قطب صاحب أشهر تمثيل راديكالي للتغيير العنفي، للخلاص مما قال إنه الجاهلية المعاصرة؛ بدعوى أننا “نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم. عاداتهم وتقاليدهم. موارد ثقافتهم. فنونهم وآدابهم. شرائعهم وقوانينهم”، وهو ما رآه عدوانا على سلطان الله.

وليست تلك التأويلات المتطرفة للدين إلا امتدادا لموقف الخوارج من قضية التحكيم، وترديدهم “لا حكم إلا لله”، وبذلك الشعار الغامض الفضفاض بدأ التكفير الديني، واستحلال الاغتيال باسم الله. وكانت لأفكار الخوارج ثمار دامية. وليس أسهل على جماعات الجهاد والتكفير من رفع شعارات الحاكمية، واتهام المجتمع بالجاهلية، وإعلان الحرب عليه.

وتدّعي حركات الإسلام السياسي أنها تمتلك نظرية شمولية، وتصورا متكاملا للحياة لا يكون فيه الدين مجرد عبادات وشعائر. ويرى المؤلف في هذا التسييس المتزايد للدين خطرا عليه، وإضعافا له، بحصره “في معارك سياسية ضيقة والاختصام مع الكثيرين بسبب الخلافات السياسية التي تتنامى مع كل حدث يومي”، وفي هذا اللغط لا تصمد في وجه المدّ الإسلاموي محاولات التجديد الفردية المستمرة بصلابة منذ عقود. ففي عام 1925 نفى الشيخ علي عبدالرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” أن يكون الإسلام قد نص على نظام محدد للحكم، مؤكدا أنه ترك هذه القضية للاجتهاد البشري.

وتوالت اجتهادات ترى ضرورة فصل الدين عن السياسية. ولكن المؤلف يكتب ملاحظة مهمة تتلخص في أن السجال بين دعاة الحكم الديني والرافضين له يرتكز على أساس ديني واحد، فالرافضون “يحتجون من داخل موقف أو رؤية دينية بقولهم إن الإسلام لم ينص على ذلك. هذا لا يعني رفضهم للدولة الدينية حصرا ولكن يعني أنهم لم يجدوا لها سندا في الكتاب والسنة”.

وعلى الرغم من هذا نجحت جماعات الإسلام السياسي في وصف الرافضين للحكم الديني بأنهم علمانيون، وهي “تسمية ناقصة يقصد بها الجانب الهجائي الذي يمهد للهجوم الذي يقذف تهم الكفر والمروق والزندقة… النقاش حول ورود الفكرة في النصوص الدينية غير مجد، لأن الشاهد ليس منطقية القضية وتماسكها وعقلانيتها ولكن كيف تتحول الفكرة إلى قوة وحركة لدى الجماهير”.

وعلى الرغم من عدم وجود تيار علماني مؤثر في العالم العربي، فقد نجحت الحركات الإسلامية في أن تجعل منه عدوا، ويحلو لها أن تهاجم “خطرا علمانيا وهميا”. ويخلص المؤلف إلى أن الحركات المتعصبة تحتاج دائما إلى كبش فداء وتختلق عدوا، “مثلما فعلت النازية مع اليهود والشيوعيين. والعنصرية البيضاء مع الزنوج والملونين”.

صدر كتاب “أزمة الإسلام السياسي” عام 1991 في القاهرة، عن مركز الدراسات السودانية الذي تأسس بهدف الاهتمام بالكتابات السودانية أو الخاصة بالسودان، في سعيها إلى بناء “سودان ديمقراطي متعدد وعلماني بالمعنى الإيجابي الذي يحفظ للدين قدسيته بعيدا عن الصراع السياسي”، كما جاء في تصدير المؤلف الذي ربط “الصحوة الدينية” بهزيمة يونيو 1967، ذلك الزلزال الذي كان انتكاسة للتوجهات العلمانية والقومية العروبية، وسببا في سعي آخرين لتأسيس مشروع بديل ينطلق من شعارات أبرزها “الإسلام هو الحل”، وهو راية اعتمدتها حركات الإسلام السياسي، بالتزامن مع تراجع الاستقلال السياسي والاقتصادي وغياب الديمقراطية في العالم العربي، فعمدت تيارات الإسلام السياسي إلى تقديم نموذج “مثالي تحقق في العصر الذهبي للإسلام… كان لفورة الثروة النفطية في السبعينات ونجاح الثورة الإيرانية أثر واضح في تقوية الجماعات الدينية” الناهضة في فراغ سياسي لطمأنة الجماهير اليائسة بالبديل المقدس.

إسلام صوفي أصيل

في فصل عنوانه “تاريخ الإسلام السياسي في السودان” يتحدث المؤلف عن إسلام سوداني تاريخي، صوفي في جوهره، فالمسلمون الأوائل أسسوا “مبدأ التصالح مع الواقع أي مع المعتقدات التقليدية والشعبية السائدة آنذاك، وهذا يفسر غلبة الطابع الصوفي الشعبي غير الفلسفي على الإسلام السوداني”، وهي صوفية تخلو من ثنائية الشيخ والمريد، وهي ذات طابع طقوسي وجداني. واتسم الإسلام السياسي بـ”مرونة الفهم السوداني للدين مما قلل من أصوليته وسلفيته ونبذ العنف إلا حين تيقن من استفراده بالسلطة وكشف عن حقيقته بعد انقلاب يونيو 1989”. وفي تعبيرها عن الإسلام السياسي حاولت الجبهة الإسلامية القومية صوغ أيديولوجيا للإسلام في السودان، “بعملية حذف وتحوير وإعادة تأويل لكثير من الحقائق التاريخية لكي تصل لغرضها فهي تكتب التاريخ حسب رؤية مسبقة تؤمن بها وتتمنى أن تكون بديلا عن الواقع”، فتدعي أن ممارساتها منذ انقلاب عمر البشير عام 1989 تطبيق للشرع، وامتداد لتاريخ “الدولة الإسلامية السودانية” التي رأت في تحالفها معها إحياء لها، بزعم أنها تجربة أصيلة اعترضتها انقطاعات استعمارية وعلمانية.

دم الغول

ويوضح المؤلف السياق التاريخي لمصطلح “الإسلامية” اللاحق بدويلات أو سلطنات في السودان بأنه لا يعني أنها طبقت الشريعة في الحكم، وإنما كانت صفة “الإسلامية” تشير إلى العقيدة بالمفهوم العمومي، وتعني أنها غير مسيحية أو وثنية، وخلال الحكم الثنائي للسودان (1899 ـ 1956) كان السودان “دولة إسلامية” بمعنى أن مواطنيه لم يتحولوا إلى المسيحية، فلم يكن الحاكم خليفة أو يحمل صفة أمير المؤمنين. ولم تحاول الأحزاب والتيارات الصوفية، حين حكمت، تغيير المجتمع السوداني، “أو فرض الشريعة مع تدينها الشديد. والسبب ببساطة ارتباطها بالواقع المحلي الحي ولا تعتمد مثلا على استيراد أفكار المودودي أو البنا أو الخميني”.

كما يوضح أيضا أنه قبل انتشار شعار “الإسلام دين ودولة”، كان اسم الدولة الإسلامية يطلق “على أي قطر ذي أغلبية مسلمة وحاكمها مسلم حتى لو لم يطبق الشريعة الإسلامية حرفيا أو كما ينادى بها الآن”.

وفي ضوء هذه الحقائق يثبت أن الاهتمام بتاريخ للدولة الإسلامية في السودان لم يظهر إلا مع التمهيد لإعلان قوانين سبتمبر 1983، “والتي اعتبرها الإسلامويون بداية دولة إسلامية سودانية جديدة أمير المؤمنين فيها المشير النميري والذي عقد له الإسلامويون البيعة”.

في السودان أسطورة عن غول كلما تم قتله طارت نقطة من دمه ونما منها غول جديد. ويطلق على الإخوان المسلمين في السودان “دم الغول”، وحين ثار الشعب السوداني عام 1985 أسقط النميري والترابي، وتشكل مجلس انتقالي برئاسة عبدالرحمن سوار الذهب، وهو “من جيل الرواد من الإخوان في الجيش ورئيس مجلس وزراء من نقابة الأطباء التي حاول الإسلامويون إفشال إضرابها ضد نظام النميري”، وهكذا أصبح المعارضون للإضراب قادة في الانتفاضة ضد النميري الذي كان موضع رضا الحركة، وقد اصطحب معه الترابي في رحلته إلى أميركا في نوفمبر 1983، وكانت صحبة دالة على “أنه ليس من الوارد تقديم أي تنازلات في موضوع الشريعة”، فتجنبت الإدارة الأميركية فتح هذا الملف.

ظل لحركات الإسلام السياسي في السودان طابع خاص يميزها عن مثيلاتها في العالم العربي، بسبب “سودانية الحركة وليس لقوة أو تجدد إسلامها. فقد استفاد الإسلامويون من ديمقراطية السودان الفطرية”، التي تركت آثارها في العمل السياسي، حتى صعود البشير في انقلاب يونيو 1989، وأثبت الانقلاب “شذوذ الإسلامويين سواء في طريقة الاستيلاء على السلطة أو في الممارسات التي انتهجتها الحركة في تثبيت سلطتها، مثال ذلك إدخال التعذيب وبيوت الأشباح والفصل التعسفي الجماعي والإعدامات السريعة والاغتيالات في السجون”. وعلى الرغم من ذلك السلوك العنيف للسلطة في تحالفها مع الحركة الإسلاموية، فإن حيدر إبراهيم سجل في ذلك الوقت أن تلك الحركة “أقل حجما بكثير مما تبدو في ظاهرها، وأكثر سطحية وفقرا في فكرها مما تدعي”، بالنظر إلى الهزال الكمي والكيفي لإنتاجها الثقافي والفكري.

في مرحلة صعود الحركة الوطنية في السودان وما بعد التحرر من الاستعمار، لم تحقق الحركة الإسلاموية انتشارا جماهيريا، “ولم تتجرأ حركة الإخوان المسلمين في السودان” على مواجهة الحضور القوي للأحزاب الدينية الأقرب إلى الإسلام الشعبي. ولا ينكر المؤلف أن “تاريخ الحركة الإسلاموية حتى اليوم يعتبر نجاحا سياسيا بالمنظور البراغماتي أو الذرائعي النفعي… هي اليوم (1991) في السلطة ولكن أين تكون غدا؟”. سؤال مطروح منذ نحو ثلاثين عاما، وستجيب عنه التفاعلات السياسية، بين القوى المدنية والمجلس العسكري الحاكم منذ خلع البشير.

وتبقى معضلة الديمقراطية ومقتلها والرهان عليها، وبها أختم المقال بقول المؤلف “رغم موقف الإسلامويين غير المبدئي وغير المقتنع بالديمقراطية إلا أنهم باستمرار يكونون أكثر المستفيدين من الديمقراطية… فالديمقراطية في نظرهم لا تُحترم في حد ذاتها كوسيلة وأسلوب للحكم بل تُقيّم حسب تقاربها لنظرتهم للإسلام والتي تعتبر نفسها الإسلام الصحيح، وإذا لم تحقق الديمقراطية هذا الهدف فهي مجرد عبث أو حتى مؤامرة أو مكايدة غربية أو علمانية”.