ثلاثة أسابيع في نيويورك وواشنطن وديربورن..

المغامرة الأميركية بين هجرة البشر... والكلمات

أرشيفية

وكالات

سيكون من المكابرة بمكان أن أدّعي، أنا الذي زرت بلداناً ومدناً كثيرة، أنني لم أشعر بالغبطة البالغة وأنا أتلقى الدعوة لزيارة الولايات المتحدة وإحياء أمسية شعرية في نيويورك، وفي المقر الإداري للجامعة الأميركية في بيروت على وجه التحديد. لم يدر في خلدي إذ ذاك أي شيء يتصل بالدور السلبي الذي لعبته، وما زالت تلعبه، الدولة الأقوى في العالم في تقرير مصائر الشعوب والاستحواذ على مقدراتها وثرواتها الطبيعية. ولم تكن الغبطة تلك لتقع في خانة التغاضي عن السياسات الظالمة والهوجاء لمن تسببوا، وهم يتربعون على سدة الإدارات المتعاقبة، في إجهاض الكثير من الثورات، وإخماد الكثير من الوعود، ووأد الكثير من الأحلام وهي لا تزال طفلة في المهد. ولم أكن لأنسى بالقطع أن أميركا، وفق ما يقوله تزفيتان تودوروف، قامت على خطيئتين أصليتين، تتمثل الأولى في كون الدعم الذي تلقاه كريستوفر كولومبوس من ملكي إسبانيا المنتشيين بسقوط الأندلس، كان هدفه الحصول على المعدن الأصفر الذي يمكّنهما لاحقاً من استئناف الحروب الصليبية المجهضة واسترجاع بيت المقدس، وتتمثل الثانية في التسبب بمذابح الهنود الحمر وبناء الهيكل الرمزي لروما الجديدة على أنقاض أهل البلاد وسكانها الأصليين. لم يكن كل ذلك غائباً بالطبع عن ذهني ووعيي المعرفي، لكن ما كان حاضراً بموازاة ذلك هو البعد الآخر للحلم الأميركي الأعمق الذي لا تعكسه الرطانة السمجة لخطب الرؤساء والطامحين للرئاسة، بل قولة المفكر والشاعر المكسيكي أوكتافيو باث بأن «كل مفكر خلاق هو بمثابة كولومبوس جديد يبحث على طريقته عن (أميركاه) الشخصية وعن أرضٍ جديدة لأحلامه». وما كنت أبحث عنه في تلك الزيارة هو الوجه الأكثر نصاعة لأميركا البراءة والعدالة والمغامرة الإنسانية التي رسمها شاعرها الأعظم والت ويتمان في ديوانه «أوراق العشب»، حيث نقرأ له نصوصاً من مثل: «أغني الأنثى بالتساوي مع الذكر \ أغني الحياة الهائلة في الشغف والنبض والعنفوان \ البهيجة من أجل أقصى فعل متحرر تشكَّل في ظل القوانين السماوية \ أعني الإنسان الحديث».

في الطريق الطويلة والشاقة إلى نيويورك كانت تنتابني مشاعر متناقضة تتراوح بين الفضول ومتعة التعرف إلى المدينة الكوزموبولوتية التي تجسد الحداثة في أكثر تجلياتها المعرفية والتقنية من جهة، وبين المدينة التي لم ير فيها معظم الشعراء سوى أبراج صماء وسوق عملاقة للجشع وتنافس البورصات المالية على سحق الإنسان وتفريغ الحياة من مخزونها الروحي، من جهة أخرى. فغارسيا لوركا الذي خاطب والت ويتمان في ديوانه «شاعر في نيويورك» بقوله: «لم أكفّ للحظة واحدة يا والت ويتمان العجوز والجميل \ عن التملي برؤية لحيتك المغمورة بالفراشات \ وكتفيك المخمليين المصقولين بضوء القمر»، يعبر عن مشاعره السلبية إزاء مدينة الأبراج الشاهقة والأضواء التي تعشي العيون بالقول: «إنها رهبة البرودة والقسوة، مشاهد الانتحار ومصابي الهستيريا وحالات الإغماء. شعور مروع ولكن دون عظمة». ولم تكن مشاعر أدونيس العربي، حين زار المدينة بعد عقود، لتختلف كثيراً عن مشاعر سلفه الإسباني، وهو الذي بدت قصيدته الشهيرة «قبر من أجل نيويورك» بمثابة استشعار حدسي بما أصاب المدينة في الحادي عشر من أيلول سبتمبر من العام 2001 حيث يقول: «نيويورك - هارلم، مَن الآتي في مقصلة حرير؟ من الذاهب في مقصلة بطول الهدسون؟ انفجرْ يا طقس الدمع، تلاحمي يا أشياء التعب، هل جاءك طائر الموت وسمعت آخر الحشرجة؟ حبْلٌ والعنق يجدل الكآبة، وفي الدم سويداء الساعة». وحتى الشاعر الأميركي ألن غينسبيرغ الذي أطلق قصيدته «عواء» ضد التصحر الروحي الأميركي، لا يتردد في رمي المدينة بشظايا نقده الجارح، متحدثاً عن «الهبائيين برؤوس ملائكة الذين يتحرقون للوصال السماوي العتيق بالدينمو النجومي لمكننة الليل \ والذين بفقرٍ وفي خِرَق وبعيون مجوفة جلسوا يدخنون في الظلام العجائبي لشقق بلا ماء حار \ ومن قُبض عليهم في لحاهم العانيّة عائدين إلى نيويورك بحزام من الماريغوانا».

قد لا يستطيع عابر مثلي، يزور نيويورك للمرة الأولى ولأيام معدودة فقط، أن يصدر حكماً حاسماً وعادلاً على واحدة من أكثر المدن غرابة واكتظاظاً وإرهاصاً بمآلات الحداثة ومصائر الكوكب الأرضي. صحيح أنني زرت على عجل معالم المدينة الأبرز، متنقلاً بين شارع برودواي والتايمز سكوير، وبين مبنيي الأمم المتحدة والأمباير ستيت، وبين جسري بروكلين وجورج واشنطن، وبين فندق الفير فارم الهادئ في نيو جيرسي وتمثال الحرية، وغير ذلك من المعالم، لكن الصحيح أيضاً أن التعرف إلى أحشاء المدينة وسريرتها العميقة وإيقاعها الباطني يحتاج إلى أشهر أو سنوات عدة. ومع أنني وقفت ذاهلاً إزاء ذلك الخلل الواضح في علاقة الجسد الإنساني الضئيل بفضائه المكاني الهائل الذي يعكسه أفراط الأبراج في الارتفاع وضخامة المباني المتخاصرة.

ومع ذلك فلم تبد لي المدينة بالقسوة التي تخيلتها أو قرأت عنها. ربما لأنني كنت أتوقع مسبقا مشاهدة ما شاهدته، وربما لأن الزمن قد تغير ولم يعد ذلك الاصطدام القاسي بين القادمين من الأرياف وبين المدن المعولمة يخلف وراءه ذلك النوع السلبي من ردود الفعل الرومانسية التي وسمت الأدب قبل عقود من الزمن. أما الأمسية الشعرية التي أقمتها هناك تحت عنوان «هجرة الكلمات»، فقد جاءت تلبية لدعوة مشتركة من الرابطة القلمية الجديدة التي أسسها الشاعر اللبناني المقيم في نيويورك يوسف عبد الصمد، والجامعة الأميركية في بيروت ممثلة بمسؤولة إعلامها لينا بيضون، والقنصل اللبناني العام في المدينة مجدي رمضان، فقد عكس الحضور الكثيف الذي ملأ قاعة اجتماعات الجامعة تعطش المهاجرين اللبنانيين والعرب إلى هذا النوع من الأنشطة الثقافية التي تكسر رتابة الحياة اليومية وتخفف من وطأة السباق المرهق لتحقيق الاكتفاء المادي والمكانة الاجتماعية المرموقة. وحيث تبدلت صروف الزمن ومآلاته عما كانت في مطالع القرن الفائت، حيث أخلى مهاجرو مطالع القرن الفائت من العمال وباعة «الكشة» أماكنهم وأدوارهم للأجيال اللاحقة من المثقفين وذوي الاختصاصات العلمية العالية، فقد بدا الحضور النيويوركي المستند إلى خلفية معرفية عميقة، والذي ضم نخبة من المثقفين والإعلاميين والسياسيين والشعراء اللبنانيين والعرب، قادراً على التفاعل مع القصائد الملقاة بما يتلاءم مع طبيعة النصوص والصور والمناخات التعبيرية، بعيداً عن التطريب السمعي والصخب الاحتفالي.

كان من المفترض أن تكون نيويورك هي المحطة الوحيدة في زيارتي الأولى إلى الولايات المتحدة، غير أن الأمور جرت على غير ما كان مخططاً لها. فقد حدث خلال وجودي هناك أن تلقيت «عرضاً» يصعب رفضه من الصديق عمر خالدية الذي اقترح استضافتي في منزله في فيرجينيا وإقامة أمسية هناك بدعوة من «مجلس الفكر العربي» الذي أسسه قبل سنوات الكاتب الفلسطيني محمد ربيع. وما شجعني على قبول الدعوة هو عرض آخر سخي من قريب لي بأن يقلني ذهاباً وإياباً في سيارته الخاصة، وهو ما أتاح لي أن «أتصفح» بالعين المجردة تلك المنبسطات الأرضية المترعة بالألوان التي سبق لعاشق السفر جاك كيرواك أن وصفها بالتفصيل في كتابه «على الطريق»، وهو يقطع أميركا من الوريد إلى الوريد. ورغم قصر المدة الزمنية المتاحة لي هناك فقد بدت العاصمة الفيدرالية واشنطن بامتدادها الأفقي وحدائقها الوارفة ومبانيها التراثية الباذخة ذات الطراز الباروكي، مختلفة تماماً عن نيويورك ذات التصميم العمودي والاكتظاظ المفرط في البشر والمباني. أما الأمسية الشعرية التي تم التحضير لها على عجل فقد حوّلها الحضور النوعي إلى لقاء دافئ وحميم على مائدة اللغة الأم. وفيما كان جيل الشبان المولودين في أميركا، والذين يجهلون العربية، غائباً بشكل شبه تام عن المناسبة، كان معظم الحضور من المخضرمين وذوي الأعمار المتقدمة نسبياً، والذين وفر لهم الشعر سبيل الانفصال عن حاضرهم، واستعادة ذلك الشطر القديم من أعمارهم الذي قضوه في ربوع أوطانهم الأصلية. وهو ما انعكس أيضا في السهرتين الحميميتين اللتين توزعتا تباعاً بين المساررة الوجدانية والنقاشات الفكرية والسياسية التي تتناول شؤون العرب الراهنة في الأوطان والمهاجر.

ولم يدر في خلدي، وأنا أعود إلى نيويورك متهيئاً لرحلة الإياب إلى بيروت، أنني سأتلقى دعوة جديدة من الصديق عون جابر الذي تمنى علي أن أستهل بأمسية شعرية أنشطة المؤسسة الثقافية، التي أنشأها في ديربورن، تحت اسم «الندوة للفكر الحر». ولم تكن الأمسية بحد ذاتها هي ما دفعني إلى تلبية الدعوة، بل الرغبة في التواصل مع أصدقاء وأقرباء ورفاق مخذولي الأحلام قرروا إبان الحروب الطويلة والعقيمة أن يضعوا ما تبقى من رهاناتهم في عهدة المدينة الأميركية المكتظة بالمهاجرين العرب واللبنانيين، وخصوصا الجنوبيين الذين يشكلون القسم الأكبر من سكانها والذين عكَس الكاتب اللبناني أحمد بيضون أحوالهم وتفاصيل عيشهم في كتابه المميز «بنت جبيل - ميشيغان».

والحقيقة أن ديربورن، الشبيهة بقرية واسعة والتي تنتشر على جنبات شوارعها اللافتات التي تحمل بالعربية أسماء أصحابها وأنواع معروضاتها، تمنح زوارها شعوراً بالألفة والحنو، وتجعل اللبنانيين منهم يشعرون كما لو أنها واحدة من قراهم الجنوبية الوادعة. أما الأمسية الشعرية التي أقيمت في «المتحف العربي الأميركي» فقد كانت مفاجأة المدينة الحقيقية بالنسبة لشخص مثلي لم تسبق له زيارتها من قبل. ليس فقط بسبب الحشد الغفير الذي غصت به القاعة بل بسبب ذلك الفيض من الحب والتواصل الإنساني والتفاعل الوجداني مع القصائد الملقاة في الآن ذاته. وقد انعكس ذلك أيضاً في التقديم اللافت للشاعرة زينب عساف، وفي الكلمات الترحيبية المؤثرة لكل من صاحب الدعوة عون جابر، والقنصل سوزان ياسين، والسفير السابق علي عجمي. وإلى زيارة المتحف العربي الذي تكفل رئيسه حسن جابر باطلاعي على ما فيه من صور المهاجرين الأوائل ومقتنياتهم، وزيارة شركة فورد ومتحفها الصناعي الفريد، كانت اللقاءات المتكررة مع الأصدقاء الجدد والقدامى، وسهرات الألفة والحوارات المحببة التي تمتد حتى الصباح في بعض الأحيان، تطبع الرحلة إلى أميركا بطابعها الأليف والتلقائي والبعيد عن التكلف. حتى إذا حانت لحظة المغادرة بعد سبعة عشر يوماً من الصخب والشعر ومتعة المغامرة والتواصل الإنساني والمعرفي، كان على القلب أن يقسم نفسه بالتساوي بين التطلع إلى نبضه الأوّلي، وبين الالتفات إلى الوراء حيث يخلّف وراءه ذكريات لا تمّحي وأصدقاء لا سبيل إلى نسيانهم.