فتح آفاق الثقافة الشعبية الساخرة والهزلية..

الكرنفال هو الحد الفاصل بين الحياة والفن

الثقافة الشعبية لها أثرها الإبداعي

أزراج عمر

تتميز الثقافات الشعبية في أي مجتمع بكنوز كثيرة وبسبب ذلك يعتبرها الدارسون بمثابة حياة الناس في أبهى وأدق وأعمق صورها، وفي هذا السياق نجد أيضا نصوصا أدبية ساخرة وفكاهية وهجائية متنوعة، كما أن هناك نصوصا فكرية تحاول ربط الحياة اللاواعية للبشرية بالضحك، كما عند الفيلسوف برغسون، أو بالنكتة، كما عند سغموند فرويد.

في هذا الإطار يمكن أيضا تمييز نمط آخر من الثقافة الشعبية التي يعكسها الكرنفال والاحتفالات الطقسية، وفي هذا السياق يلاحظ أن الفضل في تحويل الكرنفال من مجرد كلمة قاموسية بحتة ومن عنوان يختزل الطقوس الشعبية في القرون الوسطى بأوروبا إلى مصطلح أدبي متعدد الدلالات والمهام في تشكيل معمار النص الروائي، فضلا عن توسيع ثقافة الأخلاقيات الديمقراطية، يعود إلى الناقد والمفكر الروسي الشهير ميخائيل باختين.

شرع باختين في إبراز أهمية الكرنفال في كثير من مؤلفاته منها كتابه “شعريات دوستويفسكي”، ومن ثم عمّقه في كتابه الفريد من نوعه والموسوم بـ“رابليه وعالمه” حيث حلل فيه عوالم الكاتب الروائي الفرنسي رابليه المصنف في النقد الفرنسي والغربي معا كأديب بارز في مشهد الأدب الروائي الفرنسي، حيث اشتهر في القرن السادس عشر جراء ابتكارات وخرقه للثقافة الإقطاعية ومعارضته “للنغمة الرسمية والمتزمتة للكنيسة في العصور الوسطى”، وكذا بسبب خلخلته لسلطتها وتكريسه لبديل لها يتلخص في الثقافة الشعبية النقدية والساخرة التي لعبت دورا مهما في خلق الفضاء الثقافي الحر.

ماهية ثقافة الكرنفال في نظر باختين قد مثلت لحظة متعددة الأصوات، ومضادة للحياة المفروضة بواسطة جبروت الكنيسة أو الهيمنة الإقطاعية

 وفي هذا السياق تنبغي الإشارة إلى أن روايتي رابليه، وهما “غارغنتوا” و“بانتاغرويل”، قد ترجمهما إلى العربية أنطون حمصي، وتمت طباعتهما في عام 2006، كما أن كتاب باختين المذكور آنفا قد ترجم أيضا إلى العربية من طرف شكير نصر الدين. وهذا يعني أن الثقافة العربية قد اهتمت بالروائي رابليه وبطريقته في جعل الرواية تنطق بالضمير الشعبي.

والجدير بالذكر هنا هو أن كثيرا من الدارسين العرب قد أنجزوا دراسات مهمة حول الرواية التي تستلهم العوالم الشعبية الهزلية والفكاهية، كما أنهم قد استفادوا أيضا من نموذج تحليلات باختين في الكشف عن طبقات المعاني المتعددة للوعي الثقافي الذي تعكسه الرواية الكرنفالية.

من المعروف أن أهمية الكرنفال ليست فنية فقط كأن يسمح للروائي بتوظيف عناصر فنية جديدة من أجل تشكيل الجنس الروائي مثل مبدأ الحوارية، والتناص، وتعدد الأصوات، والهجنة وهلم جرا، بل إن الرواية الكرنفالية لها أبعاد أخرى وفي صدارتها كسر الأحادية الإقصائية موقفا وسلوكا وتعبيرات ثقافية وفنية، الأمر الذي قد جعل الناقد باختين وشرّاحه الكثيرين، من بينهم جوليا كريستيفا وتزفيتان تودوروف، يؤكدون أن الكرنفالية تعني أيضا توسيع مجال الحريات والديمقراطية، وبعبارة أخرى فإنه يمكن القول إن الكرنفالية ليست ذات بعد جمالي فقط، وإنما تتميز أيضا بامتلاكها للبعد السياسي، وهذا يعني أنها ليست مجرد طريقة في ابتكار بنية السرد الروائي المفتوح والحواري والهجين أو لنقل التعبير الفني والثقافي الديمقراطي داخل عالم هذه الرواية أو تلك.

بناء على ما تقدم يرى النقاد أنَ فكرة “الكرنفال” ذات أهمية بالغة في تغذية كل من النقد الأدبي والممارسة السياسية بأخلاقيات الغيرية، وفضلا عن ذلك فهي تساعد على جعل العالم الروائي يؤسس لثقافة العيش المشترك في المجتمعات ذات التعدد العرقي، أو الإثني، أو الديني. في هذا السياق ندرك لماذا قام ميخائيل باختين بتقديم تحليل تاريخي عميق تعقب فيه تواريخ نشأة مفهوم الكرنفال في الآداب الأوروبية بشكل خاص وفي الثقافات الأخرى بشكل عام، وذلك بواسطة سبر الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية التي تميزت بها العصور الوسطى، وكذلك عصر النهضة.

شرع باختين في إبراز أهمية الكرنفال في كثير من مؤلفاته منها كتابه "شعريات دوستويفسكي"، ومن ثم عمّقه في كتابه الفريد من نوعه والموسوم بـ"رابليه وعالمه"

 ولقد استنتج أن الكرنفال قد شكل قطيعة معرفية، وفنية، وسياسية مع القيم الرسمية المهيمنة إذ ذاك في أوروبا، وجاء بمثابة أفق معرفي، وفني، وسياسي ديمقراطي ليحل محل أشكل التعبير الثقافي والفني للطبقية الإقطاعية النخبوية، وللرزانة الأخلاقية المتزمتة، وللجدية التي كانت تخفي بين طياتها غطرسة الكنيسة الإكليريكية.

ومن هنا فإنّ ماهية ثقافة الكرنفال في نظر باختين قد مثلت لحظة متعددة الأصوات، ومضادة للحياة المفروضة بواسطة جبروت الكنيسة أو الهيمنة الإقطاعية. وفقا للناقد باختين إنّه في داخل هذه اللحظة الكرنفالية الديمقراطية تنفتح آفاق الثقافة الشعبية الساخرة والهزلية والضاحكة والمضحكة ليطل منها الناس على واقعهم الحقيقي، ولإبرازه بعيدا عن الرقابة بمختلف أشكالها.

وعلى أساس كل هذا يرى أن الكرنفال هو بمثابة الحياة الثانية للناس، أي الحياة التي تعرضت للقمع، والرقابة وحتى للمصادرة من قبل المرجعية الدينية الإكليريكية والإقطاعية.

وبتعبير باختين فإنه “خلال زمن الكرنفال فإن الحياة فيه تكون عرضة فقط لقوانينها، أي لقوانين حريتها الخاصة بها أن تملك روحا كونية، وأنها شرط خاص للعالم كله، ولانبعاثه وتجدده حيث يمارس فيه كل واحد دوره. هذا هو جوهر الكرنفال والذي يحس به وبقوة كل المشاركين فيه”. رغم أنّ صور الكرنفال متنوعة ومتعددة وهي “تشبه إلى حد بعيد بعض الأشكال الفنية وخاصة شكل العرض وذلك بسبب طبيعتها الحسية الواضحة وقوة عنصر حركتها”، غير أن ثقافة الكرنفال في تقدير باختين “تنتمي إلى الحد الفاصل بين الفن والحياة. وفي الحقيقة فهي الحياة نفسها”.