مزج الشخصي بالعمومي بالوطني..

"رمسيس راح فين؟" فيلم بطله تمثال

تمثال له أعداء

سعد القرش

للشعوب ذات التاريخ الثقافي في إبداع فنون المقاومة جبروت يتجلى ولو في أشكال سلبية تتحدى أنظمة الحكم. في منتصف الثمانينات، شغلتني لوحة “ميدان أنور السادات” تطل على ميدان التحرير، مثبتة بإحكام في سور وزارة الخارجية.

نبهتني اللوحة إلى قدرة العصيان المدني على الرفض، ولامبالاة الشعب بالاسم الرسمي للميدان واستنكار تغييره. وكدت أقول إنها أبرز آثار رئيس لم يفاجأ المصريون باغتياله، ولم يهتموا بوداعه في جنازة شعبية، اكتفاء بمتابعة تلفزيونية تناسب رئيسا فتنته الأضواء والصور واستهواه الاستعراض.

إصرار شعبي على تحدي اسم رئيس للجمهورية يحتاج إلى وقفة، كما تحتاج لحظة ترحيل رمسيس الثاني إلى تحليل نفسي.

وعقب نجاح ثورة 25 يناير 2011 في خلع حسني مبارك، لم يستغرق تغيير اسم "محطة مبارك" في مترو الأنفاق إلى "محطة الشهداء" وقتا، ولم تستأذن الإرادة الشعبية أحدا. خسر مبارك عرشه ومحطة في المترو، بعد خمس سنوات على إجبار الملك رمسيس الثاني على مغادرة ميدان مازال يحتفظ باسمه "ميدان رمسيس".

وكان تمثاله الغرانيتي الصرحي (وزنه 83 طنا وطوله 11.36 متر) أول ما تصافحه عينا القادم إلى القاهرة، من أي مكان، أمام محطة السكك الحديدية التي تضح أكثر من مليوني إنسان يوميا في دروب العاصمة، ثم تسحبهم أو تستبقيهم أياما أو بقية أعمارهم. وفي طريق مطار القاهرة نسخة من التمثال، لوداع المغادرين.

لهذه الأسباب وغيرها، يمس فيلم "رمسيس راح فين؟" للمخرج عمرو بيومي شيئا في روحي. ويمتاز عمرو بيومي بذاكرة حادة تحتفظ بإعلان تلفزيوني تخيّل صانعه، قبل نحو خمسين عاما، اختفاء تمثال رمسيس.

كما يحرص على دقة التوثيق، وفي فيلمه القصير "نافذة ع التحرير" سجل الشعار الصاعد من ميدان التحرير، الثلاثاء 25 يناير 2011، "تغيير.حرية.عدالة اجتماعية"، كما كنا نردده آنذاك، ثم تغيرت الكلمة الأولى إلى "عيش". وفي فيلم "رمسيس راح فين؟" إشارة خاطفة إلى لحظة اندلاع الثورة وشعارها، قبل العودة إلى مسار فيلم شجيّ، يحنّ إلى طفولة أدى فيها التمثال دورا مركزيا؛ بتقاطعه مع مسارات الطرق ومراحل العمر.

المستشرقون وحدهم يظنون المصريين غير مبالين بتاريخهم. وينفي هذا الوهم موقفان: في جمعة الغضب (28 يناير 2011) أثبتوا محبتهم لتراثهم الحضاري بدفاعهم عن المتحف المصري في غياب الشرطة. وعشية تهجير رمسيس، فجر الجمعة 25 أغسطس 2006، انتظروا الملك، وتابعوا رحلته في وداع مهيب استمر نحو عشر ساعات. سهرت القاهرة كما لم تسهر من قبل، وبكى الكثيرون لحظة تحرّك التمثال وانطلاق موكبه.

الفيلم -الذي صوره المخرج مجدي يوسف- يمزج الشخصي بالعمومي بالوطني، ويوثق الرحلة الأولى للتمثال من مكانه الأصلي بالقرب من الأهرام، ووضعه أمام محطة السكك الحديدية، بدلا من تمثال نهضة مصر لمحمود مختار، فأصبح وتدا راسخا يمنح الميدان هيبة والمواطنين طمأنينة. ويلمح الفيلم إلى أن نقل التمثال كان شروعا في تغيير اسم الميدان، ففي الأسفل "محطة مبارك" بالمترو، وميدان رمسيس هو الأعلى.

 ولا يستبعد مهندس شارك في تنفيذ عملية الترحيل أن يكون ذلك استجابة لطلب دولة تناصب رمسيس العداء، وترغب في محو اسمه؛ بإخفائه عن أكثر ميادين مصر ازدحاما. يقصد بالطبع العدو الصهيوني الذي اختار أشهر رمز مصري قديم، لاتهامه بتعذيب اليهود، وجعله "فرعون الخروج" بالمخالفة لأي منطق تاريخي أو دليل أثري.

في الاستضعاف، تلجأ الشعوب إلى سلاح العناد. وفي مشهد دال لوّحت النساء في الشرفات بالعلم المصري لملك ألهم المخرج، ومنحه جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل في الدورة الأخيرة لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة.