الواعظ والنجومية..

عائض القرني داعية سعودي خلع الصحوة في الوقت الضائع

شاهد من أهلها يروي سيرة الحركة المتشددة

عمر علي البدوي

دوّى الحديث التلفزيوني الذي أجراه الداعية السعودي عائض القرني عبر شاشة روتانا خليجية في أول أيام شهر رمضان الجاري، عندما سأله مذيع البرنامج عبدالله المديفر عمّا إذا كان يدين باعتذار شجاع إلى المجتمع السعودي عن حقبة الصحوة وما اقترفته مجاميع الدعاة وقتئذ من تجاوزات ومخالفات. فقال القرني “أعتذر باسم الصحوة للمجتمع السعودي عن الأخطاء التي خالفت الكتاب والسنة وسماحة الإسلام وضيقت على الناس”، وذلك بعد أن نقض خلال الحلقة عددا كبيرا من السلوكات التي اقترفتها مرحلة الصحوة باسم الدين في حق المجتمع .

القرني كان ضمن نخبة مشاهير تلك المرحلة التي تسمى “الصحوة في السعودية” وهي حركة فكرية اجتماعية متشددة في التفاصيل، تأثرت بالإخوان المسلمين بعد نزوحهم من حواضنهم الأصلية في مصر وسوريا وزرعهم نفوذهم في المؤسسات التعليمية والإسلامية في الخليج.

تيار جارف

بدأ مصطلح الصحوة في الظهور إبّان حقبة الثمانينات الميلادية على يد عدد من الأشخاص في ذلك الوقت من أمثال سلمان العودة في بريدة وعوض القرني في أبها وسفر الحوالي في جدة وناصر العمر وسعد البريك في الرياض. ولم تتحفظ السعودية، حكومة وشعبا، على هذا الوافد الذي بدأ ينتشر أول الأمر، واعتبرته زيادة في التدين وتعبيرا عن رغبة مجتمعية لن تتطور إلى سوى ذلك التمرد على الأعراف والغلو في الدين ومواجهة الدولة.

لكن الأحداث السياسية التي عصفت بالمنطقة في تلك الفترة، سرّعت من وتيرة انكشاف هذا التيار المتأسلم، إذ وخلال فترة الغزو السوفييتي لأفغانستان وحرب الخليج الثانية، بلغ فيها هذا التكوين نضجه التام، وانتبه المجتمع إلى ما ينطوي عليه من خيارات جنونية، ولكن الوقت كان قد فات على اقتلاعه من جذوره، وبقيت السعودية أسيرة حرب مفتوحة مع نتائجها وآثارها العميقة.

ملكات القرني البلاغية والارتجالية تمكنه من الاستحواذ على جمهور واسع يتأثر بحماسته واسترساله في الحديث واستدعاء الشواهد التاريخية دون ضابط منطقي أو رابط موضوعي، سوى شروط النجومية على المقاسات الصحوية من تثوير المعاني وإلهاب حماس الجماهير ودغدغة مشاعرهم الدينية

تفرّغ القرني للدعوة وزار الكثير من الدول وحضر العشرات من المؤتمرات وألّف أكثر من ثمانين كتابا، أشهرها كتاب “لا تحزن”، الذي بيعت منه أكثر من 10 ملايين نسخة، وتُرجم إلى عدة لغات، وبالإضافة إلى قائمة طويلة من الكتب في الحديث والتفسير والفقه والأدب والسيرة، أنهى القرني تأليف الموسوعة الإسلامية في 12 مجلد مع المشاركة بخمسة برامج تلفزيونية دائمة في التفسير والحديث والسيرة والثقافة والأدب.

لكنه تعرض لانتكاسة غريبة، عندما تقدمت الكاتبة السعودية سلوى العضيدان بدعوى قضائية ضد القرني اتهمته فيها بالاعتداء على حقوقها الفكرية عبر سرقة نصوص ومحتوى كتابها “هكذا هزموا اليأس” وإدراجه في كتابه “لا تيأس”.

استمرت المداولات القضائية ست سنوات، بعدها قضت لجنة حقوق المؤلف بوزارة الإعلام السعودية تغريم القرني بمبلغ 330 ألف ريال سعودي، شملت 30 ألفا للحق العام، و300 ألف تعويضا للكاتبة العضيدان، وشمل الحكم أيضا سحب كتاب القرني “لا تيأس” من الأسواق ومنعه من التداول ووضعه بشكل رسمي على قائمة المنع حتى لا يدخل إلى المملكة.

بدأ القرني مبكرا في الوعظ وتقديم المحاضرات المفتوحة والمشاركة في الشأن العام، إذ كان يشارك فيها مذ كان طالبا جامعيا يافعا لم يكمل شروط الظهور ولم يستوف زاده المعرفي وينضج علمه، ولكن زمن الصحوة بما ينطوي عليه من الاستعجال وغياب الموضوعية، مكّن الكثير من الأغرار من اقتحام المجالات العامة.

الواعظ والنجومية

لما أوتي القرني من ملكات بلاغية وارتجالية استحوذ على جمهور واسع تأثر بحماسته واسترساله في الحديث واستدعاء الشواهد التاريخية دون ضابط منطقي أو رابط موضوعي، سوى شروط النجومية على المقاسات الصحوية من تثوير المعاني وإلهاب حماس الجماهير ودغدغة مشاعرهم الدينية.

ولأن الصحوة استثمرت كثيرا في تقنية الكاسيت والأشرطة المسجلة لتحقيق انتشار أكبر وذيوع أوسع لخطابها وأيديولوجيتها، فقد كان القرني واحدا من أكثر النجوم رواجا ومقبولية لدى الجمهور، وله أكثر من ألف شريط كاسيت إسلامي في الخطب والدروس والمحاضرات والأمسيات الشعرية والندوات الأدبية، وقد حقق له ذلك شهرة واسعة ورصيدا كبيرا لدى جمهور يتخطى حدود السعودية إلى دول الخليج والعالم العربي.

بدأت الصحوة تتحول من حركة إحيائية تهتم بدعوة الناس إلى دينهم ووعظهم وتنبيههم إلى مواطن الخلل في تدينهم، إلى جماعة متمردة تؤلب المجتمع على الدولة وخياراتها السياسية وتتعاطى مع قضايا الشأن العام بأدواتها السطحية غير المؤهلة للتعامل معها.

تطور الأمر وأصبح الصدام مع الدولة واردا وتتزايد خطورته كلما أمعن نجوم الصحوة، ومن أشهرهم القرني، في مناكفة الدولة وتعبئة الشعب ضدها، وكانت الأحداث السياسية المحيطة والمتصلة بالسعودية تزيد من النفخ في أوار العلاقة المضطربة التي أخذت تتفاقم بين الحركة والدولة.

حاولت هيئة كبار العلماء احتواء الموقف والخفض من انفعال جماعة الصحوة، وكثيرا ما استدعى المفتي العام للمملكة عبدالعزيز بن باز نخبة دعاة الصحوة وحثهم على الهدوء وتجنب السلوكات الجنونية التي قد تضرّ باستقرار المجتمع وجهود الدعوة.

مرحلة انحسار

لكن حرب الخليج الثانية واستدعاء القوات الدولية للمشاركة في جهود تحرير الكويت من الغزو العراقي الغاشم، حسما نهاية صبر الدولة على أيديولوجيا الصحوة ودعاتها بعد أن تحالفت مع جماعة الإخوان المسلمين في الجهر على عداوة السعودية والتشكيك في شرعية النظام وتأليب الشعب ضده. وبدأ خط جديد من العلاقة، ظاهرت فيه الصحوة مجاميع عدائية خارج البلاد واتصلت معها في الرؤى والأهداف.

في ظل ظروف متوترة اعتقل القرني إثر سلسلة محاضرات ألقاها في أبها وسبت العلايا منددا بالوجود العسكري الأجنبي بسبب غزو الكويت، وقد أطلقت السلطات سراحه في ما بعد، ولكنها قيدت نشاطه ومنعت نشر مقالات أسبوعية له في صحيفة “المسلمون”، وقد تم سجنه في أحد سجون أبها على إثر اتهامات عديدة، وقد توقف وقُيِّد نشاطه لنحو 10 سنوات وترك مسقط رأسه وسكن في الرياض، عاد بعد ذلك إلى الدعوة وكانت أول محاضرة له بعنوان “أما بعد” وسلسلة “من روائع السيرة”.

في عام 2005 ونتيجة لكثرة المضايقات والهجمات التي تعرض لها من المجتمع بسبب مشاركته في فيلم موجه للمجتمعات الغربية يدعى “نساء بلا ظل”، وضّح فيه قائلا إنه “لا حرج على المرأة أن تعمل من دون أن تغطي كفيها ووجهها، المهم أن تكون محتشمة ومـحجبة. هي مسألة خلافية عند علماء المسلمين ويعتمد حكمها على طبيعة المجتمع، وتأثير كشف الوجه وفتنته”، وتحدث القرني في الفيلم عن مقابلة أجراها مع إحدى الفضائيات قال فيها بجواز قيادة المرأة للسيارة ضمن حدود وضوابط.

القرني يحسب ضمن نخبة مشاهير تلك المرحلة التي تسمى مرحلة "الصحوة في السعودية"، نسبة إلى حركة فكرية اجتماعية متشددة في التفاصيل، تأثرت بجماعة الإخوان المسلمين بعد نزوحهم من حواضنهم الأصلية في مصر وسوريا وزرعهم نفوذهم في المؤسسات التعليمية والإسلامية في الخليج

نتيجة لذلك تلقى الكثير من الاتهامات من المعارضين لذلك، وشنوا عليه هجمة شرسة، مما دفعه إلى الإعلان عن اعتزاله العمل الدعوي والإعلامي. وأعلن ذلك في قصيدة حملت اسم القرار الأخير محملا المجتمع بتياراته الدينية والحداثية وحتى السياسية، مسؤولية التردي في العلاقة بين الدعويين والمجتمع. وقال “لقيت اتهامات عديدة. فالحداثيون يعتبروننا خوارج، والتكفيريون يشنعون علينا بأننا علماء سلطة، بينما لا يزال بعض السياسيين مرتابين منا”.

ونتيجة للأحداث الإرهابية المؤسفة التي حصلت في السعودية واللائمة التي وقعت في الأساس على الإسلاميين وخطابهم المؤسس لمرحلة الإرهاب الدامي، تراجع حضور الصحوة وتبنّى عدد من رموزها السابقين خطابات التسامح والوسطية والحرية.

عودة الصحوة

 أنعشت موجة الربيع العربي آمال الصحويين بالعودة إلى صدارة المشهد، وخلع عتاة زمن الصحوة عنهم مفردات الوسطية والاعتدال والتسامح، ودعوا إلى تأبيد حالة الثورة وعودة الإسلاميين إلى حكم البلدان العربية ونقض الكيانات السياسية القائمة، وسافروا زرافات ووحدانا إلى مصر أيام حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، ودبجوا له قصائد المديح وأشادوا بالإخوان المسلمين ودعوا من على منابر جوامع ومساجد مصر إلى الجهاد في البلدان التي استعصت على التغيير وتنكروا لبيعاتهم وبلداتهم وقياداتهم.

استقبلتهم الدوحة بصدر رحب، وصرفت لهم الأموال ومكنتهم من العقود المليونية لشراء أهوائهم وحشد ملكاتهم الخطابية والتجييشية في معركة التغيير لتمكين الإسلاميين، وزاد كل ذلك من ثمن الخسارات التي تتكبدها الصحوة وزمنها ورجالها وخطابها في وجدان المسلمين وقد بذلت غاية ما تستطيعه من القدرة على البقاء، ولكن الزمن كان قد انتهى والمجتمع اختار الخلاص منها بلا رجعة.

أقرّ القرني أخيرا بعدد من الأخطاء التي وقعت فيها الصحوة في حق الدين والمجتمع، وذكر نزرا منها مثل الاهتمام بالمظهر أكثر من المخبر والوصاية على المجتمع وتقسيمه لملتزمين وغير ملتزمين اعتمادا على المظاهر السطحية مثل اللحية والثوب. وأن خطاب الصحوة اتسم بالغلظة والفظاظة وحرّم على الناس مظاهر الفرح من باب الالتزام القوي والشدة؛ ففي مواكب الزواج استبدلوا الأناشيد والفرح بالوعظ، وقد ساعد عاملا الوقت والنضج في اكتشاف هذه المآخذ.

هل يكفي الاعتذار؟

يقول الصحوي السابق: إن الصحوة لم تكن امتدادا لثورة الخميني، بل ربما كانت ردا على هذه الثورة، لكنها كانت موجة كبيرة دخلت فيها الكثير من الأطياف من بينها “المستقلون” و”الإخوان” و”السروريون”، وقد تأثرت بفكرة “الأممية” لدى الإخوان ما أدى إلى تراجع فكرة “الوطنية” إلى الوراء، وهذا “خطأ أدركناه بعد ما عرفنا وقرأنا.

ويؤكد القرني أن الصحوة بعد أن أصيبت بالتشدد صارت ترى سلبيات الدولة فقط ولا تنظر إلى إيجابياتها، وهذا سبب الصدام والسجون والإيقاف. وحول محاولات فرض الوصاية الصحوية على الدولة قال “كنا نضغط بالشعب على الدولة. لكن كانت الدولة أقوى، ومواجهتها كان خطأ استراتيجيا”.

تبلورت الحالة الإسلامية في نهاية التسعينات ونتج عنها المارد الإرهابي الذي تورط في تخليقه عدد من العوامل المتداخلة، كانت من بينها الصحوة التي عبأت المجتمع للتسامح مع موجة الإرهاب وهيّأت الشباب الغرّ ليتحول إلى مشاريع جاهزة لتبني أفكارها وخدمة أجنداتها. أما المجتمع فقد تحمل مسؤولية مواجهة الحقيقة وأخذ يعالج ظاهرة الصحوة ويكنس كل الآثار التي خلفتها مرحلة الصحوة في ذهنيته ووجدانه اللذين بقيا سليبين لرموزها وخطابها لعقود طويلة.

يسرّع من وتيرة التعافي من آثار الصحوة، الجهد التنويري الذي تتبناه بعض الرموز والاجتهادات المبعثرة، وهي وإن كانت شحيحة ولا تعبر عن برنامج مكتمل أو موجة ناضجة، لكنها ساعدت، رغم الخصومة الحادة التي واجهتها، في نزع غطاء القدسية التي تحتمي بها الصحوة، وأنزلتها من فوق الشجرة.

لكن مناخا جديدا تشكل مؤخرا، فمع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز حكم المملكة وبزوغ ولي عهده الأمير محمد بن سلمان على الساحة، شهدت السعودية عدة تغييرات انفتاحية تعبر عن رغبة في قطع العلاقة مع تلك المرحلة وأتباع هذه الحركة.

وكثيرا ما تحدث ولي العهد السعودي عمّا أسماه الحالة غير العادية وغير الطبيعية التي دخلت على المجتمع السعودي في إشارة إلى الصحوة وما وصفه بالإسلام غير المعتدل، وبأنها مجرد ردة فعل للثورة الإسلامية في إيران، متعهدا “بتحرير المجتمع السعودي” من تلك الحقبة وإعادة السعودية إلى ما كانت عليه قبل 30 عاما.

اعتذار القرني عمّا لا يزال يقابل بجدل واسع على منصة الحديث العام التي يفضلها السعوديون “تويتر”، بين مرحب ومستهجن ومطالب بالمزيد، ورغم ما كتب عن تلك المرحلة من مقالات وبحوث وكتب، بقيت غامضة في وجهها الآخر، حيث كانت تصنع أفكارها وتنسج أدوارها، ويودّ طيف واسع من المجتمع أن تتحول شجاعات الاعتذار إلى صدق مكتوب أو إعلان براءة يهيّئ للمجتمع فرصة الانعتاق الحقيقي والسلامة من أي وافد جديد قد يختطفه مرة أخرى، ويورده المزالق والمهالك، ويعطل حقه في التقدم والتنمية والاحتفال بالحياة.