استهداف ممنهج وعقاب جماعي..

متى يضع العالم حدًّا لمأساة قبيلة الغفران في قطر؟

سحب جنسياتهم وإبعادهم إلى بلاد أخرى وإجبارهم على ترك ممتلكاتهم، ناهيك بأحكام الإعدام والسجن مدى الحي

الدوحة

“لكل فرد حق التمتع بجنسية ما”، هكذا أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الخامسة عشرة.. إنه التأكيد والإقرار من الهيئة الدولية الكبرى بالأهمية القانونية والعملية للجنسية؛ فهيضمنيًّا سابقة لتمتُّع الأفراد بحقوقهم كبشر في بلد ما. وبخلاف أن الجنسية هي رباط قانوني بين الفرد والدولة، وبخلاف كونها توفِّر للأفراد الشعور بالهوية والانتماء؛ فإن ما هو مؤكد -وبشكل إنساني بحت- هو أن الجنسية تمكِّن الأفراد من  ممارسة طائفة واسعة من الحقوق. ولهذا، فإنانعدام الجنسية دون مبالغة قد يكون ذا أثر مدمر لحياة الأفراد وأمنهم وكرامتهم. فمعني أن يكون شخص ما في بلد ما بلا جنسية، فهو يعتبر بالنسبة إلى هذا البلد غير موجود قانونًا، وهو الأمر الذي يحرمه هو وأولاده، مثلما أشرنا، من أوراق قانونية تمنحه حقوقًا عدّة؛ من بينها الحق في التعلُّم والرعاية الصحية والتنقل والسفر والزواج وممارسة الشعائر الدينية، ناهيك بأن هؤلاء المحرومين من الجنسية يكونون طوال الوقت عرضةً للاعتقال، ولربما لفترات طويلة.

هنا قد يبدو مدهشًا، إن لم يكن سببًا للخزي والعار، أنه في القرن الواحد والعشرين لا يزال البعض في مناطق من العالم، وتحديدًا في المنطقة العربية، يعيشون بلا جنسية؛ من بين هؤلاء وفي دولة قطر هناك عشيرة الغفران التي تعد أحد الفروع الأساسية لقبيلة آل مرة الأكبر؛ وهي القبيلة التي تسكن شرق شبه الجزيرة العربية في كل من السعودية وقطر، وتتألف من بطون عدة؛ من بينها الغفران.

قد يبدو للبعض أن إثارة قضية الغفران هي أمر حديث نسبيًّا؛ فقد سُلط عليها الضوء حينما بدأ الحديث عن دعوات الإصلاح السياسي في المنطقة وتحسين وضعية حقوق الإنسان والأقليات بها في الألفينات؛ خصوصًا أن هذا تلاقى في عام 2004 مع قرار السلطات القطرية بسحب  الجنسية مما يقرب من 6 آلاف أسرة من عشيرة الغفران (حسب أحد التقديرات في وثائق ويكيليكس العدد يصل إلى 10 آلاف). ثم عودة الحديث مجددًا عن القضية مع الخلاف الخليجي- القطري بقرار قطري جديد، في سبتمبر الماضي، بسحب الجنسية من شيخ “الغفران” طالب بن لاهوم بن شريم المري، مع عشرات آخرين؛ من بينهم أطفال ونساء.

 غير أنه وفي الحقيقة فإن ما يجب الالتفات إليه هو أن المأساة الإنسانية لقبيلة الغفران تعودتفاصيلها ربما إلى ربع قرن مضى، تحديدًا في عام 1996،  أي في العام الذي سيطر فيه حمد بن خليفة آل ثاني، والد الشيخ تميم -أمير قطر الحالي- على الحكم بعد انقلاب على والده. وبينما أيًّد عدد من أبناء الغفران الأب -المـُنقلب عليه- في مساعيه لاسترداد الحكم، فقد تحوَّلت قبيلة الغفران بأكملها إلى هدف للنظام القطري الجديد وموضع استهداف ممنهج وعقاب جماعي عبر سحب جنسياتهم وإبعادهم إلى بلاد أخرى وإجبارهم على ترك ممتلكاتهم، ناهيك بأحكام الإعدام والسجن مدى الحياة التي طالت العشرات منهم بحلول عام 2000. بعد أن أصدرت قطر إلغاء مرسوم الجنسية، أمر المسؤولون الحكوميون الآلاف من الأعضاء من عشيرة الغفران بمغادرة قطر. وحينما رفض كثيرون أو سعوا لتأخير رحيلهم، بدأت السلطات في اتباع تدابير عقابية أخرى؛ مثل مراقبة أمن الدولة والشرطة لأفراد العشيرة عن كثب، وقطع الحكومة إمدادات الكهرباء والمياه عن منازلهم، ثم إجبارهم بالشرطة على تركها بالتوازي مع عمليات ترهيب واعتقال لبعضهم من جديد؛ وكل هذا في سبيل نزع الجنسية. ومثلما أشرنا في السطور السابقة حول  تداعيات ذلك، وكنتيجة؛ فإن أفراد عشيرة الغفران أصبحوا محرومين من حقِّهم في العمل والرعاية الصحية والتعليم والزواج وتكوين أسرة والتملك وحرية التنقل.  

فببساطة، فكون هؤلاء لا يحملون أوراقًا ثبوتية، فهم يواجهون قيودًا على فتح الحسابات المصرفية والحصول على رخص القيادة والتعامل مع المدارس والمستشفيات والتقدم لشغل الوظائف وحتى التنقل والسير في الطرقات الذي قد يعرضهم للاعتقال. فطبيعي وشأن الحال في أية دولة، فالتسجيل في المدارس الحكومية وحتى المدارس الخاصة والدولية في قطر يتطلب وثائق ثبوتية، وبالمثل وبموجب القانون القطري يُسمح فقط بتوظيف مَن لديهم إقامة قانونية أو المواطنين، وكذلك التقدم لطلب الحصول على بطاقات الرعاية الصحية والحركة داخلها والسفر خارجها، وحتى  الزواج بشكل رسمي فيتطلب تسجيل نسخة من جواز سفر سارٍ أو تصريح إقامة، وشهادة الميلاد.

حتى الآن، فإن كل ما سبق قد يبدو كلامًا نظريًّا، أو قد يبدو على الأقل من الصعب تخيُّله، لكنه الحقيقة التي توثقها الشهادات في أحد التقارير المهمة الصادرة، قبل أيام، عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”، وهي المنظمة غير الحكومة المعنية بقضايا حقوق الإنسان الأشهر في العالم. ففي تقريرها المعنون بـ”قطر.. سحب تعسفي للجنسية من عائلات” تبدو الشهادات مؤلمة، صادمة، مستحضرةً عارًا لا يمكن تصديق حدوثه في عالم اليوم.

 في التقرير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يصف رجل في خمسيناته، تم سحب جنسيته هو وأطفاله قبل 15 عامًا، أثر ذلك عليه، قائلًا: “ليس لديَّ أي ممتلكات باسمي، لا بيت، لا دخل، لا بطاقة صحية، ولا يمكنني حتى فتح حساب مصرفي، كما لو أنه لا وجود لي. عندما أمرض بدلًا من الذهاب إلى الطبيب أو المستشفى أتناول (بنادول) (مسكن للألم لا يحتاج إلى وصفة طبية)، وأتمنى التحسُّن”. ويقول شاب في الثلاثينات من عمره: “كل شيء في هذا العالم مرتبط بالجنسية، لكن بالنسبة إلينا كل شيء مرتبط بصدَقة الآخرين” (يقصد ما يمنحه الآخرون والمؤسسات الخيرية من دعم لحياتهم). ويقول أحد النشطاء المنتمين إلى قبيلة الغفران والذي يعمل على تسليط الضوء على القضية: “طوال 22 عامًا، حُرمت من زيارة والدتي وإخوتي وأقاربي في وطني”. ويضيف آخر: “لا أحد منَّا لديه وظيفة، قد أجد عملًا وقد أُقبل، لكن بمجرد معرفتهم أنه ليس لديَّ وثائق سارية، ستقرر الشركات عدم توظيفي”. ويقول آخر في بداية العشرينات: “حاولت أن أتسجل في جامعة قطر، وقُبلت، ولكن رُفضت في المرحلة النهائية؛ نظرًا لانتهاء صلاحية جميع أوراقي الثبوتية”. ويضيف أحدهم: “كانت كبرى مشكلاتنا في السعودية، الفتيان على الأقل، هي كلما مرُّوا بأية نقاط تفتيش تابعة للشرطة، يتم استجوابهم حول عدم حيازتهم أوراقًا ثبوتية، ويُقبض عليهم ويُحتجزون أحيانًا. ذات مرة، أمضى أحد أبنائي 3 أيام في السجن؛ لأنه لم يستطع تقديم وثيقة تعريفية”. وتضيف سيدة في منتصف الأربعينات من عمرها: “إنه حتى بالنسبة إلى الرعاية الصحية الأولية، تطلب المستشفيات دائما بطاقات هوية سارية”، متابعةً بأن ابنتها الصغرى في الثانية من عمرها ولم تحصل بعد على التطعيمات الأساسية؛ بعد 6 أشهر من ولادتها لم تتمكن من تلقيحها أو تأمين أي خدمات صحية أخرى لها، قائلةً: “أحاول عادة ارتداء النقاب، وآخذ البطاقة الصحية لابنة عمِّي وأحاول معالجة طفلتي بهذه الطريقة”.

وعن موقف الحكومة القطرية من تلك  المأساة، يبدو أن الحكومات القطرية المتعاقبة لطالما سَعَت للمناورة والتلاعب في ردودها على المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان؛ فتارة تلتزم الصمت وتتجاهل الأمر برمته، ثم قد تتحدث إحدى هيئاتها عن إصلاحات جزئية في هذا الملف، ثم من جديد ومؤخرًا تناور السلطات مجددًا بالزعم أن هؤلاء ليس لديهم حقوق كونهم يحملون الجنسية السعودية، وأنها لا ترتكب أي انتهاكات بحق هؤلاء!

عمليًّا، اليوم، قد يبدو العالم في حالة من عدم اليقين إزاء بنيته الليبرالية التي من المنوط بها الدفاع عن حقوق الإنسان، وبالفعل فهو أقل انشغالًا بتلك القضايا؛ حيث الأولوية لقضايا الأمنوالاستقرار، غير أن هذا لا ينفي حقيقة جهود يقوم بها نشطاء من أبناء القبيلة؛ لإثارة القضية وكشف أبعادها دوليًّا، في محاولة للفت أنظار العالم إلى مأساة يعيشها مَن لا يحملون الجنسيةفي مناطق مختلفة من العالم، ومن بين هؤلاء كثيرون في قطر، ربما لا يعلم عنهم كثيرون شيئًا!

Qposts