مائة عام على ظهور الفاشيّة الإيطاليّة..

هل ستنتج الثقافة الشعبوية موسوليني جديداً؟

مظاهرة للفاشيين الجدد في إيطاليا

وكالات (لندن)

كسرت الحربُ العالميّة الأولى عالم إيطاليا القديم، لكن المملكة طريّة العود لم تكن بعد قادرة على إنتاج جديدها، فكان أن انطلقت في الظلام الفاصل بين الموت والولادة المتعثرة وحوش وتنانين، على ما يصف أنطونيو غرامشي المفكر الإيطالي اليساري الذي عاش تلك المرحلة، وكان شاهداً عليها. ففي أبريل (نيسان) 1919، أي قبل مائة عام تماماً، أعلنت الفاشيّة (ابنة الظلام) عن وجودها، عندما هاجمت مجموعة من الرعاع المسلحين (المرتدين قمصاناً سوداء لسخرية القدر) مقر صحيفة «إلى الأمام» اليسارية التي كانت تصدر حينها من ميلان، عاصمة الشمال الإيطالي الغنيّ. قتل في ذلك الهجوم وقتها أربعة من صحافيي الجريدة، وأصيب 39 آخرون، كما أحرقت مكاتبها بالكامل.

بينيتو موسوليني، زعيم الحركة الفاشية الذي صار لاحقاً ديكتاتور إيطاليا، اعتبر أن ذلك الهجوم هو لحظة إطلاق شرارة الحرب الأهلية، وأن الفاشيست الطليان الذين كان قد أعلن عن تأسيس حركتهم قبل عدة أيام من الهجوم سيتولون استعادة مجد إيطاليا الغابر.

لم يكن موسوليني في الحقيقة سوى ابن شرعي لمرحلة فقدان توازن سياسي واقتصادي، وانقسام طبقي هائل بين الشمال (الغني) والجنوب (الفقير)، وشلل فكري وضعف خيال أصاب النخبة البرجوازية الحاكمة في إيطاليا بدايات القرن العشرين، جعل البلاد الممتدة كلسانٍ في قلب البحر المتوسط بأمسّ الحاجة إلى توجه جديد. ترافقت تلك المرحلة مع تصاعد المد الثوري الماركسي الطابع عبر أوروبا، لا سيما بعد الثورة الروسية عام 1917 التي أطاحت بحكم القياصرة، والثورة الألمانية 1918 التي أنهت مأساة أوروبا المفتوحة؛ حرباً عالمية منذ اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند عام 1914. ولذا، الجميع كان بانتظار ثورة مماثلة في إيطاليا، قد بدأت إرهاصاتها بالظهور من خلال الإضرابات العمالية المتكررة، ونشاط الصحف اليسارية، وتعدد محاولات احتلال المصانع في الشمال، كما اضطرابات عمال الزراعة جنوباً.

وجد تحالف أرباب الصناعة وكبار ملاك الأراضي في موسوليني وحركته الفاشية اليمينية المتطرفة الأمل الأخير والوحيد لمنع سقوط إيطاليا في قبضة الماركسيين، بعد عجز السلطات الرسمية عن مواجهتهم بشكل حاسم. وقد تحدث أحد كبارهم علناً، وكان وزيراً، ليصف الهجوم على مقر «إلى الأمام» بأنه «أنقذ البلاد». وبالفعل، فقد كان موسوليني الشخص المثالي لتولي تلك المهمة. فالرجل أتى بداية من الحزب الاشتراكي الإيطالي، وانشق عن رفاقه بعد رفضهم تأييد انخراط إيطاليا في الحرب الكبرى؛ لم يكن يقود حركة سياسية يمينية نخبوية أخرى، بل كان يقارع الماركسيين في عقر دارهم وملعبهم: أي بين العمال والطبقات الشعبية في الجنوب، وأبناء الطبقة الوسطى في الشمال، الذين تضررت مصالحهم الصغيرة نتيجة الصراع بين كبار الأثرياء والعمال، وكان بينهم عدد كبير من ضباط الجيش الإيطالي. وقد ثبت لاحقاً أن المجرمين الفاشيست الذين نفذوا الهجوم الغادر على «إلى الأمام» كانوا من منسوبي وحدة القوات الخاصة في الجيش.

تحول ذلك الهجوم السافر إلى مصدر إلهام لعصابات الرعاع التي شكلها كبار مالكي الأراضي في الجنوب الإيطالي المتخلف اقتصادياً لقمع اضطرابات الفلاحين وعمال الزراعة البسطاء، وما لبثت تلك العصابات أن تبنت بدورها القمصان السوداء، وتبنت شعارات الفاشية، وارتكبت على نسق رفاقها في الشمال فظائع يندى لها الجبين بحق السكان المحليين.

لم يقتنع معظم الإيطاليين العاديين وقتها بالدعايات الفاشية، ونجحت الأحزاب اليسارية والمعتدلة بالحصول على ثقتهم في غير ما انتخابات بلدية وإقليمية، لكن الفاشيست كانوا قد عزموا أمرهم على إنهاء الخطر الماركسي، فنفذوا هجمات بالقنابل على المظاهرات، وكسروا الإضرابات العامة بالقوة، ونسقوا مع القوى اليمينية في النخبة الحاكمة والجيش لتنفيذ انقلاب شكلي، وتولي السلطة بعد مسيرة استعراضية عرفت بـ«الزحف على روما» عام 1922. عيّن إثرها ملكُ إيطاليا زعيمَ الفاشيست رئيساً لوزرائه، قبل أن تتطور الأحداث لاحقاً، ويعلن موسوليني قيام الجمهورية الإيطالية، وتوليه إدارتها ديكتاتوراً مطلق الصلاحيات، لحين مقتله عشية هزيمة قوات المحور في الحرب العالمية الثانية. وبين التاريخين، سجلت الفاشية الإيطالية، بالتحالف مع فاشيات مماثلة في ألمانيا واليابان ودول أخرى، مساهمة فاعلة في واحدة من أكثر مراحل التاريخ البشري دموية، قتل فيها عشرات الملايين من البشر، إلى جانب خراب هائل وآلام وعداوات لم يخفت بعضها إلى اليوم.

الفاشية، في الحالة الإيطالية، لم تصعد إلى دفة الحكم عبر صناديق الانتخاب والتصويت، ولا فوق الدبابات، وإنما جاءت محمولة على أكتاف تيار شعبوي الطابع يرفع من منسوب كراهية الآخر المُختلف خدمة لمصالح قوى نافذة لم تشف من تراث عنصريتها المتوارثة جيلاً بعد جيل.

الذي يقرأ صعود التيارات الشعبوية اليوم في الغرب، سواء إيطاليا ذاتها أو عبر القارة الأوروبية، من بولندا شرقاً إلى بريطانيا غرباً، ومن السويد شمالاً إلى إسبانيا جنوباً، سيجد أن المناخ الذي أفرز يوماً صعود فاشيات القرن العشرين يُعاد إنتاجه اليوم نسخة تكاد تطابق الأصل، في ظل أجواء فقدان التوازن السياسي والاقتصادي والانشطارات القومية والطبقية التي مست مجتمعات الغرب إثر الأزمة المالية العالمية عام 2008، وما قد ترتب عليها من ركود اقتصادي وفقدان قطاع الجمهور الأعرض للثقة في أداء النخب الليبرالية الحاكمة. هذا المناخ يترك مساحة فاصلة بين قديم مات وجديد لم يولد بعد. مساحة مظلمة أشرعت بوابات الجحيم لظهور فاشيين معاصرين، تجمعهم عنجهيات مستعادة عن كراهية الآخر الذي صار بحكم تطور الأحداث التاريخية مهاجراً مسلماً هذي المرة، في حين لا يجد بعض أطراف النخب الأوروبية الحاكمة من مدمني عنصرية تراثهم الاستعماري القديم حرجاً في دعمهم، والتمكين لهم رويداً رويداً، ربما بانتظار ظهور ذلك (الموسوليني) الذي يليق بالقرن الحادي والعشرين، ومنهم كوادر عليا في مفاصل السلطة والأمن والإعلام ضمن الأنظمة الحالية.

الغرب مطالب لأجل أجيال أبنائه، اليوم ومستقبلاً، قبل بقية مواطني العالم، بأن يتدارك أزمته، ويغلق فسحة الظلام التي يعشعش فيها هؤلاء الفاشيست الجدد، فيطلق إلى النور نظاماً جديداً يقوم على أسس من العدالة والمشاركة والتضامن المجتمعي، قبل أن تأتينا الأخبار العاجلة بشأن زحف جديد على روما أو لندن أو برلين.