العالم الإسلامي..

متى ينتهي الاستعلاء بالله للتصالح مع العالم؟

الاستحواذ على الفضائل.. اطمئنان كاذب

سعد القرش

منذ نهايات القرن التاسع عشر تتردد مقولة “رأيت في أوروبا إسلاما ولم أجد مسلمين. وفي بلادنا مسلمون بلا إسلام”. تعبت ولم أستطع إثبات نسبتها إلى الإمام محمد عبده، ولكن الجميع ينسبونها إليه. ولم تعدم هذه الرواية اختلافا في المتن، واتفاقا على معنى يسمو بالنص إلى مرتبة قريبة من حديث نبوي، أو قول مأثور تكمن خطورته في طاقة تملأ المسلم شعورا بالزهو، والاطمئنان الكاذب بأن مبادئ الإسلام هي السبب في تقدم الغرب، وأن التفريط فيها أدى إلى انحطاط المسلمين. وفي هذا الربط، والتأكيد المتواتر، تبسيط مخلّ ينزع عن الغرب وعن الأمم المتقدمة في الشرق أي فضيلة، ويستهين بالاجتهاد البشري في مدارج الصعود نحو حياة لا فضل فيها للإسلام أو لغيره من الأديان الإبراهيمية والأرضية.

يرسّخ الإيمان بهذه المقولة نوعا من الاستعلاء بالله، والاستئثار به إذا شئنا الدقة، واحتكار فضائل لا يصير لها إلا عنوان واحد هو الإسلام. ويدعو هذا الإيمان أيضا إلى التراخي والتواكل، والتعويل على المستحيل، في انتظار تطبيق “تعاليم إسلامية” ستغير تلقائيا من أحوال المسلمين، وتشملهم بسحرها فيصبحون أكثر إنسانية، وإسهاما في الفنون والعلوم، وابتكارا لمنجزات العصر، ومشاركة في خدمة البشرية.

يسهل القول إن الإمام جانبه الصواب؛ فهذا القول يجرّد الغرب من نعمة العقل، ويراه أقل رشدا ما لم يتبع تعاليم إسلامية ربما لم يسمع بها، ولا يحتاج إليها.

وقد توصل الغرب إلى هذه القيم الإنسانية باجتهاده، بعد قرون من الحروب العدوانية والأهلية، والتورط في مستنقع يُغرق العالم الإسلامي إلى اليوم. وإذا جاز للبعض رفع شعار الإمام عن متلازمة الإسلام/ التقدم، فيستطيع غيرهم أن يتبنى ما ذهب إليه ملحد مثل أحمد بن يحيى بن إسحق الراوندي (827ـ 911 ميلادي)، بإنكاره للنبوة، وأن يحيل التقدم إلى العلم التجريبي وحده، انطلاقا من عدم حاجة البشر إلى النبوة، فإذا وافقت العقل فهو يغني عنها، وإن جاءت “بخلاف ما في العقل… فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته… خبرونا عن الرسول كيف يفهم ما لا تفهمه الأمة: فإن قلتم إنه بإلهام، ففهم الأمة أيضا بإلهام؛ وإن قلتم بتوقيف، فليس في العقل توقيف”.

ويمكن للبعض تفسير تقدم الأمم الأوروبية وأشباهها في الشرق الأقصى في ضوء كلام ابن الراوندي، ثم يتساءل: ما الذي منع العالم الإسلامي من أن ينفذ تعاليم دينه وأحكامه إذا كانت ضامنة للتقدم؟ أم أنه يضنّ بها على نفسه، ويؤثر بها الغرب المسيحي والشرق اللاديني؛ لكي يعايرهما بهذه التعاليم؟

تقدم الغرب بعد أن بلغ حدا من الرشد والعقلانية تمكن بهما من تحييد الناطقين باسم الله، وأبعدهم عن التحكم في رقاب العباد ومصائرهم، وآمن بدين بشريّ اسمه القانون، وأصبحت الأمة مصدر السلطات، في قطيعة مع تاريخ دامٍ تحالف فيه ملوك وكهنة احتكروا الله وتأويل كلماته. وفقا لهذه القواعد المؤسسة للدولة الحديثة بدأ عهد جديد من تغليب الصالح العام على صالح الحاكم الخاضع لإرادة الأمة ورقابتها، وتستطيع أن تسحب منه الثقة وتعزله، من دون أن يستند إلى حق إلهي فيقول “لا أنزع قميصا ألبسنيه الله عز وجل”، بإيعاز واضح يلخصه قول عبدالله بن عمر لعثمان بن عفان “لا تخلع قميص الله عنك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه”. ولم يعد الحاكم خليفة، وإنما هو موظف يتقاضى راتبا، لأداء مهمة محدودة بالوقت ومشروطة بالكفاءة.

يصدق دائما قول علي الوردي “لو خيَّروا العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدولة الدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية”. ازدواجية ترضي ميولا دينية فطرية تتناقض مع الطموح الإنساني إلى حياة أكثر عدلا وآدمية ستُهدر في ظل الحكم الديني، ولن تحققها إلا “الدولة” التي لا يصح أن يلحق بها وصف العلمانية، وإنما “نقطة” لتنتهي الجملة؛ فلا توصف الدولة بأنها دينية أو كافرة أو علمانية، فإما “الدولة” وإما الكارثة.

وبتأسيس “الدولة” تنتهي الكهانة الدينية والعسكرية. وكلتا المعضلتين تفسد محاولات الإصلاح، وتجعل المسلمين تعساء في الشرق الواقع تحت حكم ديني صريح أو غير صريح، ويفرّون منه إلى الغرب العلماني. ومن المفارقات أنهم بعد سكْرة النجاة من “ديار الإسلام”، والحصول على جنسية البلد المضيف، يسعون إلى أسلمة دول أمنوا فيها من خوف، وطعِموا من جوع، لتكون شبيهة بعالمهم الإسلامي. ولا أدري إلى أين سيفرّون منه في المرة القادمة؟

أثناء محاولتي توثيق مقولة الإمام عن أوروبا المسلمة بلا مسلمين، عثرت على رأيه في مأزق النهضة الأوروبية القائمة على العقلانية والمادية، في قطيعة مع ماضيها الديني والروحي، فقال “إن هذه المدنية هي مدنية المُلك والسلطان (القوة)، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، حاكمها الأعلى هو الجنيه عند قوم، والليرا عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شيء منذ ذلك”.

لم توضع رؤية الأستاذ الإمام في سياقها التاريخي المأزوم، حيث كان العالم الإسلامي مثقلا بالاستعمار، والغرب في مدّه الاستعماري يستنزف دول الجنوب. كانت محاورة تلك الرؤية ستثبت قدرة الأخلاق الإنسانية على التطور الذاتي، واستلهام المثل العليا من الأديان ومن العقل الذي هو معجزة إلهية. وبدلا من انتقاد رأي الإمام، مدّ سيد قطب الخط إلى آخره، في بداية الطور الأخير من تقلبات ختمها بكتابه “معالم في الطريق”، فقال في كتابه “المستقبل لهذا الدين” إن الغرب مهدد بغلبة الفلسفة المادية، وإن البشرية كلها مسكينة ومنكوبة “بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقية… الإسلام هو -وحده- القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة”.

بحسم هذه القضية يبدأ التصالح مع العالم، وهذا أجدى من سراب حوار الأديان؛ فلا مجال للحوار في العقائد. ويبقى الاتفاق على مشترك إيماني بالله وبالإنسان لا يسمح لأحد بادعاء احتكاره لله، وإذا اعتقد في ذلك فلا يعطيه اعتقاده أي حق إلا في المزيد من الوهم بأنه على الحق المبين. وهْم لا يترجم إلى سلوك، بل يتغذى على نفسه إلى أن يموت.. الوهم والواهم معا.