الأزمات الساخنة..

سيناريو التدويل حل للأزمة السودانية أم عقدة جديدة

الشارع السوداني صامد في محيط مضطرب

محمد أبوالفضل

تتسم الكثير من الأزمات الساخنة بطابعها الدولي، ولا توجد أزمة في المنطقة إلا وعليها بصمات واضحة أو خفية لعدد من الأطراف الخارجية، بما يضاعف من التعقيدات الداخلية ويؤدي إلى صعوبة التوصل إلى حلول محلية صرفة. وتتفاوت درجة التأثير حسب قوة الأوراق التي تمتلكها الجهات الفاعلة، وحجم تجاوب وتباعد القوى المنخرطة في الأزمة.

لم تكن الأزمة السودانية الحالية استثناء في هذه المعادلة. فمنذ اليوم الأول لعزل الرئيس عمر حسن البشير في 11 أبريل الماضي، انصبت أعين الكثير من القوى الخارجية على السودان والمصير الذي ينتظره. ووضعت تصورات وممارسات وانتهازية الخرطوم، في عهد البشير، الدولة في مربع متذبذب بين المحاور السياسية المتلاطمة، ونشطت دوائر عدة لجذب نظام الحكم الجديد، وأبدى المجلس العسكري الانتقالي تجاوبا مع البعض ونفورا من آخرين.

حاول تحالف الحرية والتغيير عدم الكشف مبكرا عن انحيازاته الخارجية لتخفيف حدة الاستقطاب، والتأكيد على الاستقلالية والتباين بينه وبين عصر البشير، ورغبته في نظام يعفي السودان من التقلبات السابقة. ونجا عدد من قيادات الصف الأول في التحالف من الوقوع في فخ الضغوط عندما سعت قطر إلى استمالة عناصر مؤثرة فيه.

بقي حديث الارتباط بقوى إقليمية ودولية محل تقديرات وتكهنات متضاربة من قبل الأوساط المراقبة لتصرفات الطرفين الرئيسيين في الأزمة. وكان يتم استشفافه غالبا من بعض المواقف والتصريحات وما تنطوي عليه من أوجه دعم أو رفض، في محاولة لحرف الأزمة عن مسارها وتفريغها من مكوناتها المحلية، وإضفاء أبعاد تمكن بعض الجهات من توظيفها في تحقيق أغراض مختلفة بالسودان.

جاءت نقطة التحول الرئيسية عقب قيام قوات الدعم السريع، بفض الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع بالخرطوم في 3 يونيو الجاري، ووقوع عشرات الضحايا من المدنيين. في هذه اللحظة توالت بيانات الشجب والرفض والإدانة، وخرجت الأزمة من عقالها المحلي المباشر، ولم تعد قاصرة على طرفيها فقط، أي المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير، وأصبحت مهيأة تماما لتقبل التدويل التقليدي.

تم تشكيل مجموعة دولية لمتابعة الأوضاع في السودان، تضم الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وما يعرف بدول الترويكا الغربية: بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنرويج وكندا والولايات المتحدة. وعقدت المنظومة الدولية اجتماعا، الخميس، لمناقشة التطورات في الخرطوم، ومستمرة في المتابعة.

قام آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، رئيس الدورة الحالية لمنظمة إيغاد التابعة للاتحاد الأفريقي، بعقد اجتماعات في الخرطوم مع طرفي الأزمة، الجمعة، أكدت حصيلتها أن التفاوض دون وساطة خارجية لم يعد ممكنا.

ومرجّح أن ترسم الجولات المقبلة حدود الانغلاق أو الانفراج، بعدما ارتضى الطرفان المحليان، وقوى إقليمية ودولية، الدور السياسي الذي يقوم به آبي أحمد، خاصة أن بلده يستضيف مقر مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقي.

خرجت الأزمة السودانية من عقالها الداخلي، وخسر المجلس العسكري ما كان يمتلكه من قدرة على توجيه دفة الحوار، بحكم قبضته على زمام السلطة وإدارته للكثير من الملفات الأمنية والسياسية، وحصل تحالف الحرية والتغيير على حماية تتجاوز الدعم المعنوي، حيث جرى وضع المنافس تحت سمع وبصر ورقابة جهات دولية، أبدت غضبا من النتيجة التي وصلت إليها عملية فض الاعتصام. وبدأت بعض القوى الإقليمية التي ناصرته في البداية تحتفظ لنفسها بمسافة بعيدا عنه.

بدا التراجع جليّا في موقف الاتحاد الأفريقي عبر التنصل من مهلة الثلاثة أشهر التي منحها للمجلس العسكري، عندما قرر مجلس الأمن والسلم الخميس الماضي تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، وطالب بنقل السلطة سريعا إلى حكومة مدنية، وتلاشى التأثير السياسي للقمة الأفريقية المصغّرة التي عقدت في القاهرة في 23 أبريل الماضي ووقفت وراء تمديد المهلة من 15 يوما إلى 90 يوما، وبالتالي لم يعد توجيه الأزمة لمصلحة طرف بعينه يحتل أولوية كبيرة بعدما أصبح التدويل مكشوفا.

تدويل مستمر

عرفت أزمات السودان التدخلات الخارجية منذ فترة، وظهرت ملامحها في الحرب الشرسة بين القوات الحكومية والجبهة الشعبية لتحرير السودان، وانتهت بإعلان انفصال الجنوب عن الشمال بمباركة واضحة من قبل قوى خارجية متعددة، وتصورت الخرطوم ذات التوجهات الإسلامية أن التضحية بالجنوب مقبولة للاحتفاظ بالسيطرة على ما تبقى من البلاد في الشمال.

ظهرت أيضا المعالم في حرب دارفور، التي قادت إلى صدور قرارات من المحكمة الجنائية الدولية، للبشير ونحو 40 من القيادات العسكرية والسياسية، اُتهموا بارتكاب جرائم حرب ومذابح وانتهاكات إنسانية في الإقليم. ناهيك عن وضع الحوارات التي جرت بين الخرطوم وأحزاب وحركات معارضة في عهدة عواصم مثل أديس أبابا ونيروبي خلال السنوات الماضية، وتحت إشراف منظمة إيغاد.

كان تدويل أزمات السودان في عهد البشير شيئا عاديا، بسبب كثافة المراوغات التي أقدمت عليها الخرطوم آنذاك وعدم ثقة الأطراف المقابلة في وعودها، ما استوجب ضرورة وجود ضامنين ووسطاء، وامتدادات وروابط بين عناصر المعارضة وقوى لها مآرب، علاوة على بحث البعض عن النفوذ أو الرغبة في ممارسة الضغوط لتوجيه الأزمة نحو أهداف محددة.

أخفقت عمليات التدويل المتفرقة التي مر بها السودان في التوصل إلى تسويات مرضية في جميع الأزمات. ولم يفض الانفصال الرضائي الذي حصل عليه جنوب السودان إلى الأمن والاستقرار والسلام. ولا تزال الدولة الوليدة في الجنوب تعيش بقايا حرب أهلية تنتظر طي صفحتها النهائية. وذهب البشير وترك خلفه إرثا مريرا من الاحتقانات في ربوع السودان.

انعدام ممتد للثقة

ما يدور الآن من انعدام ممتد للثقة بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير، من النتائج المهمة التي تركها البشير للسودانيين. وسواء وقعت عملية فض الاعتصام وما أدت إليه من سقوط العشرات من الضحايا أم لم تقع، فإن الحوارات والمناقشات بين الجانبين أثبتت أن الحصيلة عقيمة، والانسداد عميق. فكلما تقدمت عملية المفاوضات جاءتها انتكاسة من هنا أو هناك، وتوقفت ولذلك كانت الفرصة مواتية للعودة إلى سيناريو التدويل.

تكفي نظرة واحدة على ما يجري في سوريا وليبيا واليمن والصومال ومالي وأفريقيا الوسطى وغيرها، لنتأكد أن التدخلات والوساطات الخارجية سمة عامة في النزاعات والتوترات المحلية حاليا، الأمر الذي رهن التسوية بتوازنات القوى الخارجية وليس بمدى التفاهمات الداخلية.

من حسن حظ السودان أن أزمته الراهنة سياسية ولم تدخل بعد نفقا مسلحا، لكن من سوء حظه أن التدويل يكاد يوصف بأنه عادة تاريخية يصعب التخلي عنها في السودان، لأنه بلد يموج بصراعات سياسية وعسكرية لها جذور وروافد خارجية. وهو ثالث دولة من حيث المساحة في أفريقيا، بعد الجزائر والكونغو الديمقراطية، وله موقع جغرافي مميز، وحدود مشتركة مع 8 دول، ويمر به نهر النيل العملاق، ويطل على البحر الأحمر، علاوة على ثرواته الطبيعية.

منحت هذه العوامل السودان مزايا حيوية وجعلته محل اهتمام من قبل جهات ينصب تركيزها على تطوراته الداخلية، لأن لها انعكاسات على مصالح قوى إقليمية ودولية. وفي ظل المشروعات التنموية الواعدة والترتيبات الأمنية المنتظرة في منطقة القرن الأفريقي، يمثل السودان رقما أساسيا فيها، من الصعوبة أن تترك أزمته لتنزلق إلى فوضى وانفلات بصورة يصعب تطويقهما، بما يرخي بظلال سلبية على دول الجوار، ويتحول السودان إلى ساحة جديدة لتصفية الحسابات الإقليمية.

مع أن التدويل الظاهر مقصود منه حل الأزمة وليس الانتصار لطرف معين، لكن تحالف الحرية والتغيير قد يحصد مكاسب أكبر من المجلس العسكري، لأن المعادلة انتقلت من الحل التوافقي بينهما لإدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية إلى تطبيق الحل المدني بلا مواربة، وهو ما يصب في صالح المطالب التي رفعها المعتصمون، وينسجم مع النداءات الخارجية التي لم تنكر أهمية تسليم الحكم إلى سلطة مدنية.

تتوارى المبررات والتفسيرات التي قدمها المجلس العسكري للمشاركة بصفة أساسية في الحكم، وسيكون مضطرا للرجوع إلى الوراء خطوة أو أكثر وتقديم تنازلات والانحناء للعاصفة. لكن، لا يعد هذا انتصارا لتحالف الحرية والتغيير الذي سيجد نفسه أمام اختبار دقيق بشأن مدى القدرة والحنكة لإدارة المرحلة الانتقالية، في ظل حداثة الخبرات، وكثافة المتربصين من أحزاب وحركات وجماعات سودانية، وهل سيجني التحالف فوائد من خطوة التدويل، أم يتسبب التمسك بالتصعيد السياسي في تحول الأزمة إلى مربع أشد غموضا؟

تتولى الإجابة على هذا السؤال النتائج التي ستتمخض عن الجولة الثانية، والتي سيقوم بها آبي أحمد إلى الخرطوم في الأيام المقبلة، لأن الجولة الأولى كانت ذات طابع بروتوكولي، وحرص فيها كل طرف على أن يظهر تفاعله مع الوساطة والقوى التي تقف خلفها أكثر من التجاوب مع بنودها.