تحرير طرابلس..

قصة لقاء مؤجل بين الرئيس الأميركي والمشير خليفة حفتر

الجيش الليبي مصرّ على تحرير طرابلس من الميليشيات

محمد أبوالفضل

كانت هناك ترتيبات من قبل الطاقم المعاون للمشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، ليقوم بزيارة واشنطن، وتم جس نبض حول لقاء مقترح مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو المجموعة الضيقة القريبة منه، والتفاهم مبدئيا على موعد اللقاء في 18 يونيو الجاري. وذهبت شخصيات بارزة إلى الولايات المتحدة لترتيب جدول الزيارة، بعد أن تلقت إشارات مشجعة.

وجدت الفكرة استحسانا من قبل بعض القوى الإقليمية التي تثمن دور الجيش الليبي في مكافحة الإرهاب ووقف سطوة الميليشيات على فايز السراج رئيس حكومة الوفاق، المتعاونة مع جماعات متطرفة ومرتزقة، وتقدم لها دعما لافتا، حتى أضفت ما يشبه الشرعية السياسية على كثير من الأفعال الإجرامية التي ترتكب في طرابلس وغيرها.

اختمر التفكير في الزيارة عقب المكالمة الشهيرة التي أجراها الرئيس ترامب مع حفتر، بعد أيام قليلة من إطلاقه عملية تحرير طرابلس من قبضة الميليشيات المسلحة، ووجدت تأييدا من جانب الأطراف الساعية بجدية لإنهاء الفوضى وتوفير الأمن والاستقرار في ليبيا. ونقطة البدء وقف عملية خطف العصابات المسلحة للقرار السياسي في العاصمة، وتجفيف منابع الإرهاب الذي يتغذى على ما تقدمه حركات متطرفة تقف خلفها دول تتبنى مشروعا لهيمنة التيار الإسلامي على مقدرات المنطقة.

أحدثت المكالمة الهاتفية صداها السياسي الواسع في دوائر متعددة. وعززت موقف الجيش الليبي الذي تحوّل إلى هدف أساسي لدى حكومة السراج والمتعاونين معها في الداخل والخارج، ممن تتضرر مصالحهم من وقف الانفلات العام في البلاد، ويقفون ضد أي محاولة لفرض المؤسسة العسكرية الضبط والربط في ربوعها. كما أن اتصال أعلى مسؤول في الإدارة الأميركية مباشرة بقائد الجيش الليبي مثّل رادعا قويا للدول التي تعارض الدور الذي يلعبه المشير حفتر على الساحة، وتعمل على فرملته بأي وسيلة، وترى فيه عائقا أمام حساباتها الأمنية والسياسية ورغبتها في فتح المجال على مصراعيه لسيطرة تيار الإسلام السياسي.

أخرست المكالمة الهاتفية بعض الأصوات، وخفضت البعض الآخر، وأجبرت آخرين على الالتزام بفضيلة الصمت، لأنها أكدت وجود انسجام في الأهداف التي يسعى إليها قائد الجيش الليبي والدول الإقليمية المؤيدة له، خاصة في بنك مكافحة الإرهاب والقوى المتطرفة، وهي النافذة الواسعة التي تلتقي من خلالها واشنطن مع قيادات كثيرة في المنطقة، علاوة على التفاهمات الضمنية في قضايا أخرى تتعلق بالأمن الإقليمي والمصالح الاقتصادية ووقف زحف ملف الهجرة غير الشرعية.

قطع التواصل بين ترامب وحفتر الطريق على كثير من معالم الاطمئنان التي ظهرت على تصرفات السراج ومعه تركيا وقطر والمبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، وروج هؤلاء لخطاب يشير إلى استحالة وجود علاقات معلنة بين الرجلين. وتناسوا أن قائد الجيش الليبي حظي بشرعية دولية عبر لقاءاته مع كبار المسؤولين في أوروبا وروسيا، والبعض منهم سعى دوما، ولا يزال، إلى استرضائه.

حسم معركة طرابلس

أحدثت تداعيات الاتصال السياسي دويا وسط الكثير من الفرقاء في ليبيا وغيرها، وقلبت الطاولة على فريق السراج، وظهرت معالمها في محطات مختلفة، لا داعي لتكرار الحديث عنها هنا. غير أن الطامة الكبرى وقعت عندما توالت المعلومات حيال ترتيب زيارة حفتر لواشنطن، وهي الضربة القاصمة لظهر الفريق المناهض لدوره. فالذهاب في حد ذاته إلى الولايات المتحدة يمثل هزيمة لمنهج السراج وحلفائه، وعقد لقاءات مع مسؤولين كبار، بينهم ترامب أو قريبين منه، يمثل نهاية لما تبقى من شرعية سياسية لرئيس حكومة الوفاق.

وكشفت بعض المصادر الليبية لـ”العرب”، أن فكرة الزيارة نبعت أصلا من التفوق الملحوظ الذي حققه الجيش الليبي في الشرق والجنوب في مجال مكافحة الإرهاب، واقترابه من حسم المعركة في طرابلس، ونبعت من الإشارات والتلميحات المطمئنة التي تلقاها حفتر من دوائر أميركية نافذة، وتعززت باتصالات أجرتها جهات على يقين أن حفتر الرجل القوي الآن في ليبيا، ويستحق المزيد من الدعم من الرئيس ترامب، الذي يفضل التعاون مع قيادات قوية وتملك خطابا واضحا ضد المتطرفين.

تدفقت في هذا النهر مياه سياسية كثيرة، سهّلت المضي قدما في فكرة الزيارة، التي خطط لها أن تكون في 18 يونيو، وهو التوقيت المناسب لإنهاء عملية تحرير طرابلس من الكتائب المسلحة، بعد نحو 75 يوما من بدايتها، بالتالي تصبح البيئة مهيأة ليجري حفتر لقاءات في واشنطن، باعتباره الزعيم الذي نجح في إنهاء أخطر مرحلة في تاريخ ليبيا الحديث، لأنه سيكون استعاد الأمن والاستقرار، وقضى على تضخم التحالف بين جماعة الإخوان المسلمين والعصابات المسلحة.

ظهرت عراقيل أرخت بظلال سلبية على هذا الهدف، منها تكاتف فريق السراج والحركات المؤدلجة والقوى الداعمة لهما على تعطيل عملية تحرير طرابلس، لأن نجاحها السريع يعني القضاء على طموحها في تمكين التيار الإسلامي من حكم ليبيا. وجاءت تطورات الأحداث في كل من الجزائر والسودان في غير صالح هذا التيار أيضا، ما وضع مصير أصحابه والدول المؤيدة له في مهب الريح.

فكرة الزيارة نبعت من التفوق الملحوظ الذي حققه الجيش في الشرق والجنوب في مجال مكافحة الإرهاب، واقترابه من حسم المعركة في طرابلس

تعامل هؤلاء مع معركة طرابلس على أنها حياة أو موت، واتخذوا من أجلها إجراءات أمنية وسياسية عدة ليبدو الجيش الليبي مكشوفا أو غير قادر على تنظيفها من المتطرفين والإرهابيين، وتتراجع عن دعمه القوى التي وجدت في حفتر قائدا مهما، أو على الأقل تتريث وتصبح حذرة في انخراطها معه في أي أطر للتعاون المشترك.

لذلك وصلت إسعافات أولية من المعدات والأسلحة إلى موانئ في ليبيا، قادمة من تركيا أو دول أخرى، وتقف خلفها أيضا أنقرة والدوحة وأحيانا طهران، في محاولة لتغيير موازين القوى لصالح الميليشيات، لكنها لم تتمكن من ذلك، وكانت ضربات الجيش الليبي قوية ومنظمة ومحددة، قضت على القوة المؤثرة عند العصابات المسلحة، وكبدتها خسائر فادحة في أرواح عدد من قادتها.

والأخطر أن الضربات المتقنة قضت على الجزء الرئيسي من الذخيرة والأسلحة والمركبات، وأنهت (تقريبا) عمليات التجنيد الإجباري للشباب الليبي، ما جعل الهيكل الرئيسي للميليشيات يصبح منهارا الآن، ولا يعلم من تحالفوا معهم بأي وسيلة يستطيعون إعادة التماسك، وتفتق ذهنهم عن زيادة وتيرة الصياح والضجيج السياسي حول قائد الجيش الليبي، وعقد سلسلة من الاجتماعات في منطقة الحمامات، برعاية البعثة الأممية كدليل على التكاتف، وهز الثقة في الفريق المقابل.

أوضحت مصادر مطلعة لـ”العرب” أن السبب الرئيسي في تأخير حسم معركة طرابلس يرجع إلى الحسابات الدقيقة التي يتبعها الجيش الليبي في عملية التحرير، فهو يسيطر على جزء كبير من مداخل العاصمة، ويتعمد البعد عن اقتحام المناطق المكتظة بالسكان خوفا من وقوع خسائر في المواطنين، الذين تحولوا إلى دروع بشرية للمتطرفين.

وقالت المصادر، من الطبيعي أن يتأخر الحسم، فالمشير حفتر يعمل لدخول طرابلس بأقل قدر من الخسائر في الأرواح، ويدرك أن الطرف الآخر يريد المتاجرة بهذه المسألة، حال حدوثها، لتصعيد الموقف دوليا وجره إلى زوايا إنسانية، والتشكيك في القوات المسلحة الليبية كي ينفض عنها المواطنون الذين أقبلوا على تأييدها، وابتعدوا عن فريق السراج، وحلموا بالتخلص من قبضة الميليشيات.

حيل إعلامية وسياسية

أكدت المصادر لـ”العرب”، أن تأخير حسم معركة طرابلس من المنطقي أن يفرض تأجيل زيارة حفتر لواشنطن الشهر الجاري. الأمر الذي تلقفه فريق السراج والقوى المؤيدة له، خاصة تركيا وقطر وإيطاليا، من خلال حيلة إعلامية خبيثة، بدأت بحديث إيجابي متناثر عن الزيارة لتثبيتها، ومحاولة تضخيم الاهتمام بها، وعندما يأتي الموعد المحدد من دون إتمامها تبدو المسألة كأن الإدارة الأميركية رفضت الزيارة.

تم العزف على هذا الوتر مؤخرا لإجهاض المكاسب السياسية التي حصدها المشير حفتر من وراء الاتصال الهاتفي الذي أجراه ترامب معه، وتعاد الكرة مرة أخرى إلى ملعب السراج وحلفائه، ويأتي الدور على التهم الإعلامية لتصوير المشهد برمته على أنه إخفاق استراتيجي لقائد المؤسسة العسكرية الليبية، بذريعة أن واشنطن رفضت الزيارة والاستقبال.

لم يكتف السراج بذلك، بل أرسل نائبه أحمد معيتيق إلى واشنطن، وتم دفع مبالغ مالية باهظة لشركات علاقات عامة لترتيب مقابلات مع مسؤولين هناك، ولم يتمكن من لقاء سوى ثمانية أعضاء في الكونغرس (2 جمهوريين و6 ديمقراطيين وكلهم معروفون بموقفهم المؤيد لجماعة الإخوان)، وهم نفس الأشخاص الذين التقاهم عصام عميش القيادي بجماعة الإخوان والمقيم في الولايات المتحدة، وشقيق محمد عميش مستشار السراج، في جلسة جانبية مؤخرا حول معركة طرابلس عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس.

هدفت زيارة معيتيق لخلق انطباعات توحي بتغير كبير في موقف الرئيس ترامب، بفعل تحركاتها، بالتالي منح الدول التي تتلكأ في دعم السراج دفعة سياسية لاستئناف التجاوب معه، وتحصل الكتائب المسلحة على شحنة معنوية تجعلها تعيد القتال بشراسة، على اعتبار أنه تم نزع الغطاء الأميركي الجديد عن حفتر.

تتفهم الدول الداعمة لحفتر هذه الألاعيب، وتستند إلى عدم وجود تصريح رسمي من قبلها أو من جانب الجيش الليبي أو الإدارة الأميركية يؤكد علنا حدوث الزيارة، ويعمل هؤلاء في صمت لمعرفة المخطط حتى نهايته، لأن الفكرة تم تأجيلها لأسباب موضوعية تتعلق بتطورات المعارك في طرابلس.

يستغل فريق السراج هذه الفسحة من الوقت لبث رسائل قاتمة، لأنه أصبح مفتقرا للمؤشرات الإيجابية، وغالبية القوى التي تقف معه يتملكها خوف من المصير الغامض الذي ينتظرها بعد تحرير طرابلس، وتعمل على تأجيلها بشتى السبل أملا في توافر معطيات تمنحهم قدرا من الزخم، وتمكنهم من أن يكونوا طرفا على الطاولة عند إطلاق العملية السياسية الجديدة.