الأزمة في السودان..

مصر تسير على حبال مشدودة في تعاملها مع الملف السوداني

شبكة مصالح متشابكة تضبط بوصلة التعاطي المصري مع الوضع في السودان

محمد أبوالفضل

لن يتوقف الحديث في مصر عن السودان كبلد عربي وأفريقي مهم لمصالحها. ولن يتوقف اهتمام السودانيين بمصر للسبب نفسه. وعلى وقع اندلاع الأزمة الأخيرة في الخرطوم تجاوز البعض حقائق السياسة والأمن والجغرافيا والتاريخ، وانجرفوا وراء اتهامات وتكهنات لا يمتلكون عليها دليلا موثقا، سوى غمزات ولمزات حول تدخلات مصرية في الشؤون السودانية.

تؤكد التصريحات والبيانات الرسمية الحرص البالغ على استقرار السودان، وأن شعبه وحده هو من يقرر مصيره، وما إلى ذلك من عبارات لا تشير من قريب أو بعيد إلى دور سلبي للقاهرة في الأزمة، وآخر شيء تريده مصر هو ظهور “ليبيا أخرى” بالقرب من حدودها الجنوبية، كما قال تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية مؤخرا. الأمر الذي ينسجم مع الأحداث والتطورات التي سبقت عزل الرئيس السوداني عمر حسن البشير، والتي لم تجعل القاهرة تتخذ أي إجراءات قاسية معه.

ووسط تباعد وجهات النظر في بعض القضايا والخلافات التي نشبت لم يتم ضبط موقف مصري رسمي يؤكد أن هناك تحركا مناهضا أو استهدافا لحكمه، على الرغم من التجاوزات والأخطاء التي ارتكبها على مدار ثلاثين عاما وأزعجت القاهرة كثيرا، وكادت تؤدي إلى صدام سياسي غير مسبوق، وبالعكس جرى تحمله لأقصى درجة والتأقلم معه مع أن توجهاته كانت تمضي أحيانا في غير صالحها.

ذكرني ترديد بعض الإخوة في السودان لخطاب يوحي بتدخلات مصرية سافرة في شؤونهم قبل أيام، بمقابلة أجريت معي في إحدى القنوات الفضائية العربية العام الماضي. سألني مقدم البرنامج عن مغزى التصعيد الحاصل في الإعلام المصري حيال السودان، قلت له أين هو بالضبط اذكر لي موقفا رسميا؟

استشهد الرجل بمقالة واحدة وبضع كلمات هامشية وردت على لسان مذيع في قناة خاصة تنتقد موقف الخرطوم من ملف مياه النيل وحديث متواتر عن دعم جماعات إرهابية وإسلامية متشددة.

طلبت من المذيع أن يأتي بتصريح أو بيان أو موقف للحكومة المصرية أو شخص محسوب عليها فلم يستطع، لأنه لا يوجد بالفعل، بينما عددت له مجموعة من أسماء كبار الشخصيات في السودان، بدءا من رئيس الجمهورية وحتى رئيس جهاز الأمن والمخابرات وأعضاء في الحزب الحاكم والبرلمان آنذاك.

قصدت من هذه الرواية التدليل عمليا على حرص القاهرة على عدم الانفعال في التعامل مع الخرطوم، والتمسك بضبط النفس لأبعد مدى، لأن الأمور ستعود إلى طبيعتها سريعا بحكم شبكة المصالح المتشابكة.

وإذا حدثت تجاوزات فإنها تأتي غالبا من أطراف رسمية وغير رسمية في السودان، ويتعمد البعض النفخ فيها لتوتير العلاقة بين البلدين، بما يصبّ في مصلحة دوائر لا ترتاح للتوافق في العلاقات المشتركة، وهو ما بدأت ملامحه تتكشف تدريجيا.

عادت النغمة التقليدية لمجرد قيام الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي بزيارة للقاهرة، مع أن الرجل قام بزيارات مماثلة لكل من الإمارات والسعودية وإثيوبيا وجنوب السودان وإريتريا.

شاركت دول عديدة من داخل المنطقة وخارجها في أزمات السودان، بالوساطة السلمية أو بدعم أطراف بعينها، لكن القاهرة امتنعت عن القيام بأي منهما، وعندما استقبلت الكثير من قيادات المعارضة على مدار العقود الماضية لم يثبت أنها قامت بتوظيفهم للقيام بأعمال ضد نظام البشير.

ربما يكون هناك انحياز مصري تلقائي لدور المؤسسات العسكرية في ضبط الأمن والاستقرار في الدول العربية، عقب تدهور الأوضاع في الدول التي فقدت جيوشها، لكن في حالة السودان لم يظهر ما يدعم انعكاس هذا الانحياز بوضوح على القوى الوطنية الأخرى، وكان هناك وعي بكثير من الملابسات التي وضعت العلاقات بين القاهرة والخرطوم في مربع دائم من الحساسية المفرطة.

لذلك السبب لن يكون من المفيد تقدم مصر للقيام بدور الوساطة بين المجلس العسكري وتحالف إعلان الحرية والتغيير، والأفضل ترك الأمر لعهدة آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، بحكم رئاسته للدورة الحالية لمنظمة إيغاد التي تعمل بالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي الذي ترأس مصر دورته الراهنة.

في ظل الانطباعات المسبقة من الصعوبة أن يتم القبول بدور مؤثر للقاهرة في تسوية الأزمة السودانية، والمحكومة بتوازنات داخلية وخارجية معقدة، وتم الاكتفاء بتوفير الدعم السياسي للتغيير من دون تأييد ظاهر لأحد.

مع ذلك استغل البعض عدم قيام مصر بوساطة لتوجيه اللوم لها، حتى تنامي الحديث وحشر مسألة فقدانها ريادتها الإقليمية، ولو أبدت استعدادا للوساطة بين الأطراف السودانية أو تدخلت فعلا لكان اللوم مضاعفا، واتهمت بأنها لا تريد استقرارا في الخرطوم.

يواجه الدور الذي تقوم به أديس أبابا لتقريب المسافات بين الجانبين تحديات كبيرة، لكن أمامه فرصة جيدة للنجاح، بحكم الدعم الذي يجده من دوائر إقليمية ودولية عديدة. كما أن الأزمة تخطت تقريبا أبعادها المحلية، وأصبح شبح التدويل يخيّم عليها، ما يعني أن أي طرف يتبرع بالوساطة أو يتصدى لها سوف تكون تحركاته محفوفة بشكوك سياسية، وهي آفة سودانية ربما لن يسلم منها آبي أحمد، فما بالنا بمصر المسكونة علاقاتها بالسودان برزمة من الهواجس التاريخية.

تبدو الأزمة منفتحة على خيارات متناقضة مع زيادة عدد القوى المتربصة بالسودان وتريد له أن يظل قابعا في تجاذباته الداخلية. كما أن كثافة الأطراف الطامعة في السلطة تتجاوز الجهات المعلنة. ولا يزال الأمل يراود بقايا البشير في العودة إليها، من خلال زيادة معدل الشغب والتوترات والفوضى والانفلات. وهو ما يضاعف من صعوبة مهمة أي طرف يسعى إلى الوساطة والسلام.

تواتر حديث آخر الأيام الماضية حول عدم رغبة السودانيين، وكذلك الجزائريين، في تكرار النموذج المصري بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين عام 2013، وبلا مواربة قصد هؤلاء المهام الواسعة التي تقوم بها المؤسسة العسكرية في مصر.

قد تكون نوايا البعض حسنة، لكن الواقع المرير في البلدين يمكن أن يحول دون التوصل إلى صيغة مشابهة للتجربة المصرية، لأن الهواجس الدفينة حصرت الأمن القومي للدولة في الدرجة المتاحة من الحريات فقط، والتي لا ينكرها أحد، وعدم مراعاة حجم التحديات في المنطقة التي تموج بعواصف ترمي إلى إيجاد واقع جديد وترتيبات تسعى لهدم فكرة الدولة المتماسكة وتشجيع القوى المتطرفة على الهيمنة.

إذا قورنت التكلفة التي من المحتمل أن تصل إليها الأزمة في كل من السودان في ظل الرفض المطلق لدور الجيش سنجدها تتجاوز الضريبة التي يدفعها المصريون من حرياتهم لحساب أمنهم واستقرارهم، وسط المصاعب الداخلية والخارجية والمشاكل المتراكمة التي يجابهها السودان، وهو ما جعل مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية يحذر من تحوله إلى صومال أو ليبيا أخرى.

أدى الانسداد الحاصل في الأفق السياسي إلى ارتفاع مستوى المخاوف على السودان، بما جعلها تتحكم في عدم الانفتاح الكافي من جانب القوى المدنية على المؤسسة العسكرية بصورة أفضت إلى عقم الحلول المقترحة.

ربما يكون الطامحون إلى حكومة مدنية فورا لديهم أمنيات جادة بنقلة سياسية حقيقية عقب فترة طويلة من المعاناة مع الحكومات العسكرية، غير أن الأجواء الراهنة تحتم أيضا عدم النيل من الجيش تحت شعارات براقة تدغدغ المشاعر ولا تجلب الاستقرار. فلن يفيد هؤلاء عزله تماما وإبعاده عن بعض الملفات الحيوية. لذلك فالأمر يستلزم التوافق بعيدا عن التجارب والإسقاطات على التجربة المصرية.

من حق الشعب السوداني اختيار النظام الذي يرتضيه. فلا مشاركة المجلس العسكري في هذه الظروف تتحول إلى شر مطلق، ولا تنحيته ستصبح خيرا مطلقا، لأن التكامل بينه وبين قوى المعارضة الرشيدة المدخل المناسب لتصحيح مجموعة من الأخطاء بما يُخرج السودان من دوامة الهواجس المتبادلة بين الحكم العسكري والمدني. وهي المتلازمة التي ستستمر فترة طويلة لحين الخروج منها، بصرف النظر عن حجم الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في مصر وتأثيراتها على دول الجوار.