لـ (الكاتبة المصرية ضحى عاصي)..

"104 القاهرة" ترصد تفتت فضاء المدينة

بنية سردية خاصة بالرواية

أحمد رجب

"104  القاهرة” عنوان غريب تتخذه الكاتبة المصرية ضحى عاصي عنوانا لأحدث أعمالها (بيت الياسمين، القاهرة). ولا تزول الغرابة إلا مع الفصل الأخير حيث نعرف أن العنوان هو رقم سيارة لنقل الموتى، تراها في الحلم "انشراح عويضة”.


لم يكن الحلم خرافة، بالفعل تموت البطلة، وتحملها إلى القبر نفس السيارة التي حلمت بها، وتبدأ الرواية بسرادق العزاء المقام بعمر مكرم، وفيه يجلس الأسطى حسن زوج المتوفاة مذهولا، لدرجة أنه يشك في أن العزاء يخص انشراح أخرى، بينما المتوفاة تزيل الالتباس وتؤكد على أن المأتم يخصها، وأن الموت حررها من الخوف، ثم تتذكر لحظة احتضار جدتها نرجس وبدء علاقتها بالموت وبالهاتف الليلي الذي يحدثها عن "فيريل" التي ستصبح مصدر قوتها في الحياة، وقتها كانت في الخامسة عشرة، ثم تنسحب تاركة الراوي يكمل مهمته مع تأكيدها بأنها قد تضطر أحيانا إلى أن تتدخل وتحكي عن نفسها ما لا يعلمه عنها غيرها، وهذا ما يحدث فعلا إذ تتكرر عبر البنية الدائرية للسرد تدخلاتها، خصوصا عبر قراءة غادة لكراسات المذكرات.


يعود السارد العليم إلى القاهرة أواخر الخمسينيات حيث لم يعد هناك ملك ولا إنجليز ولا طرابيش، فثورة يوليو قامت وعمرها أربعون يوما، وتزامنت مع دخول أبيها السجن، فلا تستطيع انشراح إكمال تعليمها، وتجد وسيلة للتعويض فيما يمتلك حبيبها إبراهيم، من كتب فتعرف لوركا والرومي وغيرهما، وتصر على أن تصحبه إلى الجامعة طيلة سنوات الدراسة الأربعة، لتحقق حلما مجهضا، ولتكتسب معرفة ووعيا تبرر بهما الرواية إتيان انشراح لأقوال وأفعال يستحيل أن تصدر عن امرأة  شبه جاهلة. وأيضا لتجد ذكريات تعينها تحمل غياب إبراهيم الذي سافر في بعثة إلى فرنسا، لتقضي اثني عشر عاما في انتظاره  قبل أن تتزوج من ابن شقيقته حسن.

الرواية ترصد تفتت عوالم المدينة التي تشهد أفولها، وتستشرف تحول العلاقات بين الفضاءات المتجاورة بما ينذر بنشوب صراع قد يزيد من اتساع الشروخ التي تنسرب منها أرواح اولئك المتمتعين بقوة الرأفة

دوائر سردية


سواء كان زمام السرد بيد راو عليم أم بيد انشراح، فإن الحكايات تتوالي بفعل التداعي الحر، والاسترجاعات التي تستعيد كل الشخوص الذين مروا بحياة انشراح، وهو ما يشكل البنية السردية الخاصة بالرواية، فثمة دائرة كبرى تبدأ بالسرادق في الفصل الأول وتنتهي به في الفصل الأخير، وبينهما دائرة أصغر نسبيا يسترجع كل فصل فيها جزءا من سيرة انشراح، هذه الدائرة  بدورها تضم دوائر أصغر لعدد من المقربين لانشراح، كأسرة كاترين اليونانية، أو أسرة بيبريان الأرمني التي كانت بمثابة أسرة ثانية لها افتقدتها بعد أن هاجروا إلى أميركا، فحرمت انشراح من شوارع القاهرة الراقية النظيفة لتصحب جدتها نرجس إلى الموالد. ولتجد نفسها مضطرة إلى ملازمتها دائما، فتعطيها العهد قبل أن تموت، وترث عنها عملها كبصّارة، تقرأ الفنجان لمعرفة الطالع وتفك السحر.  


وتفضي الدوائر بعضها إلى بعض وتتماس أو تتداخل بالدائرة الكبرى التي تشكل متن الرواية التي ترسم عبر حركة شخوصها في المكان لوحة متشابكة للقاهرة عبر ستة عقود، فتصبح الرواية سردا لسيرة انشراح والدائرين في فلكها من شخوص مثل الأسطى حسن كلشنكان أو شقيقها سيد وزوجته وغيرهم، وهي السيرة التي تنعكس عليها المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها القاهرة منذ مولد انشراح في منتصف 1952، وحتى رحيلها بعد انتخابات 2010.


فيريل وسوماتي


خروج انشراح من الكلحة إلى شوارع واسعة نظيفة ارتبط بدخولها إلى بيت العم بيبيريان الأرمني فتعلمت من أسرته الكثير، وهو الأمر الذي تكرر مع أسرة كاترين الخياطة اليونانية، هاتين الأسرتين أكسبتا شخصية انشراح بعدا كوزموبوليتانيا زاد من خبراتها وعمق من شخصيتها، على العكس من مادلين الأوروبية التي تؤمن بالخرافات مثل جدتها نرجس، لكن مادلين تقنعها أن تلك المعتقدات ليست خرافات، وإنما هي عادات سليمة، تفسرها علوم الطاقة،  ويتكفل الحلم بتأكيد ما تأتيه انشراح من خوارق، كما يفسرها أيضا، فالهاتف المتكرر أو الزائر الليلي يمنحها قدرات خارقة، ويحدثها عن فيريل التي تعني الطاقة الكونية الهائلة التى تشع من بعض الكائنات، ومن يملكها يصبح أهلاً لسيادة جسده والناس والعالم من حوله، كما يشرح لها أن هذه القوى هي طاقة كونية يملكها محبو الخير الذين تتملكهم روح سوماتي المكلفة بإنقاذ العالم من الدمار.

هكذا تسعى الرواية لتفسير أو عقلنة الجانب الغرائبي في شخصية انشراح، كما تسعى أيضا إلى إقناع من يتشكك في صدور أفعال خارقة وأقوال حكيمة عن امرأة شبه جاهلة، فتكتب على لسان انشراح في مذكراتها "قرأت مرة أن الإنسان يحتفظ في ذاكرته بخبرات الأجيال السابقة والتي تنتقل إليه كعوامل وراثية، ربما يكون هذا مصدر المعرفة".
تنقلت انشراح بين بيوت كثيرة في أنحاء القاهرة، عملت في أغلبها خادمة، كانت مسلحة بقوة الرأفة التي جعلت من شقتها الضيقة بالكلحة ملجأ لصديقاتها في أزماتهن، فأقمن عندها لبعض الوقت، منهن غادة التي ترفض حب وملايين عادل هيدرا الرأسمالي الذي يبني الكمبوندات في القطامية هايتس غير بعيد عن الكلحة، يبدو المنتجع رغم اتساعه فضاء مغلقا تضيق فيه نفس غادة، أما الفضاءات الأخرى فهي ليست كذلك فهي منفتحة على بعضها البعض، مكتفية بذاتها، هذا ما تنقله لنا دون عمد انشراح التي تستكشف المدينة عبر حركتها فيها، راصدة حكاياتها وتحولاتها وتشوهاتها.


تتداخل الأحداث وأزمنة وقوعها، وتتردد البنية الزمنية بين ماض وحاضر، ولا تشير إلى زمن محدد إلا نادرا كقولها عن يوم اغتيال السادات: "ضربوا نار على الريس"، وهي بما تمتلك من فيريل وسوماتي استطاعت أن تتعايش مع الجميع، وأن تتفاعل معهم على العكس من ليلى زوجة شقيقها سيد، التي غادرت الكلحة لتسكن في فيلا  بالمعادي فتشعر بغربة وهو نفس الشعور الذي يلازمها حينما تسكن بيتا امتلكه سيد في المهندسين، هذه التنقلات تشير من جانب إلى الصعود طبقيا الذي حققه سيد وزوجته وأشباههم معتمدين على ما جنوا من أموال مشبوهة المصدر. فالمال وحده وأيا ما كانت وسيلته كان هدفا وكان وسيلة للترقي لكل الذين حضروا سرادق العزاء، ورغم كل ما بينهم من تناقضات إلا أن السرادق جمع بينهم ليبدو وكأنه سفينة فضاء جاهزة لتنقلهم بعيدا عن عالم قديم تمثله انشراح، إلى القطامية هايتس وما يماثلها من منتجعات تحاصر القاهرة القديمة التي توقف تمددها، فهم احتكروا المال والسلطة والمنتسبين لهم من شخصيات الرواية مثل بيسة أخت انشراح التي تزوجت الإخواني وأصبحت الحاجة أم عبدالرحمن، وطارق بن سيد وليلى أصبحا نائبين في البرلمان، وهكذا ترصد الرواية تفتت عوالم المدينة التي تشهد أفولها، وتستشرف تحول العلاقات بين الفضاءات المتجاورة بما ينذر بنشوب صراع قد يزيد من اتساع الشروخ التي تنسرب منها أرواح اولئك المتمتعين بقوة الرأفة.

(وكالة الصحافة العربية).