بعد بروز ملامح الاستقرار..

تقرير: من يريد أن يفجر الوضع في القرن الأفريقي؟

الفوضى الأمنية تعتبر فرصة لبعض الأطراف

محمد أبوالفضل

كلما تقدمت الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي وقطعت الجهود الرامية لتوفير الهدوء والاستقرار والتنمية شوطا إيجابيا، وجدت من يعملون على عرقلتها، وكأن هناك قوى خفية داخلية وخارجية تقاومها وتلعب لعبة سياسية سيئة، ولا تريد طي الصفحة القاتمة التي تموج بها دول المنطقة منذ فترة طويلة.

هل صدفة يتعثر السلام في جنوب السودان بعد تذليل العقبات الرئيسية أمام اتفاق مُلزم بين الرئيس سلفا كير وغريمه رياك مشار؟ وهل مطلوب أن يظل السودان على حاله من الارتباك والاضطراب بعد عزل الرئيس عمر حسن البشير؟ ولماذا يدير الرئيس الصومالي محمد عبدالله فرماجو ظهره لترتيبات التعاون الإقليمي بعد أن تجاوب معها في البداية؟ وهل من المنطقي أن يواجه رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد محاولة اغتيال وانقلابين عسكريين عليه خلال حوالي العام من اختياره رئيسا للحكومة؟
هناك إجابات متنوعة على الأسئلة الكبيرة تشير إلى أن ما تشهده منطقة القرن الأفريقي من تطورات سلبية تقف خلفها جهات تعمل على بقائها في الشرنقة السياسية والعسكرية الضيقة التي تعيش داخلها، ومكنت البعض من التعامل معها بما يساعد على تحقيق مكاسب متعددة، لذلك ينزعج هؤلاء من كل تحولات تهدف إلى تغيير المنظومة القلقة، فمنها تتسرب بعض المخططات، وإليها تنفذ بعض القوى للتحكم في مفاصلها الحيوية.
حققت بعض القوى منافع متباينة من وراء التدهور الحاصل في الصومال وتقسيم أقاليمه، وتشتت جيبوتي بين ولاءات إقليمية ودولية جعلتها من أكبر الدول التي تستضيف قواعد عسكرية، وارتباك التوجهات الإريترية والميل نحو تمتين العداوات مع دول مجاورة لها، ودخول جنوب السودان الفوضى بعد فترة وجيزة من الحصول على الاستقلال، وتناقض تصورات القيادة السودانية السابقة التي جنى البعض منها أرباحا عدة، فضلا عن انهماك إثيوبيا في حل خلافاتها بين القوميات وتعثر خطواتها السياسية مع بعض دول الجوار، بشكل وضع قيودا على طموحاتها.
تصفير الأزمات
مثّل صعود آبي أحمد قبل أكثر من عام لحظة مناسبة لتغليب فكرة تصفير الأزمات الإقليمية وبدء صفحة تعتمد على التعاون على قاعدة المصالح المتبادلة، وانفتح الرجل على مصر وأبدى استعدادا للتفاهم حول الملفات الخلافية معها، وسعى حثيثا لطي الأزمة التاريخية مع إريتريا ووقع اتفاقا للسلام يتجاوز العقد والملابسات القديمة، واتجه نحو ترويج أفكار إصلاحية مصحوبة بخطوات عملية مع دول المنطقة.
تؤكد هذه المعطيات أن العنصر المشترك بينها جميعا هو آبي أحمد ونموذجه الجديد، فمع صعوده بدأت النظرة للمشكلات المزمنة تتغير، وتشهد دول في المنطقة انفراجا في آليات تسوية الأزمات، بصورة تتجاوز الحدود النمطية وتخرجها من خانة المعادلة الصفرية التي تقوم على أساس مكاسب طرف خسارة للآخر، والعكس صحيح، وتلجأ إلى المعادلة الجديدة التي تسود غالبية التفاعلات الدولية وتنطلق من إمكانية تحقيق أعلى استفادة جماعية.
ويبدو أن الجهات الإقليمية والدولية التي راهنت على المشروعات التنموية المشتركة كأداة أو مدخل لتسوية الصراعات والنزاعات كانت متفائلة أكثر من اللازم، وعليها أولا السعي لتغيير طريقة التفكير لدى بعض القيادات، فلا يكفي أن يكون آبي أحمد مسؤولا إصلاحيا وحيدا في منطقة تعوم على بحر من الأزمات التقليدية، حتى لو كان توجهه نابعا من ظروف داخلية، فمن الضروري وجود شخصيات على المستوى نفسه كي تكتمل سلسلة التفاعلات في المنطقة.
يبدو أن الجهات الدولية التي راهنت على المشروعات التنموية كأداة أو مدخل لتسوية الصراعات والنزاعات كانت متفائلة أكثر من اللازم
وتملكت بعض العارفين بتطورات الوضاع الداخلية في دول القرن الأفريقي هواجس كبيرة حيال حدوث تغيرات واسعة ومتسارعة في منطقة مسكونة بالتوترات المتشابكة، بما أوجد طبقات كثيرة تتغذى عليها، من مصلحتها عدم مبارحتها، لذلك كانت خطوات آبي أحمد محفوفة بالمخاطر لبدء نموذجه الإصلاحي، حيث يتم بالتوازي بين تحركاته على صعيدي الداخل والخارج، فإذا تعرض إلى مكروه على أي من الصعيدين أو كلاهما يواجه المشروع كله عثرات تحد من فرص تطبيقه وتعميمه.
وتشير النتائج التي وصلت إليها تحركات الرجل إلى شيء من هذا القبيل. فعندما بدت الوساطة الإثيوبية، المدعومة أفريقيا ودوليا، تؤتي ثمارها في الأزمة السودانية تعرضت إلى مطبات عديدة، بدأت بالتشويش عليها من خلال إطلاق مبادرات موازية، وجس النبض حول وساطات جديدة، من قبل دول مثل جنوب السودان ونيجيريا وجامعة الدول العربية، وما خفي من وساطات محلية كان أعظم، لأن بعض الدوائر السودانية وجدت فيها ملاذا للتنصل من بعض الالتزامات والاستفادة من عنصر الوقت، لكن في النهاية زادت التحديات أمام أديس أبابا.
وتفضي هذه التصورات إلى القول بعدم رغبة البعض في صعود نجم آبي أحمد إقليميا، ونجاحه في السودان ربما يتحول إلى مقدمة لنجاحات أخرى في المنطقة، وظهر خيار عرقلة وساطته كحل لخفض سقف الطموحات، اتساقا مع قاعدة شهيرة تتبناها دول في المنطقة مفادها “إذا لم تستطع التأثير والقبض على زمام الأمور، فلا تدع
غيرك يفوز″، ما يعني التشجيع على التخريب، وهي آفة حالت دون حل مشكلات كثيرة.
اضطرا متعمد
ربما لم تفلح عملية ضرب الوساطة الإثيوبية في مقتل، فلا تزال تجد من يدافعون عنها ووصل السفير محمود دردير رئيس وفد الوساطة الخرطوم الخميس، لكن من الصعوبة أن
تحقق نتائج ملموسة في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة التطورات الساخنة في الداخل.
وبالطبع لا يوجد رابط مباشر بين دور أديس أبابا في حل أزمة السودان وبين محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في ولاية أمهرة قبل أيام، لكن الحصيلة التي سيصل إليها المتابع تحد من التفاؤل تلقائيا بنجاح الوساطة، إذا لم يستطع آبي أحمد أن يقلص من التحديات الداخلية ويحتوي تكرار التوترات، لأنها تفرض عليه استحقاقات أولى من أي دور قد يقوم به على مستوى الأزمة السودانية أو غيرها، وسوف تظل واحدة من المنغصات التي تصطدم بمحاولات التدخل لتسوية أي مشكلة على الصعيد الإقليمي وتؤثر على مصداقيتها.
وتموج إثيوبيا بأزمات عرقية واقتصادية ويحتاج توفير حلول عملية لها وقتا طويلا، ولم تنكر الحكومة ذلك، وتسعى إلى تخفيف حدة الاحتقانات وإيجاد حلول عاجلة للأزمات المتفاقمة، لأن المشروعات التنموية التي تتطلع إلى تدشينها لن تقوم لها قائمة في ظل بيئة داخلية حافلة بالتوترات. وهي الحلقة الضعيفة في كل تحركات آبي أحمد، ولن يجد لها حلا سريعا، فجذورها الاجتماعية معقدة وممتدة بما يؤثر على التصورات السياسية.
من هنا يشتم بعض المراقبين رائحة خبيثة تربط بين مشروع آبي الإصلاحي وتفجير بعض الصراعات في إثيوبيا حاليا، مستفيدة من بعض الأخطاء الداخلية التي تصب في صالح قومية من القوميات الثلاث الكبرى (الأورومو والأمهرة والتيغراي) وتعزف على أوتارها بغرض إثارة نعرات إقليمية وعدم مبارحة إثيوبيا للخندق الطائفي الجاذب لنشر المزيد من المشكلات.
لذلك لن تكون محاولة الانقلاب في أمهرة وأدت لمصرع حاكمها ورئيس الأركان الأخيرة، في ظل أجواء تتزايد فيها ملامح الاضطراب متعمد، ناهيك عن مكونات تاريخية ومتجذرة، باعتبارها النقطة التي يمكن أن تلقي برياح عاصفة على البلاد، وتحجيم عملية تجاوز هذا الإرث الذي يقف عقبة كأداء أمام تقدم إثيوبيا.