صعاليك الحياة والأدب..

كيف يختلف صعاليك العصر الحديث عن صعاليك العرب

جان دمو من أشهر صعاليك الشعر الحديث

وارد بدر السالم

لا يختلف الباحثون كثيرا في معنى الصعلكة؛ باعتباره مفهوما اجتماعيا وشعريا. ولا يفترقون من أن نشأة هذا المفهوم تنسب إلى العصر الجاهلي في الجزيرة العربية، الذي يفخر بأنه ترك عبر العصور الطويلة أسماء شعرية لامعة وقصائد لا تزال تُعدّ من عيون الشعر العربي القديم.

ومثل هؤلاء الذين تمرّدوا على قوانين القبيلة وانفردوا بشخصياتهم الشعرية أسسوا لهذا المفهوم شكلا اجتماعيا استثنائيا، وبالتالي تمكنوا من أن يؤسسوا مفهوما شعريا خالصا استمرّ مع الزمن، واستمرّت الصعلكة على مدار العقود تحت هذا التأثير.

مفهوم الصعلكة بقي واحدا مع زمنيته المتواترة وتطوّر الحياة الاجتماعية، وشيوعه بين القبائل بأسبابه التي تركتها لنا كتب التاريخ ومباحثها الكثيرة منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي، وبقي الصعلوك هو الفقير الذي يكابد من شظف العيش. وهو المتشرد الذي لا مأوى له. وهو المتمرد والثائر واللامبالي والرافض لكل الأعراف وسُنن الجماعة. فهل اختلفت هذه القيم القديمة عن القيم التي يحملها صعاليك العصر الحديث؟

التحولات الحياتية الكبيرة والمثيرة لم تقضِ على هذه الظاهرة يوما ما، لكن تبدلت المسميات بحسب الحقب التاريخية المتعاقبة، كما تبدلت التصرفات الصعلوكية بين الأجيال التالية، فالشطّار والفتوّة والعيّارون والشقاوات والمشرّدون والمقامرون وسكارى الشوارع ومدمنو الخمر والحشّاشون والمعدمون، هم إحالات مباشرة إلى مفهوم الصعلكة بمستوياته الاجتماعية والسياسية والقبلية والأخلاقية، فساروا على نهج السابقين لكن بطريقة غير مناسبة في الكثير من الأحيان، عندما أزاحوا بهذا القدر أو ذاك المحظورات الدينية والاجتماعية والأخلاقية.

إذا كان الصعلوك الجاهلي شجاعا واقعيا، فإن صعاليك العصر الحديث كانوا أبطالا ورقيين في بوهيميا الكتابة

في حقيقة الأمر إذا كان الصعلوك الجاهلي شجاعا واقعيا، فإن جماعة العصر الحديث من الصعاليك كانوا أبطالا ورقيين في بوهيميا الكتابة، وهذا لا يغيّر من حقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي السلطوي، وثبت من أنهم أضعف من أن يُحدثوا ثورة أو انقلابا أو تغييرا في المفاهيم القبلية والسلوكية العامة، والحصيلة أنهم لم يستطيعوا أن يوازنوا بين الحياة الشخصية والعامة في مجتمع طارِد على الأغلب الأعمّ لذوي التصرفات التي يعدّها شاذة.

 مثلما ثبت -بعد معاينة الأسماء- أن جلّ هؤلاء من المعدمين وفقراء المال ومن غير المحظوطين في الحياة. مثل يونس بحري الذي مات مفلسا في بغداد بعد أن كان يعمل في إذاعة برلين خلال الحرب العالمية الثانية، وهو الشخصية المنشطرة والمتناقضة تماما؛ حيث كان إماما في أحد المساجد نهارا، بينما كان يعمل طبالا في ملهى ليلي كما تذكر المصادر.

وفي هذا البحث فمن المؤكد أننا نضع المغربي محمد شكري في روايته “الخبز الحافي” وغيرها من كتاباته في جملة صعاليك العرب الذين كثر الجدل حولهم، لجرأته غير المعهودة في السرديات الروائية عندما خرق الحجاب الاجتماعي أفقيا وعموديا. ولا شك أن الشاعر العراقي الراحل عبدالأمير الحصيري كان سيد الصعاليك في عصره، فقد كان ينام معظم لياليه في المقبرة الإنكليزية وسط بغداد بسبب إفلاسه، ثم وجد ميتا في فندق بائس عام 1978 وكان الحصيري يبيع قصائده إلى شعراء عراقيين وخليجيين وهذا من المعروف في وقته، ومثله السوداني محمد حسين بهنس الذي توفي متجمدا من البرد والجوع في إحدى حدائق القاهرة قبل سنوات قريبة، والعراقي الراحل المعروف جان دمو الذي عاصرناه صديقا طيبا كان هو الآخر ينتمي إلى هذا الطيف مع أنه قليل النشر ولم يصدر سوى ديوان شعري واحد، وشأنه في ذلك مجموعة صغيرة لفتت الانتباه إلى سلوكها اليومي مثل الراحل الشاعر كزار حنتوش الذي كان يشعر بالسعادة من دون سبب، والشاعر نصيف الناصري الجريء في اعترافاته الحياتية، وحسن النواب الذي يمجّد الصعلكة سلوكا وكتابة. والراحل عقيل علي الذي عمل خبّازا في مرحلة من مراحل حياته لكن الموت خطفه بشكل مبكر.

اختلف صعاليك العصر الحديث عن صعاليك العرب الجاهليين في أنماط السلوك والكتابة والتصرفات والمواقف؛ فالجاهلي كان فارسا وشجاعا ميدانيا، أما الحديث فكان بطلا ورقيا في الأغلب، وتوجّه في الكتابة تحت ستار القناع الشعري لأسبابِ سياسية، بسبب تطور أساليب السلطة ووحشيتها، وبالتالي -واقعيا- اختلفت سبل المواجهة بين الحاكم والمحكوم. على أننا نلاحظ أيضا أن صعاليك الأدب شعراء في العادة أكثر من الساردين، وبتقديرنا بعد مطالعة الإنتاج الشعري في مراحله الكثيرة القديمة لا نجد فيه مفهوم (السلوك) الشخصي، بقدر ما نجده كثير الحياة والحركة والجمال والفروسية، وهذا يعطي دلالة على أن الكتابة (في المفقود) هي غيرها في السلوك؛ فالسلوك مظهري، والكتابة جوهر يتوارى خلف هذا السلوك.. ولنا أن نتبنى هذا الفرز -نقديا- بكل وضوح.