تحدي الصمت

مسيحية أو مسلمة.. اختلفت الديانة وتشابهت المعاناة

تطلعات المرأة القبطية لا حدود لها وهي دؤوبة ولا تيأس من المطالبة بحقها

شيرين الديداموني (القاهرة)
وسط زخم الأحداث والتطورات المتلاحقة المتعلقة بالشأن القبطي في مصر، بدا وكأن الكثيرين نسوا المرأة القبطية وأدوارها في المجتمع المصري، وعلى الرغم من أن مشكلاتها لا يمكن فصلها عن مجمل ما تعانيه المرأة المصرية عموما، إلا أن القبطية تعاني مشكلات خاصة بها، مثل مواجهة التشدد، والصبر على ما يحدث من استهدافات إرهابية للزوج والابن والابنة وتحديدا في الآونة الأخيرة، وليس بعيدا عن ذلك سعيها لتغيير النظرة المغلوطة عنها، سواء من الموروث القديم حتى بين المسيحيين أنفسهم أو من بعض زميلاتها المسلمات. لم تعد المرأة القبطية في مصر تلك المرأة المنزوية السلبية، ورغم تأثرها هي وأبناؤها بأحداث المجتمع وتغييراته إلا أنها أصرت على أن تكون شريكا فاعلا فلفتت إليها الأنظار خاصة بعد ثورات الربيع العربي، واستطاعت أن تتكيف وتتأقلم مع ظروف بيئتها بكل صبر في محاولة منها لأن توازن كل خلل قد يودي بالأسرة والمجتمع. وضربت تلك المرأة خلال الهجمات الإرهابية التي مرت بها مصر مؤخرا، واستهدفت فيما استهدفت الأقباط، المثل في الصمود فلم يستمر صوت نواحها وعويلها طويلا، بل تماسكت رافضة أن تكون عود الكبريت (الثقاب) الذي يشعل فتيل الفتنة، وأكدت أن مصابها هو محنة مؤقتة لوطن تعلم جيدا أنه سينهض من كبوته طال الزمن أم قصر. ولعل أول ما تعانيه المرأة القبطية، هو التشدد الذي تتعرض له فلم ترضخ بل تحدته، وكمثال على هذا ما شهدته البعض من المدارس مؤخرا في إجراء غير مسبوق بتعليق لافتات في بداية العام الدراسي تجبر الطالبات المسلمات والقبطيات على ارتداء غطاء للرأس، ومنع دخول الطالبات من دونه، ما أزعج الأقلية المسيحية في مصر خوفا من أن تصبح بناتهم هدفا للانتقام نظرا إلى مساندة الأقباط لثورة 30 يونيو. أثار هذا الأمر جدلا كبيرا، لكن المرأة القبطية تحدته كونه يمسها كأنثى ويمس طفلتها، ولم تسكت بل سلكت كل الطرق إعلامية ورسمية، وبالفعل وعلى إثر هذا التحرك أصدر مسؤولو التعليم قرارا بمنع إجبار الطالبات من الديانتين على ارتداء غطاء الرأس. وحاولت المرأة القبطية التخلص من سلطان الكنيسة الذي مازال حاضرا بقوة في التشريعات المتعلقة بالزواج والطلاق والإجهاض ويتحكم في بنية الأسرة المسيحية بصفة عامة. حصار اللاءات أعلنت الحرب على مجموعة من اللاءات التي حاصرتها منذ الصغر ومنها “لا طلاق إلا لعلة الزنا”.. و”لا كهنوت للمرأة”، فالسيدة المسيحية إن لم توفق في زواجها لأي سبب ليس من حقها أن تتراجع، وتصطدم بقاعدة دينية جامدة لا يمكن تغييرها أو المساس بها إذ ليس عندهم طلاق في المسيحية ومع ذلك لم تيأس في عرض قضيتها وطرقت كل الأبواب حتى لا تظل حياتها حبيسة داخل جدران الكنيسة، وهي لا تعاني فقط ما يعد معتادا لأي امرأة مصرية في محاكم الأحوال الشخصية بل يضاف إلى هذا عناؤها وصمودها لسنوات طويلة كي تحصل من الكنيسة على بطلان الزواج.. (هذا إن حصلت عليه). التخمين والاعتقادات التي تترسخ لدى البعض من المسلمين عن القبطيات والمسيحيين بصفة عامة هي نتيجة طبيعية للدور السلبي لوزارة الثقافة التي تهمش الأقباط لم تستسلم ماريان أبانوب (أرثوذكسية)، للتصريحات المعادية للمرأة التي يطلقها البعض من الأقباط حيث تعودت على ذلك، فالمرأة ممنوعة تماما من دخول هيكل الكنيسة منذ وصولها سن البلوغ وكأنها غير نقية، ولا يكون الفصل بين الرجال والنساء أثناء القداس الإلهي فحسب ولكن أيضا في الاجتماعات والمناسبات. وأوضحت لـ”العرب” أنه بينما فتحت الكنائس الغربية الباب أمام المرأة لتولي الرتب الكهنوتية حتى وصلت إلى رتبة “رئيس أساقفة” في الكنيسة الإنجليكانية، (وهو ما يعادل رتبة البابا تواضروس في الكنيسة الأرثوذكسية)، وصعدت النساء إلى رتبة شمّاسة في الكنيسة الكاثوليكية، وأصبحت “شيخة” في الكنيسة البروتستانتية وهي رتبة تعادل القس، فإن ذلك كله ممنوع في الأرثوذكسية. وطالبت أبانوب بإعادة النظر في الرؤى الفقهية واللاهوتية القديمة ولم تبال بالاتهامات الموجهة إليها بأن مطالبها تعتبر تنكرا للدين وابتعادا عن القاعدة الإيمانية والعقائدية في المسيحية بأن لا كهنوت للمرأة، مقتنعة بأن ذلك ما هو إلا “ذكورية دينية” احتكرت الدين وانحرفت بتأويلاته. كشف العذرية يرى مراقبون للشأن القبطي أن تطلعات المرأة القبطية لا حدود لها، وهي دؤوبة ولا تيأس من المطالبة بحقها وعلى يقين بأنها ستنال هذا الحق ولو بعد حين، وما يرفع لديها سقف الطموحات أن السنودس الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان دعا إلى رسامة الواعظة “نجلا قصاب” كقسيسة الشهر الماضي لتكون ثاني امرأة تشغل منصب القس في 2017، والمرأة المصرية المسيحية ليست أقل شأنا ممن تمت رسامتهن. تحد آخر واجهته ووقفت في وجه الكنيسة وهو أنه في البعض من المحافظات، خاصة في الصعيد ومحافظة البحر الأحمر (شرق مصر)، عندما تشب الفتيات المسيحيات عن الطوق وتقبلن على الزواج يتم إرغامهن على “كشوف العذرية” كشرط أساس من شروط إتمام الزواج في الكنيسة. وأوضح بيتر جورج عضو حركة الحق في الحياة لـ”العرب” أن هذا الكشف يتم بصورة بدائية مهينة من جانب عدد من الأطباء المعتمدين لدى الإيبارشية، حيث يتحقق الطبيب بالنظر بعينيه للتأكد من وجود غشاء البكارة لكي يختم الأوراق الخاصة بإتمام الخطوبة، والتي من دونها ترفض الإيبارشية إتمام المراسم إذا كانت الفتاة غير بكر، وتقوم الكنيسة بإبلاغ المتقدم للزواج من الفتاة بنتيجة الفحص. لم تسكت المرأة القبطية على هذا الانتهاك أيضا فتصدت له بكل قوتها، وقامت بوقفات احتجاجية وتظاهرات أمام الكنائس رافعة لافتات “لا لكشوف العذرية”، وهو ما جعل القائمين على رأس الكنيسة ينفون ويستنكرون بل ووصل الأمر إلى فتح التحقيق مع المتهمين في تلك الوقائع بصرف النظر عن مكانتهم في الكنسية. ورفضت المرأة المسيحية أن تكون وقودا للفتنة أيضا، في قضايا التحول الديني للبعض من المسيحيات أو ارتباطهن بشباب مسلمين، والذي غالبا ما تكون نتيجته تجمهر مسيحيين زاعمين أن فتاتهم تعرضت للاختطاف وأجبرت على اعتناق الإسلام فتقع الاشتباكات بين الجانبين، وعلا صوتها وتحدثت بجرأة شديدة إلى وسائل الإعلام غير مكترثة بالنتائج. لقد أدركت أن هذه القضية ليس سببها التحول الديني بقدر تعلقها بنظرة المجتمع للمرأة، فالأنثى المسيحية ضحية النظرة الذكورية السائدة، ولأن البعض اعتقد خطأ أنها ضعيفة قام بتحويل حياتها العاطفية إلى صراع ذي طابع طائفي. إعلاء السلطة الذكورية واتهمت ناشطات قبطيات مسيحيين آخرين بأنهم يضخمون اهتمامهم بما يرونه “وصمة عار” سوف تلاحقهم نتيجة خروج إناثهم عن طوعهم، ودللن على ذلك بأنه لا توجد إلى الآن أسرة مسيحية أكدت أن ابنتها اختطفت أو تم إجبارها على اعتناق الإسلام. مسيحية ومسلمة رفعت ثورة 1919 في مصر شعارا عظيما “يحيا الهلال مع الصليب”، تأكيدا على الوحدة الوطنية، لكن المرأة القبطية شعرت بأنه أصبح مجرد جملة مصكوكة تعطل مضمونها بعد أن شهد الواقع المصري تبدلات عميقة تجلّت في تشكّل ثقافة مغايرة طرحت رؤى جديدة انعكست على علاقة المسلمين بالمسيحيين. وفي فترات معينة أخذت العلاقة بين المرأة المسيحية وصديقاتها المسلمات منحى شائكا شابه التحفز والتحفظ في أحيان كثيرة، لما يدور في ذهن كل منهما عن الأخرى بسبب خطاب منزلي عنصري تم غرسه في وجدان الأطفال منذ الصغر بأنهم الأفضل وأن الآخر المختلف في الديانة كافر، ومع تقدم العمر تكتمل النزعة العدائية بداخله. عكست تصريحات كثيرة أدلت بها فتيات قبطيات لـ”العرب” معاناتهن المجتمعية كونهن مسيحيات، وأوضحن أن عقول البعض من المسلمات المنحدرات من أسر متشددة تتضمن أفكارا غريبة عنهن كمعتنقات للديانة المسيحية بأنهن كافرات ولن يدخلن الجنة، وتجذرت تلك الأفكار كحقيقة لا تقبل الجدال. تمكنت مريم ميلاد (مترجمة من صعيد مصر) من تغيير تلك الصورة وأظهرت الجانب الإيجابي من شخصيتها فامتصت انفعالات الأخريات، وأوضحت لـ”العرب” أنها منذ الصغر وهي تتلقى الكثير من الاتهامات فكانت في كل مرة تهب مدافعة عما يتم تداوله عن الفتاة المسيحية، لكنها كانت تلتزم الصمت في حال شعرت بأن النقاش سيؤدي إلى صدام. وعانت ميلاد في طفولتها من صديقات رفضن القدوم إلى منزلها بزعم أن رائحته كرائحة الزيت بسبب طريقة طهي المسيحيين، ومن ثم كن لا يأكلن من طعامها لأنه من لحم الخنزير المحرم ولا يشربن من نفس الكوب خوفا من أن تنقل لهن عدوى مجهولة لا يعرفن اسمها، وعندما كانت في المرحلة الثانوية حاولت بكل السبل إقناع زميلاتها المسلمات بأنها لا تُقبّل أو تحضن الشباب داخل الكنيسة كما يعتقدن. وتعاملت ميلاد بذكاء شديد عندما قالت لها إحدى زميلاتها المسلمات إنها كمسيحية مختلفة عن باقي “المسيحيات المنحلات”، فلم تتجاوب مع هذا المدح ولم تنفعل بل أوضحت لها بهدوء أن الاحتشام هو الأصل في الدين المسيحي وليس التبرج، وفي الزمن الماضي كانت غالبية المسيحيات محجبات لعيشهن في الصعيد، وحتى الآن ترتدي الفتيات الحجاب داخل الكنيسة، حتى أن بعض الإيبارشيات تمنع الفتيات من التناول (أحد أسرار الكنيسة) وبعض الممارسات الكنسية إذا كن يرتدين السراويل الضيقة. وتصرفت القبطية بذكاء عندما كانت صديقاتها المسلمات يحككن رؤوسهن عندما يمر عليهن قساوسة كناية عن عدم نظافتهم واعتقادا منهن بأنهم لا يستحمون فقامت هي الأخرى بحك رأسها عندما رأت شيخا مسلما ثم ضحكت، ومع الوقت امتنعت صديقاتها عن فعل ذلك. لا للختان لم تفرق العادات القبيحة التي توارثتها الأجيال، بين فتاة مسلمة أو قبطية، فقد خضعت المسيحيات في البعض من المحافظات المصرية لمشرط الختان، وصمتن لفترات طويلة، وعندما وجدن الفرصة للاعتراض سارعن إلى الدفاع عن حرمة أجسادهن. وأشارت سامية تادرس (طبيبة أمراض نساء)، إلى أن الديانة المسيحية تحرم الختان، لكن المشكلة هي أن رجال الدين المسيحيين مختلفون في ما بينهم حول تحريمه، ففي الوقت الذي يعتبره البعض من الكهنة جريمة في حق الأنثى يعلن البعض الآخر تأييده له على اعتبار أنه من شروط العفة. القبطيات الجريئات لم يصمتن على القهر النفسي الذي مورس في حقهن عبر الختان، ووجهن ذلك الموروث الكارثي الذي يعد -في رأيهن- عودة إلى العصر الجاهلي، وقمن بنشر تجربتهن وترى تادرس الختان جريمة، انتشرت بين المسيحيات خاصة في الصعيد (جنوب مصر) دون مبالاة من أحد بمعاناة البنت الخاضعة له عندما تكبر هي والنساء الأخريات فيفقدن القدرة على الاستمتاع بالحياة وبذلك يُحكم على حياتهن الزوجية بالإعدام. لم تصمت القبطيات الجريئات على هذا القهر النفسي الذي مورس في حقهن أملا في إنقاذ قريناتهن من آلامه وآثاره البشعة، ومواجهة ذلك الموروث الكارثي الذي يعد -في رأيهن- عودة إلى العصر الجاهلي، وقمن بنشر تجربتهن مع الختان على مواقع التواصل الاجتماعي غير آبهات بنظرات الغير، وكان لذلك مفعول السحر في تغيير المعتقدات المتوارثة منذ قرون إلى درجة أن الشباب في البعض من القرى باتوا يشترطون عند إقدامهم على الزواج أن تكون الفتاة غير مختنة. وقامت بعضهن بتثقيف الفتيات وتوعيتهن بالآثار السلبية لختان الإناث وحضهن على الإبلاغ عن الطبيب المنفذ للعملية لإحداث ردع عام بالقرى والنجوع، ما أدى إلى إقلاع كل المسيحيات في الكثير من القرى خاصة في الصعيد عن هذه العادة. وهناك أفكار مغلوطة وافتراءات ينشرها أصحاب الفكر المتشدد عن المختلفين عنهم في الدين في الجانبين، وتؤكد المرأة المسيحية أنه لا يجب أن نسمح للعادات السيئة بأن تعم وتسود، فأصحاب الديانات منهم الصالح ومنهم الطالح وليس معنى أن يكون قد وقع حادث انحلال أخلاقي من أحد السلفيين أو من أحد القساوسة في الكنيسة مع امرأة ما أن كل السيدات عاهرات يمارسن الرذيلة مع الشيوخ والقساوسة. وأكدت مارينا أسعد مدرسة رياضيات أن التربية هي أحد أسباب تلك الأفكار المنافية للحقيقة، سواء لدى المسلم أو المسيحي، والدليل على ذلك أن الوضع في جنوب البلاد في نشر تلك الأفكار أسوأ من شمالها حيث لم تلحظ أسعد بالقاهرة اختلافا في المعاملة ونادرا ما قابلتها آراء متطرفة، فلا فرق في العاصمة المصرية بين المسلمة والمسيحية، وأكدت أن أقرب صديقة إلى قلبها هي امرأة مسلمة إلى درجة أن أسعد تركت منزلها هي وزوجها ليسكنا مع صديقتها في نفس العقار. وأفادت لـ”العرب” أن السلفية المتشددة تتمترس في العقلين معا المسلم والمسيحي، حيث يفرض الطرفان كلاهما تلك الأفكار على أبنائهما الذين لا يكون أمامهم سوى السمع والطاعة، ومن هنا ترسخت قناعات خاطئة لكل طرف عن الآخر، مثل أن المسيحيات يؤمنّ بثلاثة آلهة ويمارسن تقديم القرابين وعبادة الأوثان إلى جانب اتهامات مستفزة أخرى مثل عدم الاغتسال عقب قضاء الحاجة، وعدم السجود في الصلاة، والصوم المتصل، والصلاة على الموتى. ويرى يونان مرقص مفكر قبطي أن التخمين والاعتقادات التي تترسخ لدى البعض من المسلمين عن القبطيات والمسيحيين بصفة عامة هي نتيجة طبيعية للدور السلبي لوزارة الثقافة التي تهمش الأقباط، فهناك غياب تام للبرامج التي تتعرض للعادات المسيحية وآدابها، وأضاف لـ”العرب” أن الإعلام سطحي ومغيب ولا يتحدث عن الثقافة المسيحية وتعاليمها وعادات أبنائها ولا يقدم القسس إلا في قداس عيد الميلاد. ونصح بضرورة تبادل حوار صادق بين الطرفين، وأن يتحمل رجال الدين المسيحي والإسلامي المسؤولية في تعليم الفتيات تقبل تلك الأفكار والرد عليها بلباقة وأدب لمنع اللغط وتصحيح تلك المفاهيم الخاطئة قدر الإمكان. كاتبة مصرية