أقصر طريق لكسب الشارع

الحكومة المصرية.. حان وقت محاربة الفساد

المعركة مازال ينقصها العديد من الإجراءات الأكثر صرامة

القاهرة

هل حقا يمكن أن تهتز أركان دولة الفساد في مصر؟ سؤال يتردد بكثرة في الأوساط المصرية مع تصاعد نسق الحملة التي يشنها النظام ضدّ الفساد ومؤسساته، كبيرها قبل صغيرها، سعيا إلى استعادة شعبية النظام الحاكم التي بدأت تضعف في الآونة الأخيرة، وحماية المشروعات القومية الكبرى التي قطعت فيها أشواط بعيدة حتى الآن، وإن كان البعض من هؤلاء المتابعين، يشيرون إلى أن المعركة مازال ينقصها العديد من الإجراءات الأكثر صرامة، وعلى رأسها إزالة ترسانة القوانين المشبوهة التي ينفذ منها المفسدون.

الفساد، محرك الثورات وأحد أهم أسباب فشل المسار التنموي للدولة وإحباط المجتمع. وفي دول مثل مصر، ظل على مدى عقود طويلة معششا في مختلف أركانها ينمو ويتضخم في مؤسساتها حتى تحول من فساد في الدولة إلى دولة الفساد. وظلّ هذا الملف لسنوات طويلة مسكوتا عنه سياسيا وإعلاميا، إلا في حالات نادرة، ولم يتم طرحـه بجرأة إلا في بعض الأفلام السينمائية.

لكن، وعلى ضوء التطورات التي أعقبت ثورة 25 يناير، والتي كان الفساد أحد أهم أسباب اندلاعها، لم يعد ممكنا السير على نفس المنهج القديم في التعامل مع الفساد. لذلك اختار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إعلان الحرب على الفساد كمدخل رئيسي للتواصل مع المصريين.

ومنذ انتخابه لم يتوقف السيسي عن اتهام الفساد والإرهاب، بأنهما السلاح الأشرس من نوعه لإسقاط الدولة المصرية واستهداف مؤسساتها، لكنه قرر البدء أولا بمحاربة الإرهاب على حساب مكافحة الفساد، ربما لاعتقاده أن التوقيت السياسي والاقتصادي غير مناسب للدخول في معركتين شرستين في آن واحد.

لكن مؤخرا، وبالتزامن مع الحرب المتواصلة ضدّ الإرهاب دخل النظام المصري المعركة الثانية، وأعلن الحرب على الفساد، لا سيما وأن الأجواء السياسية والاجتماعية مشحونة بالغضب جرّاء القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة، سواء بتعويم الجنيه أو بتحريك أسعار مختلف السلع والخدمات الاستراتيجية.

المعادلة الصعبة

مع تراجع شعبية السيسي إلى 63 بالمئة (حسب آخر استطلاعات مركز بصيرة لبحوث الرأي العام)، إما بسبب الغضب على الحكومة وأدائها، أو بسبب الإخفاق في عدد من الملفات، وعدم شعور الناس بتحسن ملموس في مختلف القطاعات والخدمات، أدرك الرئيس المصري أن تحقيق خطوات إيجابية في ملف محاربة الفساد، قد يهدئ مشاعر الغاضبين على الأوضاع الداخلية، ويلهيها عن المشكلات التي بدأت تحاصر الدولة.

منظومة التشريعات والقوانين المعنية بمعاقبة المتهمين في قضايا فساد تحوي ثغرات تحصنهم من العقوبة

ووفقا لتقديرات بعض المراقبين ممن تحدثت معهم “العرب”، فإن حرب الحكومة على الفساد، كانت الأداة الأهمّ والأقوى لاستعادة نسبة كبيرة من شعبية النظام، لا سيما وأن مختلف فئات المجتمع، سواء المؤيدة أو المعارضة، كانت بحاجة إلى وقائع ملموسة وجادة، للتأكد من حسن النوايا في ما يتعلق بمواجهة الفاسدين في الدولة.

وأشار هؤلاء إلى أن النظام نجح إلى حدّ بعيد في هذه المعادلة الصعبة وفي وقت قياسي، لعاملين أساسيين، الأول أنه أظهر جدية غير معهودة في أنه لا يحمي أحدا، حتى الوزراء، وذلك بعدما جرى ضبط وزير الزراعة السابق واتهامه في قضية رشوة.

والعامل الآخر، أنه أعطى الضوء الأخضر للجهات الرقابية، لتبدأ بالشخصيات ذات المراكز القيادية الكبرى، بعيدا عن اسم الجهة التي يعملون فيها، حتى لو كان يُعرف عنها أنها “محصّنة”، لأجل التسريع من وتيرة صدى محاربة الفساد عند الناس. وحدث ذلك مع رئيس محكمة بالإسكندرية، وآخر بأسيوط (جنوب مصر)، ثم مدير أمن محافظة القاهرة، ومؤخرا أمين عام مجلس الدولة السابق (انتحر داخل محبسه)، أعلى جهة قضائية إدارية في البلاد.

وقال إكرام بدر الدين، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة، بإثبات النظام أنه “بحجم وقوة المواجهة مع الفساد والفاسدين” يكون قد وجه رسالة مهمة إلى المصريين، لا سيما وأنه خلال السنوات الماضية، كانت لدى رجل الشارع قناعة، بأن هناك شخصيات وجهات “لا يمكن لأحد الاقتراب منها”، لكن الحكومة الحالية حطمت هذه القاعدة، ما زاد من شعبية النظام بشكل عام.

وأضاف لـ”العرب”، أن تأكيد السيسي على أنه لا أحد فوق المساءلة وعدم خشيته من الإفصاح عن تورط أحد عناصر مكتبه في قضية فساد والقبض عليه، كان له أبلغ الأثر في أن يمنح الشارع المصري بعض الأمل في أن الأمور تسير إلى الأفضل.

ورأى متابعون أن محاربة الفساد في مصر أصبحت لا تتعلق فقط بضبط وقائع رشوة، أو تسهيل وتمرير أمور غير مشروعة، بل امتدّت لتشمل التصدّي إلى تعسف استخدام السلطة، سواء كانت شرطية أو خدمية.

وأضحى خبر اعتقال ضابط أو أمين شرطة، والحكم بحبسه لسنوات من الأمور العادية، التي لم يكن ينتظرها رجل الشارع، ومن المعروف أن إحدى مقدمات ثورة يناير 2011، كان تراخي السلطة في محاكمة أمين شرطة بالإسكندرية، قام بتعذيب الشاب خالد سعيد.

السيسي ومنذ انتخابه لم يتوقف عن اتهام الفساد والإرهاب، بأنهما السلاح الأشرس من نوعه لإسقاط الدولة المصرية واستهداف مؤسساتها

النظام لن يتراجع

يحرص النظام على إظهار دور الأجهزة الرقابية، وتحصين خطواتها في التصدي لجمع الثروة من خلال نفوذ البعض في السلطة، واستغلالهم لعلاقاتهم النافذة، وكان ذلك سببا رئيسيا في الفتور العام في مواجهة نظام مبارك، ومسؤوليه ورجال أعماله في أوائل عام 2011.

وقال أحمد صقر عاشور، أستاذ الإدارة الاستراتيجية والموارد البشرية، إنه رغم نجاح الحكومة في ذلك، وجدية النظام المصري في التصدي للفساد، إلا أن ذلك لا يمنع أن هناك بعض الأخطاء في سياسة الدولة المتعلقة بهذا الملف، لأن الأجهزة الرقابية اعتادت أن تواجه الفساد بعد حدوث وقائعه، بينما لا توجد آلية وطرق وقاية من الفساد نفسه.

وأوضح لـ”العرب” أن النهج الحالي لا يمكن معه القضاء على الفساد بشكل نهائي، لا سيما وأن ما يتم ضبطه لا يعدو أن يكون إلا حالات فردية، رغم أن الأسلوب العالمي الذي ثبت نجاحه، يكون من خلال التركيز على القطاعات الأكثر فسادا، والتي تؤثر على التنمية، بتحليل خرائط الفساد في هذه القطاعات، وأيضا خرائط المخاطر، ولا سيما في المؤسسات التي تتعامل بشكل مباشر مع المواطن والمستثمر، واعتبر أن ما يفعله السيسي حاليا بمثابة “تحصين للتنمية من الفساد”.

ويريد النظام المصري أن يؤسس لمشروعات قومية وتنموية مؤمّنة من الفساد. لأنه يدرك أن التنمية لن يُكتب لها النجاح دون مكافحة للفساد. والدليل على ذلك أن السيسي أصبح يلجأ إلى هيئة الرقابة الإدارية، للكشف عن المشروعات التنموية قبل افتتاحها رسميا، للتأكد من مدى تنفيذها وفق المعايير السليمة، وأن الأموال التي خصصت لها، أنفقت في محلّها دون إهدار أو وجود شبهات من أي نوع.

وبلغ الأمر إلى حدّ أن هيئة الرقابة الإدارية، أصبحت تفتّش عن المشروعات التي تنفذها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة نفسها، وآخرها إعلان محمد عرفان رئيس الهيئة، ملاحظات مفتشي الرقابة على مشروع للاستزراع السمكي، شرق قناة السويس، وكان ذلك على الهواء مباشرة في حضور السيسي وقادة الجيش.

لا توجد قوانين لحماية الشهود أو المبلغين عن الفساد، حتى أن بعض المتورطين في الرشاوى، يحصلون على البراءة، في حال الاعتراف المبكر بالواقعة ودوافعها

تشريعات مشبوهة

مع ذلك، فإن البعض من الخبراء ذهبوا إلى أن رؤية النظام المصري لمحاربة الفساد تبدو غير مكتملة، وأنه يحارب بسلاح “كشف الفساد بالصدفة”. وأرجعوا ذلك إلى أن منظومة التشريعات والقوانين المعنية بمعاقبة المفسدين هي نفسها من تحصنهم من العقوبة، أو تحوي ثغرات تجعلهم يفسدون وهم آمنون على أنفسهم.

ولا توجد قوانين لحماية الشهود أو المبلغين عن الفساد، حتى أن بعض المتورطين في الرشاوى، يحصلون على البراءة، في حال الاعتراف المبكر بالواقعة ودوافعها. لذلك، رأت سلوى العنتري، الخبيرة في الشؤون الاقتصادية، أنه لا يمكن تحقيق خطوات ملموسة بالنسبة إلى الاقتصاد في ملف محاربة الفساد دون إلغاء التشريعات “المشبوهة” التي تحصن الفاسدين، سواء المتعلقة بالتصالح مع من يضر بالمال العام أو بمن يمارس الغش.

وعلى سبيل المثال، هناك قانون يتعلق بتحصين العقود التي تبرمها الحكومة مع الأشخاص والمؤسسات، ما يعني أنه حتى وإن كانت تلك العقود فاسدة، فهي محصّنة. وقالت العنتري لـ”العرب”، إن هذه التشريعات تتناقض مع سياسة الدولة الحالية في معركتها ضد الفساد، وتمثل عائقا أمام التنمية، وحتى إن كانت القضايا الأخيرة التي ضبطتها الأجهزة الرقابية أعادت الأمل إلى الشارع، إلا أنه من الحتمي ألا تكون الدولة تسير في طريق والتشريعات التي أقرها البرلمان مؤخرًا تمشي في طريق معاكس.

العديد من المتابعين، يؤكدون أن خطوات الحكومة الأخيرة، من شأنها أن تعيد الشعبية التي تراجعت بنسب كبيرة، وتهدئ من روع الناس، وتشعرهم بأن هناك بارقة أمل في تحسن الأوضاع الداخلية، والأهم من ذلك شعور رجل الشارع بأن هناك جهازا رقابيا في مصر (الرقابة الإدارية) ليس تابعا لأيّ جهة، ولا تحوم حوله الشبهات، ويعمل لصالح المواطن والدولة فقط، ما يعزز من المصداقية. ليبقى الفساد، كظاهرة بشرية اجتماعية، موجودا في كل الأزمنة والعهود، لكن هناك نظاما يحاربه فتتقلص نسبته، وإن هناك نظاما يغض الطرف عنه فيتضخم ويصبح خطرا وطنيا.