ثلاث سنوات من المقاطعة العربية..
النظام القطري يدور في فلك الاضطرابات مع تعدد الأجندات الإقليمية
قطر، وخلال ثلاث سنوات من المقاطعة، لم تبحث عن تغيير في سلوكها على المستوى البعيد يمكنها من تلافي الاتهامات الموجهة لها بدعم الإرهاب. ولكن على العكس فقد استمرت في الهروب إلى الأمام من خلال الارتهان لتركيا وإيران والجماعات المتشددة التي تستضيف قياداتها على أراضيها. وقادت هذه السياسة إلى فسح المجال أمام تركيا لتدير أهم الملفات الداخلية في قطر، فيما السلطات تنفق المزيد من الأموال لاسترضاء “الحلفاء الجدد”، ما زاد في معاناة المواطنين القطريين.
تدور قطر في فلك الاضطرابات الداخلية منذ أن أقدمت السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطع العلاقات معها، وتزيد وتيرة ذلك مع دخول المقاطعة عامها الرابع من دون أن يكون هناك أمد للاستجابة لمطالب الدول العربية الأربع، وبدا أن تعدد الأجندات الخارجية على أرضها بالاستعانة بتركيا وإيران ضاعف من المصاعب التي تواجهها الدوحة.
وأدى تقسيم قطر إلى معسكرات وقواعد أجنبية إلى تعقيد فرص حل الأزمة، ووضع الدوحة أمام خيارات ضيقة، تجعلها أكبر المتضررين، وإذا سعت في وقت إلى إنهاء الوضع القائم ستكون مجبرة للانصياع لرغبات القوى العسكرية الموجودة على أرضها، والتي لن تتخلى عن وجودها بسهولة ما يؤدي لاستمرار الوضع القائم فترات طويلة، أو الاعتراض على هذا الوجود، ومن ثم تعريض الدويلة الصغيرة للخطر، وتحويلها إلى مناطق نفوذ.
بدأت أوجه المعاناة من الوجود العسكري الأجنبي تظهر مع تنامي الحضور التركي على وجه التحديد، والذي أصبح مسيطراً على المنظومة الأمنية برمتها، ووجد القطريون أنفسهم أمام قوة أجنبية تتعامل معهم بشكل مباشر يومياً.
أحدث ذلك حالة من التململ الداخلي، وظهرت الأصداء سريعا على مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل غياب الوسائل الشرعية للتعبير، عبر الدعوات الشعبية المتكررة لإنهاء الوجود التركي، وهي المطالب التي تبناها مسؤولون قطريون وبعض ضباط الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وكان ذلك سببا في استقالة رئيس الوزراء، الشيخ عبدالله بن ناصر منذ فترة.
ويقول متابعون للشأن القطري إن ثلاث سنوات مضت على المقاطعة العربية قد وضعت الدوحة أمام تحديات جمة، بعد أن أصبح المواطن القطري في آخر اهتمامات الحكومة، وصار هدف السلطات هو كيفية الحفاظ على علاقة متماسكة بين الأجندات الأجنبية المختلفة.
وتعرّض الديوان الأميري لعديد من التجاذبات السياسية، انعكست على شكل محاولات انقلاب أفشلها مبكرا الوجود التركي والإيراني، علاوة على تصاعد الاتهامات الدولية الموجهة لقطر بشأن انتهاك حقوق العمال المشاركين في بناء منشآت كأس العالم.
عشوائية سياسية وعسكرية
قال أحد مؤسسي جهاز المخابرات العامة القطرية، اللواء المصري محمود منصور، إن المتابع لما يصدر عن الديوان الأميري على مدى الفترة القريبة الماضية من قرارات يتضح له أنها تتسم بقدر كبير من العشوائية، لأن الاستعانة بالقوة العسكرية الإيرانية في ظل وجود قاعدة أميركية (العديد) يؤدي إلى مشكلات متفاقمة لم تظهر حتى الآن.
وأكد منصور لصحيفة العرب الدولية، أن قطر لديها قناعة بأنها تمارس ضغوطاً على دول المقاطعة من خلال الشراكة مع كل من تركيا وإيران، ولا تدرى أنها تخنق نفسها بهذه الحبال التي ستؤدي إلى تفجير الأوضاع الداخلية لا محالة، فضلا عن خيالها الواسع بشأن قدرتها على التأثير في المحيط الإقليمي عبر تجميع القيادات الإرهابية والمتطرفة على أراضيها، وهو لا يحقق سوى المزيد من تكريس عزلتها.
وأوضح منصور أن عدم قدرة قطر على تحقيق إنجازات خارجية انعكس على الأوضاع الداخلية بعد أن وجدت نفسها مضطرة لدفع مليارات الدولارات لتنظيم كأس العالم دون وجود إمكانيات حقيقية تمكنها من النجاح في تنظيمه، ولجأت لاستقدام مئات الآلاف من العمالة الآسيوية التي جاءت تحت كفالة مقاولي البناء، ما جعلها تدخل في مشكلات عميقة تتعلق بحقوق هذه العمالة.
وانتقدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية الدولية، مطلع العام الجاري، مواصلة قطر انتهاك حقوق العمال الوافدين، رغم جهود الإصلاح التي تعلن من وقت لآخر عن اعتمادها لتبقى تلك القرارات مجرد شعارات صورية لا يتم تطبيقها على أرض الواقع.
وأشار التقرير السنوي للمنظمة إلى أن انتهاكات قطر تزداد بشكل ملحوظ ضد فئات بعينها في الدولة، على رأسها النساء والعمالة الوافدة. وقال إنه “على الرغم من إعلان الحكومة عن تغيير القوانين الخاصة بالعمال، والتي تسمح لهم بعدم مغادرة البلاد دون الحصول على موافقة صاحب العمل، فإن هذا لم يطبق ومازال يواجه الذين يتركون أصحاب عملهم دون إذن عقوبة بسبب الهروب، تشمل الغرامات والسجن والاعتقال”.
ودفعت الأوضاع المعيشية الصعبة في ظل انتشار جائحة كورونا، العمال للاحتجاج في 24 مايو الماضي على عدم دفع أجورهم. وأظهرت الصور، التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، العشرات من الأشخاص وهم يغلقون طريقا رئيسيا في حي مشيرب بالدوحة على مرأى من عناصر الشرطة.
واستطاعت الأسرة الحاكمة في قطر تشكيل منظومة إدارية جديدة تقوم بالاعتماد على الأجانب دون الاستعانة بأهالي البلد الأصليين، ما تسبب في الكثير من المآسي الاجتماعية عانت منها العديد من القبائل التي تنظر إليها الدوحة بريبة نتيجة معارضتها التوجهات الحالية.
كما قلصت الوظائف الممنوحة للمواطنين وتمادت في قرارات نزع الملكيات من بعض القبائل، وسحب الجنسيات منهم وتشريدهم في وقت توسعت الجهات الأمنية في قرارات الحجز الاحتياطي، لتكون بديلاً شرعياً عن الاعتقال، وجرى تنفيذ الآلاف من القرارات بحق من اعترضوا على هذه السياسة.
في يناير 2017 كشفت وزارة التخطيط التنموي والإحصاء في قطر أن التعداد بلغ 2.576.181 نسمة، ورفضت نفس الوزارة الكشف عن سكان قطر الأصليين، بما يوحي بتجاوز أعداد المجنسين نظيره من القبائل والأسر العربية التي تعيش في قطر، الأمر الذي أثار تساؤلات عديدة في حينه بشأن إمكانية وجود مشروع لإحداث تغيير في ديموغرافية الدولة للتخلص من القبائل من خلال التجنيس الشامل.
استمرت سياسة سحب الجنسيات في قطر، وخلال العام الماضي أعلنت الفيدرالية العربية لحقوق الإنسان، تبني قضية أبناء قبيلة آل غفران، داعية مفوضية الأمم المتحدة المختصة إلى الاضطلاع بدورها في حماية حقوقهم من انتهاكات سلطات الدوحة المستمرة منذ أعوام.
ولم يستبعد السفير المصري الأسبق لدى الدوحة محمد المنيسي أن تكون تركيا المهندس الأول للمشهد القطري الداخلي حاليا، بعد أن تضاعف نفوذها بصورة كبيرة إلى درجة أضحت هناك دوريات أمنية تركية تسير في الشارع وتعاقب المواطنين على المخالفات التي يرتكبونها، وبالتالي فإنها تبحث عن بيئة خصبة لا تشكل معارضة لحضورها على الأرض.
وأوضح المنيسي، أن رئيس الوزراء القطري الأسبق الشيخ حمد بن جاسم، هو مهندس الحضور التركي، وأنه عقد جملة من الاتفاقيات الأمنية عقب المقاطعة العربية، بهدف حماية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد من أي انقلابات توقع حدوثها بفعل الغضب الشعبي والسياسي تجاهه.
وقال السفير المصري إن الشيخ حمد بن جاسم انخرط في تحالفات خفية مع أنقرة ما أدى إلى مضاعفة الوجود التركي الذي كان مقرراً في البداية أن يكون ثلاثة آلاف جندي ليصل حالياً إلى أكثر من 21 ألفا، وأن هذه القوات تعدت دورها في إفشال الانقلابات لتشكل وجودا دائما.
ووفقا لتقرير نشرة موقع “نورديك مونيتور”، في فبراير الماضي، فإن أنقرة والدوحة وقعتا اتفاقا أمنيا جديدا قبل نهاية العام المنقضي، تم بموجبه تكليف قوات من الشرطة التركية بالعمل خلال الأحداث المهمة، على رأسها كأس العالم لكرة القدم.
ويقضي الاتفاق بدمج أجهزة أمنية بين البلدين ووضع قيادة مشتركة لتأمين كأس العالم، على أن تقدم تركيا دعما أمنيا عند استضافة الدوحة أحداثا مهمة، لكن الحدث الرياضي البارز لن يكون نهاية التعاون الأمني لأن الاتفاق يمتد لخمس سنوات قابلة للتمديد، إذا رغب الطرفان في ذلك.
ويشير مراقبون إلى أن الوجود التركي قد يؤدي إلى صدامات لا يعلم مداها أحد، لها تأثيرات سلبية على الأمن القومي العربي والخليجي، لأن التخلص من القوى المختلفة (التركية والإيرانية) أشبه بالمعجزة حال جاءت قيادة قطرية جديدة رغبت في إنهاء الوضع القائم.
هروب إلى الأمام
قال المستشار السياسي الأسبق للديوان الأميري القطري، عبدالمنعم سعيد، إن قطر سعت إلى تدشين حملة دولية ضد بلدان المقاطعة، لكنها فشلت في أن تجد آذانا صاغية لحملتها لدى المجتمع الدولي عقب ثبوت تورطها في دعم الإرهاب، وبالتالي فالبديل كان الاحتماء بتركيا التي تحاول إعطاء الدوحة نفوذا وهميا في بقاع إقليمية، مختلفة كما يحدث في فلسطين أو ليبيا.
ولفت سعيد، إلى أن الدوحة هربت من الضغوط الداخلية التي تواجهها، وحاولت لعب دور الظل لعدد من القوى الإقليمية، فهي تقف في ظل طهران للتخديم على سياستها ضد السعودية، وتلعب الدور ذاته مع تركيا ضد مصر والإمارات، وفي المقابل فإنها تقدم الأموال التي يحتاجها البلدان لاستمرار مشروعاتهم التوسعية في المنطقة.
وأضاف أن الصراعات الدولية تفرز دائما الحاجة إلى منطقة خدمات يمكن الارتكاز عليها لتحقيق مصالح كل دولة، والدوحة تلعب هذا الدور لأنها تمتلك صلات قوية بتنظيمات إرهابية، ما يجعل بعض القوى بحاجة لوسيط مع هذه العناصر.
وبرأي سعيد، فإن قرار الدوحة بالاستجابة للمطالب العربية لم يعد بيدها وإنما بيد القوى الإقليمية المهيمنة عليها، مثل تركيا.
ويستنج أن محاولات الوساطة المتكررة لحل هذا الخلاف لن يأتي بنتيجة على المدى القريب، وأن الأوضاع الحالية سوف تستمر لفترة طويلة حتى تتغير قواعد المعادلة الداخلية في الدوحة.