القواسم المشتركة الممتدة والمتنوعة..
تقرير: أمن الخليج جزء أصيل في خارطة الأمن القومي المصري
تتردد كثيرا هذه العبارة في كل اللقاءات التي يعقدها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع مسؤول خليجي كبير، ويتعامل معها البعض على أنها الحبل السُري الذي يربط القاهرة بدول الخليج العربي، ويفسر العلاقة القوية بينهما التي صمدت أمام عواصف عدة مرت بها وتجاوزتها.
ويرى آخرون في العبارة ذاتها عنوانا فضفاضا مثيرا لا يحمل محتوى عميقا، لأن مصر التي تستخدمها بكثافة لم تقدم عمليا ما يثبت صحة الشعار، فإذا كانت غالبية دول الخليج تعتبر إيران مصدر تهديد رئيسيا لها فلم يصدر عن القاهرة ما يؤيد ذلك، واكتفت بمواقف وبيانات عامة، وبخلت بالتعبير صراحة عما يعكس الرؤية الخليجية.
من المؤكد أن لكل بلد حساباته المكتومة، والتصرفات غير المفهومة للبعض، والأوراق التي يحتفظ بها للمناورة، شريطة ألا ينعكس سلبا على حلفائه، وربما تكون هذه المساحات مفيدة للجميع في وقت معين.
ظلت العلاقات بين مصر ودول الخليج تسير على وتيرة دافئة، لم تبلغ حرارتها السخونة التي تنسجم مع حجم التطلعات المعلنة من الجانبين، أو تصل إلى مستوى البرودة المزعجة للطرفين، وفي كل مرة تظهر بوادر خلاف في أحد الملفات الإقليمية تأتي خطوة سريعة منهما أو أحدهما للاحتواء وضبط الدفة.
ينطوي الخلاف مع قطر على خصوصية لدول الرباعي العربي، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، لأنه ناجم عن تباين مع سياسات الدوحة التي لها علاقة بالمتطرفين والإرهابيين، كعنصر مستجد يهدد الأمن القومي، تضافر مع المخاطر الناجمة عن تصورات إيران وتركيا في المنطقة، ومنح الخلاف بعدا استراتيجيا، وجعل عملية تسويته بحاجة إلى إرادة لزوال مسبباته الرئيسية لتزول مسبباته الفرعية.
يجد الناظر إلى خارطة الأمن القومي لمصر أن الخليج العربي جزء أصيل فيها، وهناك جملة من العوامل التي تؤكد ذلك في مقدمتها التداعيات المتبادلة، ما يعزز مسألة الجغرافيا السياسية التي تلعب دورا مركزيا، فدول الخليج تعلم أن قوة مصر أو ضعفها له روافد متعددة عليها، بما يتجاوز قصة الشقيقة الكبرى المعنوية.
يطغى التشابك على محددات الأمن والسياسة، ومن السهولة أن تلقي بحممها على منطقة الخليج التي مهما بلغت خلافاتها مع القاهرة تحرص زعاماتها على تطويقها، كما أن أي خلل في المكونات الخليجية سوف تكون له ارتدادات على مصر، فمكمن الخلل يأتي غالبا من إيران، وبعد تحركات الدوحة أصبحت تركيا عنصرا ثانيا له، يتعاظم حال التقارب بينها، ويزعج بقوة مصر والخليج معا.
زاد المكون التركي من حجم القلق المصري، وفرض على صانع القرار تطوير رؤيته، فلم يعد يجابه خطرا إيرانيا محتملا، لأن اقتراب أنقرة من منطقة الخليج ورغبتها للتوسع في شرق البحر المتوسط وليبيا والقرن الأفريقي، أسهما في إيجاد محفزات للخروج من إطار التهديد الإيراني الذي خبرته مصر وتتعامل معه بطريقتها، حيث تحافظ على علاقاتها الخليجية وتبتعد عن الصدام مباشرة مع طهران.
مع السعي الحثيث من قبل دول عربية مختلفة لبلورة ترتيبات إقليمية تتحول فيها إسرائيل من مصدر تهديد مزمن إلى مصدر للأمن والاستقرار سوف تتغير الحسابات المصرية حتما، لأن قطعة من هذه الترتيبات موجهة نحو إيران.
من هنا يكمن المأزق، فقد باتت القاهرة مطالبة بالحفاظ على مصالحها الحيوية مع دول الخليج من خلال الرصيد الاستراتيجي الذي تمثله لها، كذلك التعامل مع المعطيات الجديدة بكل ما تمثله من أعباء وتحولات وتكاليف.
أحجمت مصر، حتى الآن، عن تبني مشروع كبير يؤكد دورها الإقليمي، لظروف داخلية ليس هناك داع لسردها، الأمر الذي منح إيران، ثم تركيا، فرصة جيدة للتغول في المنطقة، وهو ما جاء على حسابها بصورة رئيسية، في ظل خروج العراق وسوريا من المعادلة بفعل التطورات التي مرت بكليهما.
قد تكون القاهرة فهمت أوراق اللعبة مع طهران وأجادت التأقلم معها صعودا وهبوطا، وتحاشت التحول إلى سد عربي لمواجهتها، ووجدت في المراوحة التي تبنتها طيلة عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك صيغة مناسبة للممانعة وعدم الصدام، كي ترضي ما تبقى من غرورها، وتحافظ على دفء العلاقات مع دول الخليج.
تمكنت طهران وأنقرة من تبني مشاريع سياسية خاصة بكل منهما، ولم تقدم مصر، والدول العربية عامة، على تبني مشروع جامع، وحتى الوقوف السابق في مواجهة إسرائيل، إذا اعتبرناه مشروعا لاسترداد الأرض بدأ يسقط تدريجيا، منذ عقدت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل، والتي لم تكبلها في الدفاع عن الأراضي العربية المحتلة.
يبدو أن مصر أنهت ترددها الظاهر عقب موجة التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، وعلى استعداد لتميل نحو الانخراط فيه، لأن ابتعادها سوف يحملها عبئا استراتيجيا، ويفرض عليها اختيار طريق قد يفرض عليها تكاليف باهظة، فهي غير مستعدة لتبني مشروع يمكنها من جذب الآخرين إليه، فقطار السلام الذي ركبته دول خليجية تحرك ويسير نحو غاياته، ورهانات تعطيله محفوفة بالخطر.
تقود هذه التطورات إلى زيادة التشبث بالربط بين الأمن القومي المصري والخليجي، ما يحقق أهدافا للطرفين، فأي ابتعاد من القاهرة في هذه اللحظة يضاعف مخاوف تعزيز ميولها غير المباشرة لإيران إلى مباشرة، وكل ابتعاد عن دول الخليج يقلل من إمكانية إحداث توازن مع إسرائيل ويجعلها متحكمة في مفاصل بعض القرارات.
تمضي اللحظة الراهنة في طريق الحقيقة والمكاشفة في قضية مصر وأمن الخليج، فالقصة تتجاوز دغدغة المشاعر بعبارة من نوعية “مسافة السكة”، تحولت من مضمون عميق يدعم المصالح المتبادلة إلى فكرة يرى فيها البعض سخرية، مع أن مصر لم تدخل اختبارا جديا يثبت صحة أو فشل هذه العبارة. وفي الحالتين هناك حاجة ملحة لتطويرها عمليا وإزالة الالتباس الذي يصاحبها.
مرت العلاقات بين مصر ودول الخليج بمحكات ومطبات عديدة ونجت منها جراء حالة العقلانية الكبيرة، والقواسم المشتركة الممتدة والمتنوعة، لكنها تتطلب قدرا وفيرا من تجديد الدماء.
أعتقد أن ملفات إيران وتركيا، ثم منحى التطبيع، لا بد لها من صراحة في الحديث عنها، ولا تحتمل الاحتفاظ بهامش كبير من التباعد في العناوين والتفاصيل، فمصر لن تستطيع درء المخاطر القادمة إليها من منطقة الخليج دون تثبيت التعاون القوي مع دولها التي لن تتمكن من التصدي لتهديدات تتعرض لها دون التوافق مع القاهرة.
يحتاج الأمن القومي المصري ليكون جزءا صحيحا من الأمن الخليجي، والعكس، إلى جملة من الخطوات التي تنقل القضية من المربع العاطفي إلى الاستراتيجي وحزمة إجراءات متينة، فأي دولة تبحث عن مصالحها منفردة وتحقق مكاسب وقتية سوف تخسر هي والباقون، وكل استدارة من غير تفاهم تصطحب معها تداعيات قاتمة.