الى اللغة العربية..

ترجمة رواية كتبها مؤلفها برمش عينه اليسرى

المؤلف مع مساعدته في المستشفى

البوابة

الرواية الصادرة مؤخراً عن دار مسكلياني ذات عنوان يشدّ الانتباه “بذلة الغوص والفراشة” يليه عنوان فرعيّ “الرواية التي كتبت برمش العين اليسرى”، يبدو الأمر للوهلة الأولى مجازياً، محاولة لدفع مخيلة القارئ نحو تقنية للكتابة قد تبدو متخيّلة، إلا أن الرواية التي كتبها جون دومينيك بوبي عام 1997 وترجمها هذا العام شوقي برنوصي، لا تنتمي إلى الواقعية السحريّة أو الفانتازيا، بل هي قصة بوبي الذي فجأة خسر كل شيء، ولم يبق له إلا عينه اليسرى، التي ترمش، وعبرها كتب هذه الرواية، ليموت بعدها تاركاً لنا شهادة عن رجل خانه جسده، ولم يبق له إلا مخيلته.

من هو الكاتب:

عُرف الفرنسي جان دومينيك بوبي بكونه ممثلاً وكاتباً ورئيس تحرير مجلة “هي” الفرنسية الشهيرة، وفي أوج مسيرته المهنية عام 1995 وفي عمر الـ43 تعرض لجلطة دماغية بقي إثرها في غيبوبة لمدة 20 يوماً، ليستيقظ بعدها مشلولاً بشكل كليّ، لا يستطيع حتى الكلام، وذلك إثر متلازمة تركته حبيس جسده المشلول بالكامل، إلا أنه يمتلك كلّ وظائفه المعرفيّة، وبعد إدراك بوبي لحالته، قام بالتعاون مع مساعدته بكتابة رواية معتمداً على تقنية خاصة في الكتابة، عبر طرف رمش عينه اليسرى، حين تنطق مساعدته الحرف الذي يريد، وما إن نُشر الكتاب حتى فارق بوبي الحياة بعدها بيومين، مخلفاً وراءه طفلين تيفولي وسيليست.

في البداية ما يشد الانتباه في الرواية هو تقنية الكتابة، إذ يقول بوبي إنه كان “يكتب” كل فقرة في دماغه ويشكل معانيها ويحررها ثم يحفظها لحين وصول مساعدته التي تدون بجانبه، المثير للاهتمام أن كتابة كلّ كلمة تستغرق تقريباً دقيقتين، فبوبي كان دقيقاً في اختيار الكلمات، لأن الخطأ يعني المزيد من الجهد، إذ يشرح بوبي تقنية الكتابة، وآلية اختياره للحروف، ليغوص بعدها في اللغة ذاتها، طارحاً التساؤلات حول الأحرف والكلمات، فهو المحبوس بجسده أشبه بغواص داخل بدلة، لا يستطيع الحراك، يرى فقط ما تتيح له الوضعية التي تضعه فيها الممرضات في المستشفى، لكن عقله بقي كفراشة يتنقل من مكان إلى آخر، يقفز بين الكلمات ويختارها بعناية ليقول ما يريد.

يحدثنا بوبي من سجنه/بدلته عن حياته اليومية في المستشفى كمشاهدته لغروب الشمس وشروقها، أو حركة ذبابة حطت على وجهه، ثم التمرينات والعلاج الفيزيائي الذي يخضع له علّه يحرّك جسده ولو بضعة ملّيمترات.

الحياة تمضي من حول الكاتب طبيعية، وهو لا يمتلك إلا الظنون لفهمها لكنه مشاهد محايد دون أي رد فعل مرئي يتابع بعدها الحديث عن طقوسه ليخرج من سجنه، فهو يحلم ويستحضر ذاكرته، مستعيداً رحلات قام بها بكل تفاصيلها، وأحياناً يغادر جسده لزيارة واختبار أحداث قرأها أو عرفها، كزيارته لمتحف الشمع في باريس، الذي يجد فيه نسخة مطابقة لغرفته في المستشفى، فبوبي يعيد ترتيب ذاكرته وعالمه لغوياً، وكل ما اكتسبه من صور وأحداث وتوصيفاتها اللغوية يخضع لوضعيته الجديدة، هو أشبه بمن يطفو على ذاكرته ويعيد تشكيلها، وحين يريد أن يكتبها يختار منها المناسب لرمشه، فالكلمات في حالة بوبي ليست مجّانية، هي نتاج نحت مضن في الذاكرة والخيال.

حياة جديدة

نقرأ في الرواية أيضاً تغير العلاقات الاجتماعيّة والشخصيّة من حول بوبي، إذ يصف لنا احتفاله مع أطفاله بعيد الأب، لنراهم حول جسده المسجّى دون حركة، يلعبون أو يقرأون له أو حتى يمسحون اللعاب الذي يسيل من فمه، كما نقرأ كيفية تنقله وزيارته لباريس، وكيف يطلّ على الشوارع والأماكن التي يعرفها، هو فقط مشاهد الآن، فالحياة تمضي من حوله طبيعية، وهو لا يمتلك إلا الظنون لفهم ما حوله والتفكير في الاحتمالات المختلفة لما يفعله من يمر بهم، هو مشاهد محايد دون أي ردّ فعل مرئيّ.

تحولت الرواية عام 2007 إلى فيلم يحمل العنوان ذاته من إخراج جوليان شنابيل، وحاز الفيلم على الكثير من الشهرة والاعتراف العالميين، حاصداً جوائز في العديد من المهرجانات والفعاليات الدوليّة، إلا أنه نال أيضاً الكثير من الانتقادات من أصدقاء بوبي وأسرته وخصوصاً والدة طفليه وصديقته، فبالرغم من أنه مستمد من سيرة بوبي الشخصية وكتابه إلا أن هناك الكثير من المغالطات، فبوبي في الفيلم يمتلك ثلاثة أبناء لا اثنين، والأهم أن الفيلم يحوي قصة مبتدعة عن بوبي والذنب الذي يأكله طوال وجوده في المستشفى كونه ترك صديقه الصحافي مرة يركب الطائرة عوضاً عنه نحو لبنان، لينتهي الأمر بالأخير مختطفاً من قبل حزب الله، وما أثار الجدل أن بوبي في الكتاب لا يشير أبداً إلى ذلك بل يكتب فقط عن ندمه لأنه لم ير صديقه بعد إطلاق سراحه.