كتاب خلد ذكر صاحبة..

ابن عبد ربه الأندلسي وموسوعة العقد الفريد

غلاف الكتاب

البوابة

إنّ الحديث عن كتاب "العقد الفريد" هو حديثٌ عن نموذجٍ من نماذج الموسوعات العلمية الأدبية العربية الّتي ذاع صيتها، والّتي ينبغي أن يتعرّفها أبناء هذا الجيل، كغيره من موسوعات التراث العربي.

هذا الكتاب هو الذي خلّد ذكْرَ صاحبِه في الدنيا على مر العصور، فقد ألّفه صاحبُه في وقتٍ كانت فيه قرطبة (عاصمة الأندلس) في أوج ازدهارها.

فمَن هو صاحبُ موسوعة العقد الفريد؟

 اسمه ونسبه:

 هو الأديب الشاعر أبو عُمر شهابُ الدين أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ عبدِ ربِّهِ القرطبي الأندلسي، وهو أحد أعلام الأندلس المشهورين.

ولادته:

وُلِد في قرطبة عام 246هـ (860م)، وكانت قرطبة -ذات الطبيعة الساحرة- من أعظم المدن الأندلسية حضارةً ونهضةً علمية -آنذاك-، وهي تشبه بغداد حاضرة الدولة العباسية في ذلك الوقت، مِن حيث النهضة العلمية، والحضارة، والحركة التأليفية النشطة فيها.

نشأته:

نشأ ابن عبد ربه بين أحضان تلك الطبيعة الساحرة، فبعثت في نفسه حب الشعر فقاله وبرع فيه، وأظهر فيه صدى تلك الطبيعة، كما تتلمذ في تلك المدينة على طائفة من شيوخ عصره؛ كالخُشَني وابن وضّاح، ويحيى بن يحيى الفقيه، وبَقيّ بن مَخْلَد، وزرياب المطرب والموسيقي الشهير.

ويُذكَر أنّ ابن عبد ربه من روّاد فنّ الموشحات، حيث أخذه عن مخترعه مقدّم بن معافى القبري.

وقد لزم ابن عبد ربه قرطبةَ طوال حياته، ونهل من علوم الشرق الّتي زحفت إلى الأندلس عن طريق استقدام الأدباء والعلماء إليها، فتأثر بهم إلى حد كبير.

مؤلفاته:

لم يصل إلينا من مؤلَّفاته سوى هذا الكتاب "العقد الفريد"، وقيل إنه له مؤلفات أخرى ككتاب "طبائع النساء"، إضافة إلى ديوان شعره.

وفاته:

أصيب ابن عبد ربه في أواخر حياته بمرض الفالج، وتوفي بقرطبة سنة 328هـ (940م).

ماذا قيل عن المؤلِّف؟

قال عنه الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر": «إنه أحد محاسن الأندلس علمًا وفضلًا وأدبًا ومثلًا؛ وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة».

وقال عنه الحميدي في كتابه "جذوة المقتبس": «كان من أهل العلم والأدب، وله شعر كثير».

وقال عنه الفتح بن خاقان في كتابه "قلائد العقيان": «حجة الأدب، وإن له شعراً انتهى منتهاه، وتجاوز سماك الإحسان وسهاه».

وقال عنه ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان": «كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس».

وقال عنه ابن سعيد الأندلسي في كتابه "القدح المعلى": «إمام أهل أدب المئة الرابعة، وفرسان شعرائها في المغرب كله».

التعريف بكتاب العقد الفريد:

لقد بدأَ ابنُ عبد ربّه كتابَهُ بمقدمةٍ وضَّح فيها الدافع الذي دفعه إلى تصنيفه، وبيّن فيها مضمون الكتاب، والمنهج الذي سلكه.

دوافع التصنيف:

أما عن الدافع لتصنيفه؛ فقال: «وبعدُ، فإنّ أهلَ كلِّ طبقةٍ وجهابذةَ كلِّ أمّةٍ قد تكلّموا في الأدب، وتفلسفوا في العلوم على كلّ لسان ومع كلّ زمان، وأنّ كلّ متكلِّمٍ منهم قد استفرغ غايتَهُ، وبذَلَ جهده، في اختصارِ بديعِ معاني المتقدِّمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين، وأكثروا في ذلك، حتى احتاجَ المختصَر منها إلى اختصار والمتخيَّر إلى اختيار».

مضمون الكتاب:

وأما عن المحتوى فيقول: «وقد ألّفتُ هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الألباب، وإنما لي فيه تأليف الأخبار، وفضل الاختيار، وحسن الاختصار، وما سواه -يقصد المعلومات- فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثورٌ عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه».

وفي موضعٍ آخر في بيان المحتوى الذي يميّزُ كتابه عن الكتب السابقة يقول: «وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة، فوجدتها غير متصرفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار، فجعلت هذا الكتاب كافيًا شافيًا، جامعًا لأكثر المعاني الّتي تجري على أفواه العامة والخاصة، وتدور على ألسنة الملوك والسُّوْقَة، وحليت كل كتاب منها بشواهد من الشعر، تجانس الأخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها؛ ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته وبلدنا على انقطاعه حظًا من المنظوم والمنثور».

فالكتابُ كما هو واضح من تلك العبارات الّتي أوردها المصنِّف، والّتي تدل على تواضعه أيضًا = يُعَدّ من الموسوعات الأدبية التاريخية الاجتماعية، جمَعَ فيه مجموعة من النصوص الأدبية في الشعر والنثر، ما بين حكمة مأثورة أو قول مشهور أو مثل سائر، بالإضافة إلى طائفة من الأخبار التاريخية والاجتماعية وغيرها، وطبائع النفس والنوادر والمُلَح، وغير ذلك، وبهذا اندرجَ ضمن الموسوعات العلمية المشهورة.

تسمية الكتاب:

وفي مقدمة الكتاب أشار المصنِّفُ إلى عنوانه، والسبب في اختياره فقال: «وسميته كتاب (العِقد الفريد) لما فيه من مختلَف جواهر الكلام، مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتابًا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءًا، في خمسة وعشرين كتابًا، وقد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد».

هذه الفكرة عن التسمية الّتي ذكرها المصنِّف في المقدمة؛ تقطع كل ما دار من جدل حول العنوان، وتؤكِّد أن اسمه (العقد الفريد)، ومَن ادّعى أنّها من إضافات النُسّاخ فعليه أن يبرهن لذلك.

إن هذا العنوان قائم على التخييل والتشبيه، كما يؤكِّد ذلك أيضًا تقسيم الكتاب، وتسمية كل قسم منها، فقد تخيَّل ابن عبد ربه كتابه عِقدًا منظومًا، وسمّى كل باب باسْمٍ من أسماء ذلك العقد؛ والعقد في حقيقته يتكوّن من خمس وعشرين حبة ثمينة، لكل حبة منها اسم معروف، وأنفس حبات العقد هي الحبة الوسطى الّتي تسمّى (واسطة العِقد)، عن يمينها اثنتا عشرة حبة، وعن يسارها اثنتا عشرة حبة أخرى، وهي على هذا النحو مبدوءة من الواسطة عن اليمين ويقابلها مثلها عن اليسار: (المُجَنَّبَة، ثم العسجدة، ثم اليتيمة، ثم الدرة، ثم الزمردة، ثم الجوهرة، ثم الياقوتة، ثم المرجانة، ثم الجمانة، ثم الزبرجدة، ثم الفريدة، ثم اللؤلؤة). إلّا أنّ أسماء الحبّات من جهة اليسار أضافَ إليها كلمة (الثانية) فيقول: المُجَنَّبَة الثانية، ثم العسجدة الثانية، وهكذا...

ولا أحد ينكِر على المصنِّف تفرّده بهذا النظام الذي يدلّ على ابتكارٍ من وحي شاعريَّته، كما لا ينكِر أحدٌ أنه استقى أسماء موضوعاته من بعض الكتب السابقة وعلى رأسها كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة الدَّيْنَوَري.

منهجه في الكتاب:

أما عن المنهج الذي سلكه ابن عبد ربه في كتابه فيقول هو عنه: «تطلّبتُ نظائر الكلام، وأشكال المعاني، وجواهر الحكم، ودروب الأدب، ونوادر الأمثال، ثم قرنت كل جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابًا على حدته؛ ليستدل الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كل باب».

يشير هذا إلى جزء من المنهج الذي اتبعه المؤلف، وهو منهج علمي سديد، يعتمد على الترتيب المنطقي المنظم للأفكار والموضوعات، وجعلها في باب واحد، والحقيقة أن هذا المنهج الذي اتبعه قد جنبه الوقوع في عيب التكرار، الذي رأيناه في بعض المؤلفات، وكان ابن عبد ربه دقيقًا عندما وضع في اعتباره حال المتلقي ساعة تأليف الكتاب، إذ كان من دوافع اختيار ذلك المنهج -كما أشار إلى ذلك- تجنيب القارئ مغبة الجهد في البحث عما يريد، فجاءت أبواب الكتاب بمثابة الفهارس. وهذا الجزء من المنهجية يتعلّق بالجانب الأول وهو النظام.

ثم نمضي خطوة أخرى في طريق المنهج أيضًا تتعلّق بجانب آخر وهو اختيار النماذج، نلمحها في قوله: «وقصدتُ من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرًا، وأظهرها رونقًا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظًا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة». وهو بهذا يقصد من وجهة نظره الشخصية، فهو يعتمد على التأثر الذاتي، والتذوق الفردي، ويفصح عن تمتّعه بذوقٍ فنّيٍ رفيعٍ يَعتدّ به.

وجانبٌ ثالث من جوانب المنهج العلمي الذي استخدمه يشير إليه أيضًا بقوله: «وحذفتُ الأسانيد من أكثر الأخبار طلبًا للاستخفاف والإيجاز، وهربًا من التثقيل والتطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتصاله، ولا يضرها ما حذف منها»، فهو لا يكثر من ذكر الأسانيد عند إيراد الأخبار؛ حتى لا يمل القارئ أو يطول الكتاب.

وهذه الطريقة الّتي أشار إليها رغم أنها تُيَسِّر على القارئ الوصول إلى المعلومة، إلا أنها لا تفي بالغرض، فأحيانًا يقرأ الإنسان خبرًا من الأخبار، فيرى أنه في حاجة ملحّة إلى معرفة أصل ذلك الخبر، وتتبُّع رجاله، وفي هذه الحالة لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الذي نقلَ عنه، فلا ينفعه الاعتماد على هذا المصدر لأنه حذَف الأسانيد. فقد تصبح هذه النقطة مأخذًا عليه.

وهكذا نشعر أنّ وراء هذا المنهج فكرًا ناضجًا، وشخصيةً تتصف بالذكاء والخبرة والتحضّر، وتجمع بين عدّة ثقافات متنوعة، فقد ذكَر المنهج كاملًا في كتابه حتى لا يترك القارئ في حيرة للبحث عن منهجه، وهو كما رأينا منهجٌ علميّ سديد، يتصل بالترتيب، ويتصل باختيار النماذج وكيفية توظيفها توظيفًا حسَنًا، حتى تتّسم وتتّسق مع الأفكار، أو الموضوعات الّتي يعرضها، ثم لم يحرِم المتلقّي مِن مراعاة ظروفه من حيث التخفيف، وتقديم المعلومة في وقتٍ وجيز؛ حتى لا يملّ أو يجهد نفسه.

قيمة الكتاب:

أما بالنسبة لـ(قيمة كتاب "العقد الفريد") في ميدان الأدَب والثقافة؛ فإنّ الكتاب يمثّل موسوعةً ضخمة في الثقافة العربية، ودائرةَ معارفٍ تكاد تكون مكتملة الحلقات من الأخبار والنصوص الأدبية، ويُعَدّ أوّل كتاب في الأندلس من حيث الإفاضة والشمول والتنوّع، وكثرة التمثّل عن أدب المشارقة، كما يُعَدّ أيضًا مصدرًا مهمًّا لمن يريد معرفة حياة قدماء العرب من النواحي الأدبية والاجتماعية والسياسية وغيرها.

وعلى الرغم من أنّ المؤلِّف لم يترك جانبًا إلا وأشار إليه في كتابه، إلا أنّ السمة الأدبية سيطرت عليه من أوله حتى آخره في عَرض المادة العلمية بأسلوبٍ أدبي جيّد، والاستشهاد في كل موقف بما يستجاد من الأدب، فصاحبه أديب بارع.

ومما يؤكِّد أهمية الكتاب أيضًا: إشادة العلماء به، ونقلهم عنه حين تأليفهم، كالأبشيهي في "المستطرف"، والبغدادي في "خزانة الأدب"، وابن خلدون في "المقدِّمة"، والقلقشندي في "صبح الأعشى" وغيرهم.

ومما يُذكَر حول قيمة الكتاب -أيضًا-: قيام ابن النشا باختصاره، وكذلك ابن منظور صاحب "لسان العرب"، وهناك مِن المحْدَثين مَن صنَعَ منه مختارات حسنة يقرّبها إلى القراء.

ويُذكَر أن محمد شفيع، أستاذ اللغة العربية بجامعة البنجاب الهندية، قام بإصدار كتاب في جزأين عن "العقد الفريد"، أحدهما فهرس تحليلي للنسخ المطبوعة في مصر، والثاني تصحيحات وتعليقات ومقارنات بينهما، كما أشار إلى ذلك كارل بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي".

مؤاخذات على الكتاب:

يُشار إلى أن أبرز المؤاخذات التي أُخِذَت على الكتاب، تتمثل بموقف الصاحب بن عبّاد -عندما وصل إليه الكتاب وقرأه- فقال فيه: «هذه بضاعتنا رُدّت إلينا». وهذا الموقف الرافض يمكن معارضَته بِكَون هذا الكتاب قد تضمَّن -كما تقدَّم- أشعارَ ابن عبد ربه الأندلسي -نفسِه- وبعضَ ما يتعلَّق بالأدب الأندلسي، كما أنّه ضمّ إلى تصنيفه هذا بعض التأليف والنقد، حيث نقَدَ ابن قتيبة في رأيه في الشعوبية، ونقَدَ المبرِّد في بعض مختاراته من الشعر، إضافة إلى كونه قد قسّم كتابه ورتّبَ مادته ترتيبًا مبتَكرًا لم يُسبق إليه.

طبعات الكتاب:

وفي خاتمة الحديث عن كتاب "العقد الفريد"، يُذكَر أنه له طبعات عديدة، كان أوّلها: طبعة بولاق سنة (1292هـ/1875م).

يقول د.سعيد الورقي في كتابه "مصادر التراث العربي": «تم حديثاً اكتشاف عدد من مخطوطات "العقد" في مكتبات المغرب لم تكن معروفة من قبل، الأمر الذي يجعل من المفيد إعادة تحقيق الكتاب في ضوء ما تتضمنه هذه المخطوطات من جديد».

ويُنظَر حول ذلك أيضًا ما كتبه حازم عبد الله في "مجلة آداب الرافدين" (العدد السابع) بعنوان: العقد الفريد بين المشرق والأندلس.