سياسي شيوعي..

في غياب حسقيل قوجمان.. العيش لفكرة!

نظرة لم تكترث لما حصل في العالم من تبدل

رشيد الخيُّون

رحل السياسي الشيوعي والكاتب في النظرية الاشتراكية حسقيل قوجمان عن عمر ناهز الثامنة والتسعين. لا يتذكر قوجمان من هذا العمر المديد، أنه كان خارج الحلم في قيام الاشتراكية، فمهما حاولت الحديث معه عن ذكريات ليس فيها سجون وصدامات ومطاردات لا تحصل على كلمة واحدة.

بعد قيام دولة إسرائيل، التي لم يكن معها، بشكل من الأشكال، ففكره الاشتراكي يرفض قيام نظام رأسمالي، ولا يهمه إن كان يهوديا وفق ديانته، اضطر إلى مغادرة بغداد، والالتحام بأسرته، إخوته وأخواته هناك، ثم ترك وقضّى حياته يعيش في لندن.

كان بين أمرين إما أن يشهر إسلامه من أجل البقاء وإما الهجرة، فوجد تغيير الديانة الذي عُرضت عليه كثمن، سيبدأ بالخلاف مع فكرته نفسها، فكيف يمارس من يتعارض مع ما عاش من أجله، لكن الأشد عليه كان عرض ذلك عليه من رفاقه أنفسهم، فعندها طرح أمامهم ما تعنيه المادية الديالكتية والمادية التاريخية، فترك العراق ورفاقه أيضا. هذا ما سمعته منه وقرأته له في كراس عن تلك الذكريات.

يعجب المتابع لكتابات حسقيل قوجمان من إصراره على فكرة أن ستالين والاشتراكية توأمان. ولم يكترث لما حصل في العالم من تبدّل، وببلد ستالين ونظامه نفسه. ويعجب المتابع له من الردود التي يرد بها على المعترضين عليه.

عندما تستمع لقوجمان لا تركز على كلماته بقدر ما تنبهر بقوته وإصراره، فالاشتراكية عنده، وبقيمها الستالينية، قادمة عاجلا أم عاجلا. كان ضد الغزو الأميركي للعراق، وهو بطبيعة الحال، لم يكن حريصا على النظام السابق، لكنه كان يرى ما لم يره الآخرون، ولما قيل: سيدخل الأميركان ويخرجون وتشيد الديمقراطية، وربما الاشتراكية! ضحك قائلا: وهل ترون أنهم سيخرجون، وسيسمحون بهذا الحلم!

عندما تستمع لقوجمان لا تركز على كلماته بقدر ما تنبهر بقوته وإصراره، فالاشتراكية عنده، وبقيمها الستالينية، قادمة عاجلا أم عاجلا.

كان ضد الغزو الأميركي للعراق، وهو بطبيعة الحال، لم يكن حريصا على النظام السابق، لكنه كان يرى ما لم يره الآخرون، ولما قيل، وكنت حاضرا،: سيدخل الأميركان ويخرجون وتُشيد الديمقراطية، وربما الاشتراكية! ضحك قائلا: وهل ترون أنهم سيخرجون، وسيسمحون بهذا الحلم!

كنت شاهدا على لقائه بزميل السجن معه، وكان يشبه لقاء أهل الكهف بأهل المدينة. كان حينها عمره (89 عاما) وزميله يعقوب شمعون (80 عاما)، أي بعد ستين حولا. سجنا معا إثر وثبة كانون 1948، واعتقال رفاقهما يوسف سلمان يوسف وحسين محمد الشبيبي وزكي بسيم (أُعدموا 1949).

تجربة السجن


سألني شمعون بعد وصوله لاجئا، من العنف الجاري ببغداد بعد (2003): هل تعرف حسقيل قوجمان، قالوا إنه يعيش بلندن. ولما سألته وما علاقتك بحسيقل؟ قال: إنه زميلي بالسجن، ولم أره منذ 1948؟

هاتفتُ قوجمان، وتذكر ذلك الشاب حينها الذي كان يبلع الثامنة أو العشرين عاما، الذي لما أُطلق الرصاص على المتظاهرين فوق الجسر (1948) كان ممسكا بيد قيس الآلوسي، المقتول برصاص الشرطة، وله ولآخرين سمّي بجسر الشهداء!

حضرت لقاء الرفيقين شمعون وقوجمان في دار شقيق حسقيل يعقوب قوجمان، في ذلك البيت الكبير الذي جمع عددا من الأُسر المتفقة على الشيوعية، فتذكرا الحوادث والمواقف بأدق التفاصيل، من الوجوه والمزاجات وحتى الأماني.

عندما كانا يمران إلى ساحة السجن ويلوحان بأيديهما تحية وإجلالا لرفيقهما فهد يوسف سلمان يوسف، وهو مكبل بالسلاسل ينتظر تنفيذ الإعدام مع رفيقيه! تحدثا عن الخيانات والتراجعات القديمة، بداية من مالك سيف وآخرين.

قال شمعون لقوجمان منشطا ذاكرة رفيقه: هل تتذكر عضويتي في الفرقة الموسيقية التي أسستها أنت في السجن. أومأ له بالإيجاب، ثم أخذ قوجمان يسرد كيفية صناعة العُود، الذي غنى ورقص على أنغامه العرب والأكراد، كلٌ أداها بلغته. وأن عزيز محمد قبل انشقاقه (في بداية الخمسينات)، كان يؤدي أغاني كردية على عزف أوتاره. إلا أنهما استدركا، وكأنهما لا يريدان تحمل مثلبة: قبل انشقاقه!

تألف عُود قوجمان، في السجن، من عصا (الربد) المسحاة، وفردة القبقاب الخشبي، وخيوط. قال قوجمان متباهيا: على موسيقى هذا العُود غنى المئات ورقصوا!

تذكر قوجمان كيف بدأ اهتمامه بتأريخ الموسيقى العراقية والمقامات، حتى عُدَّ اليوم مؤرخها والعارف بأنماطها، وله كتاب في المقام العراقي، إلى جانب قاموس عبري عربي، ومؤلفات نظرية في الاشتراكية، وذلك بعد الخروج من العراق، إلى إيران ثم إسرائيل، ليبقى هناك فترة قصيرة يلتقي بأهله الذين سبقوه، بعد ملاحقة الشرطة السرية والعلنية.

وجد نفسه، وهو يصحب أخته إلى سوق شعبي بإسرائيل، أمام صالح الكويتي، الملحن العراقي الشهير، وهو يبيع أواني الطبخ.

تأريخ الموسيقى العراقية

صدفة جمعت حسقيل قوجمان بصالح الكويتي، وهو يبيع أواني الطبخ في أحد أسواق إسرائيل، حولت قوجمان إلى أحد أبرز مؤرخ للموسيقى العراقية (لوحة إدوارد هيدو)

حزن قوجمان عندما لاحظ أخته، وقد اصطحبته معها إلى السوق، تساوم الفنان صالح على سعر “الجدر” (هكذا لفظ مفردة قدر الطبخ)، وهي لا تعرفه مَنْ يكون سوى بائع قدور، ولا عيب في المهنة، لكن مهنة الكويتي أخرى.

هزّه المشهد في أن يكون مصير هذا الفنان وأخيه داوود بسوق شعبي. وهما المؤسسان لمدرسة المهن للأطفال العميان ببغداد، ثم مدرسة الموسيقى لدى اليهود (1933)، ولحنا ما لحنا من أغان مازالت مفاخر في الطرب العراقي.

عندها قرر قوجمان الكتابة عن تاريخ الموسيقى، أرّخ لصالح وداوود، وبقية الملحنين والموسيقيين، وقراء المقام، حتى أصبح هذا الضرب شغله الشاغل، مع عدم نسيان انتمائه الفكري الثوري، والموقف الحاسم ضد الإمبريالية العالمية على حد عبارته!

مازال قوجمان وشمعون، بعد فراق ستين عاما، يتطابقان بالأفكار، ويعدّان ما يحصل للعالم هو مؤامرة إمبريالية، وأن كل ما كتب عن دكتاتورية ستالين وعنفه مجرد تلفيقات من قبل المنحرفين!

لا يريد قوجمان، ولا رفيقه شمعون، النظر في واقع الحال، ولا تجدهما، مهما حاولت اعتراضهما بالحقيقة، يعترفان بحسنة أو فضل لعدوتهما بريطانيا، التي تظاهرا وسجنا لمعاداتها، كونهما ضيفين بربوعها الآن! بل قال شمعون: إنها تضيفنا بمردودات نفطنا العراقي!

أجدها مفارقة بليغة أن يسجن شمعون وقوجمان، وهما المسيحي واليهودي العراقيان، قبل ستة عقود، وتمر تلك العواصف، اليسارية واليمينية، ويلتقيان وهما لاجئان في ظل عاصمة صرفا كل حياتهما في ضديتها.. لندن! ولا يجدان ببلادهما ملاذا من أرذل العمر!

أتذكر أزعجته فوضى، في إحدى المناسبات، فقلت مداعبا له: إنهم الكادحون، وأنت كادح، فأجابني: أنا لست كادحا أنا أنتلجنسي، أي مثقف، فكن دقيقا بإطلاق المصطلحات!

رأيته مرة في أحد المطارات يبحث عن رفيقة عمره وهما مسافران إلى السويد، ولما حاولت التهوين عليه، قال: ستة وسبعون عاما ونحن معا. وها قد رحل وهي التي ظلّت تبحث عنه