أنتم نحن..

التعاون والموازنة في الأخذ والعطاء

لولا المشاركة الوجدانية لمشاعر بعضنا البعض لكان الكون نسيا منسيا

يمينة حمدي

صادفت في حياتي مواقف عديدة دفعتني في مرات كثيرة إلى التساؤل عن السبب الذي جعل ثقافة التعاطف مع الآخر تكاد تصبح شيئا من الماضي في عصرنا الحالي، رغم أن احترام الآخر وعدم التعدي على حقوقه والتضامن معه تمثل لغة بناءة، فهي تساهم بمختلف تعبيراتها المختلفة في إشاعة ثقافة التسامح والأدب والاحترام كقاعدة عامة في المجتمع، وترسخ مبدأ “عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك” بين النشء، إلا أن النزعة الفردية والتركيز بشكل كامل على الذات إلى جانب التلاعب والتفوه بالأكاذيب وسلك الأساليب الملتوية من أجل تحقيق الأهداف والاحتياجات الشخصية، أصبحت كلها خصالا شائعة جدا في تعاملات الناس اليوم.

أذكر هنا موقفا بسيطا تعرض له أحد أقاربي عندما أجرى بعض الترميمات في منزله، فقد كان أكثر لطفا مع عامل البناء الذي طلب الحصول على أجره مسبقا، فلم يكن قريبي من الممانعين، خاصة أن العامل وعده بإنهاء العمل المطلوب منه في الإبّان، كما أظهر براعة فائقة أثناء الأيام الأولى التي اشتغل فيها، ما جعل قريبي يستجيب لطلبه رغم أن زوجته حذرته من ذلك، ونصحته بأن يعطيه نصف الأجر مسبقا والباقي بعد أن ينهي العمل المطلوب منه، وفعلا صدق حدس الزوجة وخاب ظن الزوج، فبمجرد أن حصل على أجره كاملا، ترك جزءا من الشغل المتفق عليه غير مكتمل، كما أصبح يتعمد عدم الرد على مكالمات قريبي ورسائله الإلكترونية، وبعدها بفترة وجد حجة أخرى ليحصل بها على مقابل إضافي نظير العمل المتبقي في المنزل، مدعيا أنه لم يكن من ضمن الاتفاق الأولي.

هذا مثال على انعدام الصدق والنزوع إلى الكذب والتحايل في المعاملات الاجتماعية اليومية بين الناس، ما يعني أن العبرة قد أصبحت بالقدرة على المراوغة، ولم يعد هناك أي معيار ثابت للثقة أو المصداقية.

ويعد هذا المثال رغم بساطته نموذجا، لأنه يصور موقفا ينتهك قاعدة مهمة من قواعد السلوك بين الناس، إذ بات الكثيرون يسعون لتحقيق استفادة ما على حساب شخص آخر.

أما الأسوأ من هذا المثال، فهو أن البعض من الأشخاص تجمدت مشاعرهم تجاه مآسي الغير، ولم تعد تؤثر فيهم حتى الصور والمشاهد المؤلمة والدامية للأشخاص الذين وقعت لهم حادثة على سبيل المثال.

ولا شك أن أغلبنا قد مر بموقف مماثل، فلنفترض مثلا أن زميل العمل، قد تعرض لشيء سلبي في حياته، فإن بعض زملائه، عوض أن يتعاطفوا معه ومع همومه وآلامه، يصيبهم شيء من السرور اللاإنساني بما أصاب زميلهم!

وهناك قصص كثيرة عن علاقات اجتماعية باتت تخضع لنظام اجتماعي متشذرم ومتأزم، ساهم فيه قادة سياسيون فاسدون وشكّلته بيئات أسرية واجتماعية متطاحنة وأسهمت فيه الكراهية والحقد القابع في أعماق القلوب، ما جعل الناس يعيشون حياتهم، وكل منهم يكيل بمكيالين للآخر، من دون أن يفكر معظمهم في ما لو كانوا هم مكان الآخرين أو يشعروا بمدى فظاعة الحياة لأولئك الذين أدمتهم الحروب والمجاعات.

وهنا تُطرح العبرة القديمة المتعلقة بـ”الطبع في مواجهة التطبع″، وعما إذا كان الإنسان يولد بهذه الخصال، أم أنه يكتسبها ويطوّرها مع مرور الوقت؟

البعض من الخبراء يعتقد أنها مزيجٌ يجمع بين الاثنين. فبينما تشير بعض الدراسات إلى أن هناك خصالا فطرية مرتبطة بتركيبتنا الحيوية، مثل مستوى الجينات والهرمونات، التي تؤثر على نمونا وتؤثر في شخصياتنا، تُظهر أبحاث أخرى أن هناك عوامل بيئية واجتماعية تسهم في وجود هذه الصفات لدى البعض، مثل طريقة تصرف الوالديْن، وكذلك الأمور التي تحدث في المجتمع والشارع والمدرسة.

ولكن عالم النفس الأميركي جون برودوس واطسون يقول “أعطني اثني عشر طفلا أصحاء، سليمي التكوين، وهيّئ لي الظروف المناسبة لعالمي الخاص لتربيتهم وسأضمن لكم تدريب أيٍّ منهم، بعد اختياره بشكلٍ عشوائي، لأن يصبح أخصائيا في أي مجالٍ؛ ليصبح طبيبا، أو محاميا، أو رساما، أو تاجرا أو حتى شحاذا أو لصا، بغض النظر عن مواهبه وميوله ونزعاته وقدراته وحرفته وعرق أجداده…”.

والحقيقة التي أراد واطسون أن يخلص إليها هي أن الإنسان يكيّف نفسه حسب بيئته من خلال ما يتبناه من أنماط سلوكية وتصرفات من الأشخاص المحيطين به في الأسرة والمجتمع، وبالنظر إلى الممارسات والاتجاهات الاجتماعية التي أصبحت سائدة اليوم، ليس من الغريب أن يتعلم الأطفال والشباب النزعة الفردية والانشغال بتلبية متطلبات ذواتهم، بكل الطرق الاتكالية والانتهازية ولا يقيمون للعلاقات الإنسانية وللقيم والأخلاق وزنا، وهذه السلوكيات تعد أحد انعكاسات تغير الاتجاهات الفكرية للمجتمع، إذ إن الأسرة والمجتمع ككل لا يهتمان بواجبات الشباب حيال المجتمع الذي يعيشون فيه بقدر ما يهتمون بإنجازاتهم الفردية.

وأعتقد أن التعاون والموازنة في الأخذ والعطاء، وعدم قهر الآخرين والتعدي على حقوقهم، مبادئ إنسانية تطورت عبر الزمن، كوسيلة دفاعية عن المصلحة الجماعية، ولولا هذه المبادئ لما كنا عرفنا معنى الأمن والأمان وتذوقنا أطعمة من بلدان مختلفة، ولا قرأنا كتبا من حضارات متعددة ولا تعلمنا لغات أجنبية ولا تلاقحت أفكارنا مع الثقافات الوافدة علينا، ولولا المشاركة الوجدانية لمشاعر بعضنا البعض لكان الكون نسيا منسيا.