تقديم مقاربات سياسية ناجحة..

ماهي فرص الحلول الأفريقية في أزمتي ليبيا والسودان؟

ملامح معنوية أكثر منها مادية

محمد أبوالفضل

تمكنت الكثير من المنظمات الأفريقية من القيام بأدوار إيجابية في عدد من الأزمات المنتشرة في ربوع القارة. بعضها أدى إلى حلول نهائية في أزمة تقرير مصير جنوب السودان، والبعض الآخر تعثر وواجه عراقيل في منتصف الطريق في أزمات الصومال وإريتريا وإثيوبيا مثلا.

في كل الأحوال لم تكن تصورات التسوية بعيدة عن أعين وتدخلات قوى دولية مختلفة، ساهمت في الحل أو وضع العراقيل. فلم تعد هناك أزمة في أي إقليم منفصلة عن اهتمامات القوى الكبرى، بالسلب أو الإيجاب، بحكم التشابكات التي أصبحت عليها التفاعلات الدولية، وتمدد شبكات المصالح لما هو وراء الحدود الجغرافية التقليدية.

جددت قمتان أفريقيتان عُقدتا في القاهرة يوم 22 أبريل، السؤال القديم – الجديد؛ هل تستطيع الدول الأفريقية حل أزماتها بمفردها، وهل هذا يعني تحولا في إدارة الأزمات الإقليمية، أم هو رسالة سياسية لمن يهمهم الأمر؟

أشارت القمتان إلى أولوية حل الأزمتين الليبية والسودانية على الطاولة الأفريقية، وتقديم وسائل الدعم اللازمة لهذا الغرض، لقطع الطريق على من أبدوا استعدادا لتوظيفهما من خارج دول المنطقة، ومنع القفز عليهما للتسخير والتوجيه في ناحية تلبّي أطماع قوى محددة.

جاء الطرح الجديد بعد أن أدت التدخلات الخارجية، من دول أفريقية وغير أفريقية، إلى تعقيد الأزمة الليبية الممتدة منذ ثمانية أعوام، وتزايدت عقب بدء عملية تحرير طرابلس من قبضة المتطرفين والميليشيات والتي يقوم بها الجيش الوطني الليبي منذ 4 أبريل الجاري.

الاتحاد الأفريقي في حالة لا تمكنه من فرض إرادته في أزمتي ليبيا والسودان، ويحتاج إلى إعادة صياغة الكثير من أدبياته كي يتمكن من تقديم مقاربات سياسية ناجحة

تحاول دول مثل تركيا وقطر وإيطاليا فرملة هذا التقدم من خلال ضخ المزيد من المعدات العسكرية للمتشددين والكتائب المسلحة، وتدشين حلول سياسية تضمن تفوقهم على حساب قوى وطنية مناهضة لهذه التوجهات، ما يفضي إلى منع التوافق حول حلول للأزمة المتفاقمة.

كما أن عزل الرئيس السوداني عمر حسن البشير في 11 أبريل أدى إلى خسارة بعض الدول لرهانات إقليمية كانت تعول على وجوده، وتسعى دول مثل تركيا وقطر أيضا إلى الحفاظ على بقايا النظام السوداني من خلال دعم رموز تابعة للحركة الإسلامية أملا في تجنب الخسائر السياسية مستقبلا، وزيادة حدة عمليات التكسير في جسد المجلس العسكري الانتقالي، بذريعة رفض الانقلابات وتحريض المجتمع الدولي عليه، وإحداث فتنة بين المتظاهرين لإرباك المشهد السياسي العام، وهو ما يخلّف تداعيات قاتمة على دول الجوار، ويدفعها إلى التمسك بـ”أفْرَقة” الحل، ووقف عمليات تدويله لصالح جهات لها مآرب خبيثة في السودان.

وجدت مصر، بصفتها رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي، استخدام هذه النافذة مسألة ضرورية لتقليم أظافر قوى من خارج القارة تريد العبث بمصير كل من ليبيا والسودان تحت ستار الشرعية الدولية ورفض الانقلابات العسكرية، والسعي لحث القوى الكبرى على رفض ما يجري من تطورات مدروسة في البلدين.

نجحت قمة ليبيا في توفير غطاء لعدم إدانة العمليات التي يقوم بها الجيش الوطني تحت قيادة المشير خليفة حفتر، وإدانة ما تقوم به العصابات المسلحة، والتأكيد على أن الحرب بين من يريدون الأمن والاستقرار ومن يريدون الفوضى والانفلات. وهي النقطة التي جعلت غالبية المواقف الدولية تميل ناحية الفريق الأول.

وتم توفير غطاء إقليمي آخر في قمة السودان للمجلس العسكري الانتقالي، تمثل في التوصية بالسماح بترتيب أوضاع البلاد في غضون ثلاثة أشهر بدلا من 15 يوما. وهي ثغرة مهمة ساعدت على دحض حجج الدول المتضررة من عزل البشير، والتي طالبت بالتعجيل بتسليم السلطة لحكومة مدنية دون تهيئة جيدة للظروف السياسية، ومن غير توفير العمق الذي يسمح بالانتقال السلس للسلطة.

ساعد تمديد المدة الزمنية على تفويت الفرصة على القوى التي سعت إلى التحريض المباشر على الخرطوم من باب إدانة الانقلابات العسكرية. فإذا كان الاتحاد الأفريقي المعروف برفض هذا الاتجاه منح كل هذا الوقت، فلا حاجة إلى مزايدات وتدخلات من جهات خارجية.

يبدو التعويل على الحلول الإقليمية عملية صائبة نظريا وتكتسي بمنطق جذاب، لكن على المستوى العملي تفتقر للحجج التي تدعمها، فلا توجد أزمة في أي بقعة من العالم تقريبا، خالية من التدخلات الدولية. ودرجت بعض الدول على اللجوء إلى دس أنوفها في عدد من الصراعات والنزاعات للدفاع عن مصالحها ومحاولة الحصول على مكاسب، وربما تكبيد قوى منافسة خسائر باهظة.

تشير معطيات الصراع الجاري في ليبيا إلى ذلك بلا مواربة. فهناك قوى إقليمية ودولية منخرطة في الأزمة منذ بدايتها، ولم يستطع الاتحاد الأفريقي تحريك ساكنا طوال الفترة الماضية، بل تنحى وتركها في عهدة قوى متباينة، وبدت بالنسبة له كأنها أزمة من خارج الإقليم، لكن عندما تم الاحتياج إليه لعب دورا مفيدا كأداة للردع السياسي لدول تحاول تسخير الأزمة لخدمة أغراضها. ربِما تتعثر المحاولة في تحقيق نتائج ملموسة وواضحة، غير أنها كفيلة بإجبار الأطراف الخارجية على فهم مضمونها الخفي.

يختلف الحال في السودان عن ليبيا، من حيث المدة الزمنية وطبيعة أهداف القوى المتداخلة، ودرجة المصالح الخارجية، والبيئة التي يدور فيها الصراع السياسي. ويتفقان في الأهداف النهائية والتي تتعلق بالحفاظ على دور حيوي للإسلام السياسي.

وهي ذاتها الأهداف التي جعلت الدول الأفريقية النشطة تتبنى فكرة تحييد القوى الخارجية في الوقت الراهن، فثمة فرصة جيدة لاستعادة ليبيا والسودان من براثن الدول التي ترعى الجماعات الإسلامية بأطيافها المختلفة، وهو العامل الذي أوجد توافقا بين الدول الأفريقية، ويمكن أن يصحح بعض الأخطاء السابقة التي أغرت قوى من خارج الإقليم بالتدخل في ليبيا والسودان، أو غيرهما.

أشارت القمتان إلى أولوية حل الأزمتين الليبية والسودانية على الطاولة الأفريقية، وتقديم وسائل الدعم اللازمة لهذا الغرض، لقطع الطريق على من أبدوا استعدادا لتوظيفهما من خارج دول المنطقة

تحصد توجهات الحلول الإقليمية جوانب من عناصر القوة من تأييد الدول الداعمة لهذا التوجه. وفي حالتي ليبيا والسودان لم يكن القادة الأفارقة الذين حضروا قمتي القاهرة بإمكانهم طرح تصورات للتسوية على قاعدة إقليمية من دون امتلاك تقديرات مؤيدة لهذا التوجه من قبل قوى دولية تناصبهم الرغبة في رفع أيادي تركيا وقطر عن ليبيا والسودان، وتميل إلى الحد من ظاهرة تضخم المتطرفين والتنظيمات المسلحة، والقبول بتعظيم دور الجيوش الوطنية باعتبارها قادرة على جلب الأمن وبالتالي الحد من التدخلات الخارجية.

استفادت قمتا القاهرة من الأجواء الدولية المواتية، وقبلت الدول المشاركة فيهما بهذا الطرح، من دون تعريف محدد للآليات اللازمة لتنفيذه. وهي عملية غاية في الصعوبة. فالاتحاد الأفريقي تخلف مبكرا عن الأزمة الليبية ولن يستطيع اللحاق بركبها بعدما وصلت إلى هذا المستوى من التعقيد، وباتت في عهدة الأمم المتحدة رسميا.

كما أن أزمة السودان لا تزال تحتفظ بخصوصيتها الداخلية، والاقتراب منها رسميا يكون محصورا في إطار توفير الأجواء المناسبة أو فرض ضغوط سياسية، ولا توجد الآلية التي يمكن الاعتماد عليها للتدخل وسط تحفظات بعض القوى المحلية بالتوصية الأفريقية.

إذن الخطوة التي أقدمت عليها الدول الأفريقية تنطوي على ملامح معنوية أكثر منها مادية. فالاتحاد الأفريقي في حالة لا تمكنه من فرض إرادته في أزمتي ليبيا والسودان، ويحتاج إلى إعادة صياغة الكثير من أدبياته كي يتمكن من تقديم مقاربات سياسية ناجحة، تتجاوز الخطابات الرمزية التي يصعب تجاهل تأثيراتها ورسائلها حاليا، لأن القوى المحلية الفاعلة في ليبيا والسودان بحاجة إلى دفقة تدعم التوجهات الوطنية، والدول الساعية لفرض حلولها بحاجة إلى من يتصدون لها علانية.