متحف البحث عن الحياة الأبدية..

جيش التيراكوتا.. أعجوبة صينية من الطين

تضاهي الأحجام الطبيعية لجيش الإمبراطور في ذلك الوقت

صالح البيضاني
كاتب وباحث وسياسي يمني، عضو مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، عضو الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.

بمحض الصدفة البحتة، عثر مجموعة من المزارعين في مطلع العام 1974 أثناء انهماكهم في حفر بئر في إحدى ضواحي مدينة شيان عاصمة الصين القديمة، على طرف خيط لما بات لاحقا إحدى عجائب الصين الأثرية التي أماطت اللثام عن جزء مهم من تاريخ الصين والمعتقدات والأساطير التي رافقت أباطرته وتحولت إلى واحد من أكثر المقاصد السياحية نشاطا وجاذبية.

في العام 246 قبل الميلاد أمر الإمبراطور الأول تشين شي هوانغ (259-210 ق.م) ببناء جيش عظيم من الطين يحاكي جيشه الحقيقي ليرافقه في رحلته الأبدية بعد الموت، وشرع الآلاف من الفنانين المهرة ببناء ذلك الجيش الذي تجاوز عدد أفراده سبعة آلاف مقاتل وفارس بكامل عتادهم الحربي ترافقهم الأحصنة والعربات.

وقد أمر الإمبراطور أن تحمل التماثيل سمات حقيقية من حيث الأطوال والأحجام ورتب الجنود وملامحهم الشخصية التي لا يتشابه فيها اثنان من التماثيل.

وبحسب المؤرخ الصيني سيام كيان، الذي يوصف بأنه مؤرخ البلاط الملكي في عهد سلالة هان الحاكمة، فقد أمر الإمبراطور الشاب تشين شي هوانغ ببناء الضريح بعد وقت قصير من تسلمه العرش وشارك أكثر من 700 ألف عامل في هذا المشروع الضخم.

متحف الجيش الطيني يضم جيشا عرمرما من تماثيل الفرسان والخيول الجنائزية المدججة بالأسلحة البرونزية

وقد حولت الحكومة الصينية مقبرة الإمبراطور والثلاث حفر التي تحيط به، وتضم جيش التيراكوتا والتي تعني بالصينية “تماثيل الفرسان والخيول الجنائزية”، إلى متحف يستقبل الملايين من الزوار كل عام، ويقصده الزعماء ورؤساء الدول ونجوم الفن والسينما عند زيارتهم للصين.

ويقول كونغ شيانغ دونغ نائب مدير متحف الجيش الطيني في شيان لـ”العرب” إن التماثيل التي تم اكتشافها في شهر مارس من العام 1974 تحولت في وقت لاحق إلى متحف في شهر أكتوبر1979 يضم مقبرة أول إمبراطور في تاريخ الصين.

وتحتوي المقبرة وفقا لدونغ على ثلاثة مواقع أو حفر رئيسية تم اكتشافها بالتوالي وتحمل أرقاما مختلفة حسب التاريخ الاستكشافي الأول والثاني والثالث لها.

وتضم هذه المواقع حوالي سبعة آلاف تمثال لجيش الإمبراطور تشين شي هوانغ الذي رافقه في رحلته الأبدية بعد الموت حيث تم دفن هذا الجيش مع الإمبراطور.

ويشير نائب مدير المتحف في حديث لـ”العرب”، إلى أن هذا الاكتشاف يحمل أهمية خاصة بالنظر

للدور الكبير والمحوري الذي لعبه الإمبراطورتشين شي هوانغ في تاريخ الصين القديم، حيث وحّد جميع الدويلات الموجودة في الصين، كما أن النظام الإداري الذي بناه أثر على تاريخ الصين حتى الآن.


وعن تفاصيل هذا الاكتشاف يقول دونغ لـ”العرب”، “يتكون الموقع من ثلاث حفر كبيرة للغاية، حيث تبلغ مساحة الحفرة الأولى أكثر من أربعة عشر ألف متر مربع، ومساحة الحفرة الثانية تقريبا ستة آلاف متر مربع، وتضم كل حفرة الآلاف من التماثيل الكبيرة التي تضاهي الأحجام الطبيعية لجيش الإمبراطور في ذلك الوقت، ويبلغ ارتفاع التماثيل 1.8 متر في المتوسط، وقد صنع العمال هذه التماثيل استنادا إلى صور أناس حقيقيين تم تصوير وجوههم وملامحهم الحقيقية”.

وعن الطريقة التي تمت بها صنع التماثيل يضيف دونغ، “تم اعتماد طرق خاصة لصنع هذه التماثيل، حيث أنها كانت تصنع يدويا وليس بطريقة القوالب الجاهزة، فكل تمثال مختلف عن الآخر، وقد صنعت هذه التماثيل بحسب أشكال وأحجام ورتب الجنود والفرسان والضباط القدماء، وهؤلاء الجنود كانوا من أنحاء مختلفة من الإمبراطورية، وهو ما يعني اختلاف الملامح وتباينها بشكل كبير”.

ويضيف نائب مدير المتحف، “في بداية استكشاف هذه التماثيل، وجدنا أن هناك ألوانا على أجسام هذه التماثيل، ولكن بسبب الكوارث الطبيعية وبعد تعرضها للتخريب من الناس لم يتبق سوى عدد قليل من التماثيل الملونة، وتعد كيفية الاحتفاظ بالألوان الموجودة على هذه التماثيل مشكلة كبيرة واجهناها، ولكن وبعد الجهود الدؤوبة التي استمرت لأكثر من عشر سنوات، استطعنا حماية الألوان الموجودة على التماثيل في المختبرات، وأعتقد أن زوار هذا المتحف ربما سيلمسون آثار الترميم على هذه التماثيل بشكل أفضل قريبا”.

جيوش التيراكوتا كانت تحمل أسلحة برونزية احتفظت بحالتها الجيدة، وحيرت العلماء الذين وضعوا فرضيات عديدة لأسباب ذلك، فمنهم من يقول إن الصين اعتمدت تكنولوجيا فائقة التقدير في طلاء هذه الأسلحة، ومنهم من يقول إن التربة المحيطة بالأسلحة يمكن أن تكون مسؤولة عن الحفاظ عليها بحالتها الجيدة.


وبالرغم من أن العدد الإجمالي كبير للتماثيل في هذه الحفر والذي يناهز سبعة آلاف تمثال، إلا أن نائب مدير المتحف يشير إلى العثور بين وقت وآخر على مواقع جديدة ومقابر جانبية أخرى عدا المقابر الثلاث الرئيسية، حيث تتجاوز مساحة المقبرة الإمبراطورية وفقا لدونغ أكثر من 56.25 كيلومترا مربعا.

ويضيف نائب مدير المتحف قائلا، “حتى الآن، وجدنا أكثر من 10 مواقع أثرية للمباني القديمة، وعثرنا أيضا على أكثر من 600 مقبرة جانبية لهذه المقبرة الرئيسية التي تم إدراجها في قائمة التراث الأثري العالمي لليونسكو، نظرا للأهمية البالغة التي تكتسبها من خلال تسليطها الضوء على ملامح خاصة وخفية في تاريخ الصين القديم والنظام السياسي في ذلك الوقت، كما تعكس تقدم وتطور الفنون في الصين القديمة والتي عبرت عنها جودة النقوش والفنون في تلك الحقبة المهمة التي شهدت توحيد الصين”.

ويتابع دونغ قائلا، “إن الصين قامت بعرض بعض تماثيل الجيش الطيني المكتشفة في المقبرة في نحو 30 دولة، كما تم تنظيم جولتين متنقلتين لبعض مقتنيات المتحف داخل الصين”.

واشار إلى وجود برنامج سنوي لعرض بعض مقتنيات المتحف خارج الصين بمعدل ثلاث إلى خمس دول. وتقع المقبرة الأساسية التي تحتوي على رفاة الإمبراطور تشين شي هوانغ على مسافة 1.5 كيلو متر من المواقع الثلاثة التي تضم جيشه الطيني.

ووفقا لنائب مدير متحف المقبرة الإمبراطورية فإن كل إمبراطور في الصين كان يبدأ فور اعتلائه العرش ببناء المقبرة الخاصة به والتي عادة ما تستغرق وقتا طويلا قد يستمر لسنوات، ويعود هذا التقليد إلى معتقدات قائمة على فكرة البعث والحياة الأبدية التي يبدأ فيها الإمبراطور مرحلة جديدة يجب أن يتمتع فيها بذات المزايا التي كان يحظى بها في الحياة الدنيا، إضافة إلى الاعتقاد السائد آنذاك بضرورة أن يترافق الإمبراطور حراسته أو جيشه أحيانا لمحاربة أعدائه الذين سيطاردونه في الحياة الأخرى بعد الموت للانتقام منه.

كل إمبراطور كان يبدأ فور اعتلائه العرش ببناء المقبرة الخاصة به وهو تقليد لمعتقدات قائمة على فكرة البعث والحياة الأبدية

ويلفت دونغ إلى أن الجيش الطيني للإمبراطور تشين شي هوانغ ليس الأول في حضارة الصين، حيث أن هناك العديد من أباطرة الصين قاموا بدفن تماثيل مشابهة في مقابرهم، لكن ما يميز هذه المقبرة هو العدد غير المسبوق من التماثيل والمعدات بما في ذلك الآلات الموسيقية، والمعدات الأخرى، حيث تضم المقبرة أكثر من 130 عربة يجرها أكثر من 500 حصان، إضافة إلى 150 حصانا آخر مخصصة للفرسان.

ويشير دونغ إلى أنه يمكن معرفة الكثير من تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية من خلال الكتابات الموجودة على بعض التماثيل والأسلحة.

ولا يستبعد نائب مدير المتحف وجود حالة تأثير متبادل بين الحضارة الصينية والحضارات الأخرى التي توجد فيها معتقدات متشابهة في ما يتعلق بطقوس الدفن والحياة الأبدية، ومن ذلك الحضارة المصرية القديمة.

يقول دونغ، “إن الصين كانت طوال تاريخها ترتبط بصلات ثقافية وإنسانية مع حضارات الشرق مثل الحضارة الفرعونية، وربما تكون بعض المعتقدات قد تأثرت ببعضها البعض، ومن ذلك العادات القديمة في الصين التي تقتضي دفن الملوك مع كامل احتياجاتهم، اعتقادا بالحياة الأخرى بعد الموت”.

ويضيف، “ولكن في النهاية لا توجد حتى الآن أدلة دامغة على أنه كانت هناك علاقة مباشرة بين مقابر الصين ومصر”.


ويلفت دونغ إلى الاهتمام العالمي الذي يحظى به المتحف الذي استقبل أكثر من مئة مليون زائر من كافة دول العالم منذ افتتاحه، حيث استقبل في عام 2018 أكثر من 8.5 مليون زائر في تصاعد ملحوظ لعدد الزوار، الأمر الذي يضاعف من حجم التحديات بحسب نائب مدير المتحف.

قال لـ”العرب”، “إن القائمين على المتحف باتوا يواجهون العديد من الصعوبات والتحديات لحماية التماثيل، فضلا عن الصعوبة المتفاقمة في استقبال هذا العدد المتزايد من الزوار”.

وأضاف أن “أصعب شيء بالنسبة لنا، هو كيفية حماية الآثار الطينية، وأيضا بعض التماثيل الملونة، نظرا إلى أن هناك أسبابا كثيرة ربما تلحق الضرر بهذه التماثيل، ومنها زيادة عدد الزوار الذي يعد أحد هذه الأسباب وهو ما دفعنا في هذه المرحلة إلى التفكير في تقليل عدد الزوار، وأيضا حماية الآثار وزيادة إجراءات سلامتها عبر استخدام التكنولوجيا الحديثة.

وتحدث للعرب قائلا، «عملنا أيضا على إبطاء وتيرة استخراج هذه التماثيل، من الحفر والالتزام بالمبدأ المتمثل في استخراج التماثيل بشكل جزئي والقيام بترميمها ن ثم نقوم بعد ذلك باستكشاف تمثال آخر».

واضاف، «نقوم أيضا بإعادة ألوان كل تمثال لكي يستمر لوقت أطول، كما قمنا بالتحكم في درجة الحرارة وأيضا الرطوبة في قاعات العرض لأن المدينة شيان تقع في شمال غرب الصين، والجو هناك دائما جاف، إلى جانب وجود تقلبات كبيرة في درجات الحرارة، لهذا السبب قمنا بإنشاء المباني الجديدة باستخدام بعض الأجهزة والمعدات الخاصة للتحكم في درجات الحرارة والرطوبة بشكل مستقر، وكل هذه الإجراءات تزيد نسبة الحماية لهذه الآثار التاريخية”.